الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في انتظار زوج أمي

في انتظار زوج أمي
16 ديسمبر 2010 20:17
تفتحت عيناي على الدنيا ولا اعرف إلا أمي، سيدة أعمال، ثرية، نقيم في فيلا فاخرة، فيها الخدم والسائقون والحراس، كلهم يأتمرون بأوامرها وما إن تشير إلى شيء حتى يتسابقون لإحضاره، حتى لو لم يكن من اختصاصهم، النعيم من حولي يغرقني، كل هؤلاء يدللونني ويتبارون في إسعادي ويشاركونني في الألعاب الكثيرة المنتشرة في الحديقة، وفي غرفتي، وفي كل مكان اذهب إليه، وما عليهم في البداية إلا إحضارها، ثم بعد الانتهاء من اللعب يعيدون ترتيبها ووضعها في أماكنها المخصصة لها، كلهم ساهموا في تربيتي اكثر من أمي، فهذه تقوم بإطعامي، وتلك بإعداد الحمام، وتغيير ملابسي لأنني صغيرة ولا استطيع القيام بذلك بنفسي، وهذا يتولى مهمة الأرجوحة، أما أمي فلا أراها إلا في أوقات متباعدة لانها تستيقظ في الصباح الباكر، وتعود متأخرة في المساء، قد يمر يومان أو ثلاثة أو اكثر ولا نلتقي، فهي تذهب إلى عملها وأنا نائمة وتعود ايضا وأنا نائمة، واستمر هذا الوضع حتى عندما بلغت الرابعة والتحقت بالمدرسة. أمي دائما مشغولة لانها تدير أعمالها التي لا أعرف ماهيتها، كل علمي انها تمتلك مكاتب وشركات ولديها أموال واستثمارات وعملاء ومشاريع ولا افهم من ذلك كله شيئا، ولا يعنيني الأمر كله فأنا طفلة افكر في الشكولاته واللعب والمدرسة، لكن مع هذا ابحث عن امي فلا اجدها، انني في اشد الحاجة إليها، اريدها أن تتناول معي طعام الإفطار وان تعد لي السندويتشات في الصباح قبل ان ينطلق بي السائق الخاص الى المدرسة، احتاج لقبلة منها على وجهي، أود لو كانت هي التي تمشط لي شعري، وتتأكد من حسن هندام ملابسي، رغم ان كل صغيرة من هذه الأشياء وغيرها هناك من يقوم بها خير قيام وبلا تقصير لكني كنت اشعر بالشيء المهم ينقصني ومهما حاولت أن اسهر وأقاوم النوم كي أراها فإنه يغلبني وأنام قبل ان تعود، واحيانا لا الوم إلا نفسي واعتقد أنني أنا المذنبة لأنني لم أتمكن من تحقيق هدفي. أصابت الأرقام والحسابات والأموال أمي بالجفاف في العواطف، فكانت حادة، حاسمة في كلامها وتصرفاتها وجلستها، وسيرها وحتى تعبيراتها، ويظهر هذا كله على قسمات وجهها. كل شيء في حياتها اكتسى بهذا الطابع ومن الطبيعي ان ينطبق هذا عليّ في معاملتها معي وان كنت اشعر انني احبها اكثر من اي شيء في الدنيا، وأتمنى أن أكون كذلك عندها، ومع انني التمس لها الاعذار، فإنني ينقصني الكثير وأنا في حاجة إليها والى أحضانها ومشاعرها والى ان اشعر بأناملها تتحسس وجهي وتمسح على شعري، ولا استبعد مع ذلك أنها تريد أن تفعل ذلك، لكن انشغالها بأعمالها يحول دون ذلك، واستشعر هذا وهي توصي كل الخدم والعاملين بأن يقوم كل واحد منهم بمهمته نحوي وتؤكد أن يكونوا بجواري وان يستجيبوا لمطالبي، وان يحرصوا على الاستجابة لكل ما أريد. حاولت أمي ان تسخر كل إمكاناتها المادية لي، فأغدقت عليّ الملابس الفاخرة التي تستوردها من الخارج خصيصا ولدي سيارة فارهة وسائق خاص، مهمته أن يوصلني إلى المدرسة، وينتظر حتى نهاية اليوم الدراسي ليعيدني إلى البيت الكبير الذي انعم بكل محتوياته وحدي، فلا احد غيري أنا وأمي يدخله، ولا اعرف لنا أقارب أو اهلا غير خالي الذي يزورنا في المناسبات احيانا، وليس دائما وربما لا تستغرق زيارته اكثر من ساعة، فكما اعلم أو هكذا اخبروني انه هو الاخر مثل أمي له مشروعاته واستثماراته وانشغالاته، ولا اعرف إن كان متزوجا أم لا، وما عدا ذلك فقد كانت هذه الفيلا التي هي اقرب للقصر ملكي وحدي. أرى زميلاتي وزملائي في المدرسة يتحدثون عن الآباء والأمهات، لكن لم يدر برأسي ان الناس كلهم متشابهون وجميع الصغار لهم أب وأم، وأنا لا اعرف إلا أمي واستيقظت من نومي ذات ليلة منزعجة على أصوات عالية هي اقرب للشجار، ليتأكد منها أن هناك خلافا كبيرا وخرجت من غرفتي ووجدت أمي وخالي ورجلا غريبا يتحدثون في أشياء لم افهمها، فقد كنت حينها في العاشرة من عمري، واخرجني هذا الرجل الغريب من دهشتي وهو يدعوني إليه ثم يضمني إلى صدره ويقول «أنا أبوك» سالت دموعي لانني اكتشفت انه يمكن ان يكون لي أب مثل الآخرين، وكان هذا اهم واكبر اكتشاف في حياتي كلها، والغريب انه فاجأني بسؤال مباغت هل تريدين أن تأتي معي؟ أومأت برأسي بالإيجاب، فتهللت أساريره وانتفخت اوداجه كأنه حقق نصرا كبيرا لا اعرف سببه، بينما كان حال أمي على النقيض، وهي تهدده وتتوعده بأن ذلك لن يكون ولن يحدث إلا على جثتها. انتهى الحوار، وبدأت افهم وليتني ما فهمت، فقد عرفت أن أبي وأمي انفصلا بالطلاق بعد عام واحد من زواجهما، وبعدما انجباني واشتد الخلاف بينهما وسافر أبي إلى الخارج وتركني لامي من دون ان يراني إلا هذه المرة ولم يسأل عني بل ازعم انه لا يعرف اسمي، بل اصل الى حد التأكيد انه لا يعرف اسمي لانه لم ينادني به عندما رأني ولم اسمعه منه، وقد أكون مبالغة في ذلك، المهم أن الأمر في تلك الليلة كان يتلخص في ان لابي مطلبا عند امي، ولم اعرف ما هو مطلبه، ولم يخبروني عنه، فالحوار بيننا مقطوع من الاصل، وجاء هذا الاب الزائر الغريب ليساوم امي، إما ان تستجيب لمطلبه، وإما ان يستردني واتخدني ورقة ضغط عليها، لكنها في النهاية رضخت لمطلبه وحققت له ما اراد مقابل ان تحتفظ بي، وعلى حد تعبيرها - أنني كل ما خرجت به من الدنيا - تأكدت حينها من أن أمي تحبني فعلا. منذ هذه اللحظة انقلبت حياتي رأسا على عقب، لأنني اكتشفت هذا الأب الذي عاد لحياتي بشكل مكثف كأنه يعوضني عن الحرمان كل هذه السنين، ومع انني لست بحاجة الى ملابس أو العاب أو هدايا أو أموال لكنه أغرقني هو الاخر بهذه الأشياء كلها، وبجانبها ارسل هاتفا محمولا حديثا يكلمني كل يوم تقريبا،حاجياته كان لها عندي مكانة وأهمية خاصة، أتحدث مع كل واحدة منها كأنني اتحدث معه، واراه امامي، ان ما مضى لا يحسب من عمري، لم اعش إلا هذه الأشهر الستة التي عاش فيها أبي داخلي، الى ان انقلبت حياتي مرة اخرى، وإن شئت فقل عادت إلى ما كانت عليه، فقد انقطعت اتصالات ابي وهداياه، التي ما كنت بحاجة إليها وإنما لمعانيها، اختفى كما كان من دون سابق إنذار أو سبب فلا اعرف لماذا ظهر ولماذا اختفى، حاولت الاتصال به مرات ومرات حتى فقدت الأمل تماما، اصابتني حالة نفسية سيئة، تطورت إلى أن أصبت بالكآبة والعزوف عن الطعام والشراب، كرهت المدرسة واعتزلت الجميع واصابني الهزال وتطور الأمر إلى أمراض عضوية وحملوني إلى اكبر مستشفى خاص، ولأول مرة تبقى امي بجانبي لعدة اسابيع، قد لا تصدقون أنني تمنيت لو أظل مريضة، اذا كان ذلك سيبقيها بجواري، وتمارضت حتى بعد تماثلي للشفاء لاحقق ذلك الهدف الى ان اكد الاطباء انني تعافيت تماما ويجب ان اعود لمدرستي وبيتي. التحقت بالجامعة وأنا ارى الحسد في عيون زميلاتي وزملائي، فليس بينهم مثلي، رأوا انني في نعيم، وهم لا يعرفون إلا الظاهر، السيارة والملابس والمظهر والاموال التي كان لهم منها نصيب، كل واحد وواحدة منهم يتمنى ان يكون مكاني وانا اتمنى ان اكون مكان اي واحدة، بين اب وام يهتمان بشؤوني ومشاعري، احلم بأن أنعم بدفء الأسرة وتجمعها وترابطها، اريد ابا يوجه، واما تربي، واخوة حتى لو كانوا مشاكسين، وعلى عكس السواد الأعظم من زميلاتي اللاتي عشن قصص حب في هذه الفترة، لم يجرؤ واحد من زملائي على الاقتراب مني لان الجميع يرون انني في برج عاجي وليس بمقدورهم الصعود اليه، لذا اختصروا الطريق من اوله، فلم اجد لي معجبا أو محبا، رغم جمالي الفائق الذي كان يثني عليه الجميع، وكان هذا سببا اخر يخيف الشباب مني لانهم يرون انهم لا يستحقونني ولا ادري من اين جاءتهم تلك القناعات والأفكار، وأنا ارى انني فتاة عادية. تخرجت في الجامعة والتحقت بوظيفة عادية لمجرد قتل الوقت، وحتى في محيط عملي كان مالي وجمالي سببا كافيا لابتعاد من حولي عني لأنهم ايضا بحساباتهم يرون انني نجم في السماء من الصعب أو المستحيل الصعود اليه، إلى أن تعرفت على شاب يكبرني بعامين، في وظيفة مرموقة، ربطتنا صداقة بريئة، التقينا عدة مرات، لاول مرة اشعر بقلبي يدق، وجدت فيه الحبيب والصديق والزوج المخلص، فلم اتردد في الاعتراف له بما يحفظ كرامتي، وهو الاخر صارحني بحبه، لكنه يرفض ان يتزوجني، لانني ثرية جميلة ويرى ان ملابسي الخليعة وسفوري مثل بنات اوروبا، لا يليق بفتاة شرقية فكان بهذه الكلمات اول شخص في الدنيا يلفت انتباهي إلى جزء مهم في حياتي وهو مظهري ولم ادرك ذلك من قبل ولم ادرك انني غير محتشمة، إلا الان، انه الوحيد الذي تجرأ وفاتحني في هذه المسألة، ولم اكن غاضبة من صراحته، بل كنت سعيدة بها ايما سعادة، لأنني تأكدت من أنها في الأساس من قبيل غيرته عليّ، ويريد تقويمي، وتحويلي الى طريق الالتزام. كانت كلماته مؤثرة ومقنعة وصادفت هوى عندي واستعدادا لتقبل الفطرة السليمة، وبدأت ارتدي الملابس الطويلة وشرعت في ارتداء الحجاب، والغريب أن أمي - غير المحجبة - والتي كانت ملابسها مثلي من قبل عارضت هذه الخطوة بحجة تأجيلها لما بعد الزواج، وذلك جعلني اتعجل خطوة الارتباط، ففاتحته، وكان الزلزال الذي هز أركاني، انه مازال يرفضني زوجة له، لاختلاف المستوى الاجتماعي والمالي بيني وبينه وبين أسرتي وأسرته، قال لي وهو صادق فيما يقول أنني جوهرة بل اثمن من كل الجواهر ولن يجد مثلي ولن يسعد مع غيري لكنه لا يستطيع ان يحقق لي هذا المستوى الذي اعيش فيه، فأكدت له أنني راضية بالنزول إلى مستواه - إذا جاز التعبير- وقانعة بحياته وستكون سعادتي معه بأي شكل وفي أي مكان وقال ان هذه فورة مشاعر لن تصمد مع الواقع والمعاناة الحياتية ورفض ان يتزوجني بلا أدنى التزام، وان يطلقني إذا وجد مني خلاف ما قلته له، قال: لسنا فئران تجارب! تركني واختفى، لكنه مازال يعيش داخلي، وقد تجددت آلامي وأنا المح في عيني أمي رغبة في أن تتزوج وقد تخطت الخمسين بعدما صبرت ونسيت ذلك اكثر من ربع قرن هي كل عمري، ولا ادري إن كان سيأتي زوجها ليقيم معنا أم ستتركني وتذهب لتقيم معه -كالعادة- لا أدري.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©