الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبواب التعاسة

أبواب التعاسة
22 سبتمبر 2011 21:44
(القاهرة) - كان تعليم البنات في منطقتنا من المحظورات أو يرقى إلى المحرمات لأن الناس محافظون لدرجة تفوق الالتزام والعادات المتشددة إلى تقاليد الجاهلية الأولى التي كانت تعتبر المرأة كلها عاراً لا يجوز أن يطلع عليها أحد حتى الأقارب، ولذلك لم أجد في بلدتي قبلي أي فتاة متعلمة. كل النساء كن أميات حتى النخاع وللحق أيضاً كان تعليم الأولاد نادراً بسبب الفقر والتخلف فأنا أحدثكم عن سنين بائدة تزيد عن النصف قرن ولأن جدي كان حاصلاً على قسط من التعليم الأولي الذي كان في أيامه يعد من الشهادات المعتبرة استطاع بها أن يحصل على وظيفة معلم، لذلك كان يدفع أبي دفعاً ويحثه حثاً ليعلمنا نحن بناته السبعة اللاتي رزق بهن قبل أن يرزق بولدين بعد ذلك، فكانت أسرتنا مكونة من تسعة إخوة وأخوات وفي ذلك الزمن أيضاً لم يكن هذا العدد كبيراً للأسرة، بل كان هناك العديد من الأسر من أقاربنا وغيرهم يصل عدد أفرادها أضعاف أسرتنا. لم تكن مصروفات المدارس حينئذ كبيرة مثل هذه الأيام لأن الدراسة مجانية وقد بُنيت مدرسة في قريتنا جعلت جهود جدي تنجح في إقناع أبي ليوافق على تعليمنا، خاصة أن جدي يزورنا كل يوم جمعة ليساعدنا في استذكار دروسنا، ونحن نحاول أن نجتهد لننجح وبشكل عام لم تكن الدراسة تمثل عبئاً على أبينا إلا بعد أن أصبحنا جميعاً في سنوات دراسية متلاحقة وللحق فإن عزيمة أبي لم تفتر، بل إنه ضحى بكل ما يملك من أجل إتمام تعليمنا وقد فعل فعلة غير مسبوقة يدخل بها موسوعة جينز العالمية لأنه أولاً كان أول رجل يسمح لبناته بالتعليم والالتحاق بالمدارس ثم ضحى بالأراضي التي يملكها وباع أجزاء كبيرة منها ليواجه النفقات التي كانت تتزايد وتثقل كاهله وهو ليس له دخل إلا من تلك الأراضي. أنا أكبر إخوتي وأخواتي، وبالتالي كنت أول من تخرج منهم وحصلت على شهادة متوسطة. كانت الوظائف كثيرة ومتوفرة وميسرة ولا تحتاج إلى أي مجهود أو عناء في البحث عنها، بل كانت متنوعة ويمكن الاختيار من بينها وأيضاً كانت الدولة تعلن كثيراً عن وظائف شاغرة، وكان الموظف من أفضل الفئات دخلاً ومستوى اقتصادياً وبعد تخرجي بأشهر معدودة اخترت العمل في وظيفة معلمة في المدرسة القريبة من بيت أبي. كنت حالة جديدة في المجتمع الذي أقيم فيه ومحظوظة بكل المقاييس إلى أقصى حد يمكن أن يتخيله بشر لأنني أول فتاة تتعلَّم وتعمل، ولكن على الجانب الآخر لا أدري إن كان ذلك ميزة أم عيباً في طريق زواجي لأن أبي أولاً اشترط أن يحصل على نصف راتبي مقابل ما أنفقه عليَّ من أموال، وثانياً لا يمكن أن أتزوج إلا من شاب متعلم مثلي ليكون بيننا تكافؤ وتفاهم، وهذان الشرطان كانا السبب في عدم إقبال بعض الشباب لخطبتي وعدم وجود العريس المناسب فتأخر زواجي إلى حين. عندما بلغت الخامسة والعشرين كانت الفتيات غير المتعلمات اللاتي يصغرنني بسنوات طويلة قد تزوجن وأنجبن والتحق أبناؤهم بالمدارس واستبد القلق بي وبأسرتي وكادت نعمة تعليمي أن تتحوَّل إلى نقمة من هذا الجانب حتى تقدم لي شاب يكبرني بخمس سنوات وبيننا فوارق اجتماعية شاسعة لأنه من أسرة بسيطة ولا يملك إلا راتبه وهو أيضاً يعمل معلماً وإن كان قد وافق على شرطي الأول بأن يحصل أبي على نصف راتبي إلا أنه هو الآخر اشترط أن نؤسس بيتنا مناصفة ومن راتبينا ووافق أبي لأنه لن يدفع شيئاً إلا أن ذلك جعل فترة خطوبتنا تمتد لحوالي ثلاثة أعوام ما جعلها مشوبة بالمشاكل والخلافات تارة بيني وبينه وتارة بينه وبين أبي ووصلت في بعض الأحيان إلى حد فسخ الخطبة لولا تدخل البعض للإصلاح والمصالحة. أما المشكلة التي لم أحسب لها حساباً ولم أشعر بها إلا بعد الزواج وكانت المعضلة الكبرى التي واجهتني من بداية زواجنا أنني أقمت في بيت واحد مع أمه وأخته العانس كانوا ثلاثتهم يريدونني زوجة مثل كل الزوجات الأميات ربات البيوت المتفرغات أقوم بالطبخ والتنظيف وأيضاً رعاية الحيوانات التي في المنزل بجانب عملي والاستفادة من راتبي وأنا لم أعتد على هذه الأعمال في بيت أبي لذا لم أرفضها تكبراً وإنما لأنني لا أجيدها ولا أحسنها ثم إنني تعلمت لأتخلص منها ومن متاعبها ولي مهام أخرى في الحياة لا تقل أهمية وهكذا عرفت الخلافات طريقها إلينا مبكراً جداً وأنا التي اعتقدت أنني زوجة متعلمة لرجل متعلم وتوقعت أن نكون نموذجاً للتفاهم والاستقرار وقدوة في التعاون والمودة والرحمة إلا أن ذلك كله تبدد كالدخان في الهواء ولم يبق له أي أثر وكنت مثل الزوجات كثيرات الغضب اللاتي تغضبن كثيراً وأعود إلى بيت أبي كل عدة أشهر حتى يتدخل كبار العائلة ويعيدونني مرة أخرى بعد أن يتعهد زوجي بعدم تكرار الأخطاء إلا أننا كنا نجد مشكلات جديدة تعكر صفو حياتنا. خمس سنوات مرَّت على تلك الزيجة التي لم تعرف غير النكد والهم والاختلاف استجدت عليها مشكلة أكبر، وهي أننا لم ننجب حتى الآن وكان لابد من التوجه إلى الأطباء وتطلب ذلك مبالغ كبيرة تفوق إمكاناتي وإمكانات زوجي وبعد أن أنفقنا كل ما نملك بين أيدينا من أموال واضطررت إلى بيع كل مجوهراتي وطلب زوجي مني أن أتوقف عن إعطاء أبي نصف راتبي وأن أوجهه إلى مصروفات العلاج والدواء وقد ترددت كثيراً في هذا الطلب رغم حاجتي الماسة لهذا المبلغ لأنني أعرف أبي وتمسكه وإصراره على الحصول عليه لأنه يعتبره حقاً لا يجوز التفريط فيه، بل كان أحياناً يحاول أن يحصل على راتبي كله لأنه يرى أنه تحمل نفقات تعليمي وحده وليس لزوجي أي حق فيه، وهو بذلك يخالف كل الأعراف السائدة حينئذ وحتى الآن من أن أموال الزوجة ملك لها وهي التي تتصرف فيها كما تريد إما أن تكون لها ذمتها المالية المستقلة والخاصة أو تنفقها على بيتها، ولكن بعدما لم أجد سبيلاً إلا ذلك طالبته صراحة بألا يطالبني بذلك وكما توقعت وجدتني أمام ثورة عارمة وبركان ثائر لا أستطيع مواجهته ولا الوقوف أمامه وعندما أخبرت زوجي كان رد فعله هو الآخر زلزالاً هز أركاني، وهكذا كنت بين المطرقة والسندان عاجزة عن فعل أي شيء، خاصة بعد أن أصر كل منهما على موقفه وزاد زوجي من تصعيد الموقف وقام بطردي من البيت وهو يحذر ويشترط ألا أعود إليه إلا وقد تحقق له ما أراد وبقائي في بيت أبي لم يحرك عنده ساكناً وتحملت وحدي النتائج والتبعات. وفشلت هذه المرة جهود الكبار والحكماء في تقريب وجهات النظر ولم يتمكنوا من إصلاح ذات البين ولوَّح زوجي بالطلاق وهو يتشبث برأيه، وهنا وجد أبي ضالته المنشودة ورأى أن ذلك في مصلحته لأنه سيحصل على راتبي كله وليس نصفه، لذا أصر هو الآخر على موقفه وزادت فترة بقائي في بيت أبي لأكثر من ستة أشهر دون الوصول إلى حل بعد أن وصلت كل الجهود والمفاوضات إلى طريق مسدود ولم يكن هناك من سبيل إلا الطلاق ووقع أبغض الحلال، ورغم أنني لم أكن أحب زوجي بالمعنى المعروف وأنني كنت راضية به إلا أنني حزنت حزناً كبيراً وتعرضت حياتي لشرخ واسع واهتززت هزة قوية كانت فوق قدرتي واحتمالي. لم يكن أمامي إلا أن أنشغل بالعمل رغم أنه كان سبب تعاستي، لكنه كان عزائي ومتنفسي الوحيد وإن لم يكن قادراً على علاج جروحي ومداواتها، خاصة هذا الوصف البغيض الذي أصبحت أحمله والتصق بي فلا يذكر اسمي إلا ويقال معه أنني مطلقة ورغم أنني ما زلت في عنفوان الشباب ولم أتجاوز الثلاثين لم أكن راغبة في تكرار تجربة الزواج لأنها كانت قاسية إلى حد أنها جعلتني أعزف عنه تماماً، فما عانيت فيه كان أكثر بكثير من الاستقرار، وأيضاً فقدت الأمل في زيجة أخرى ولا أريد أن تكون حياتي مجرد تجارب معرضة للفشل قبل النجاح أو يتم وضعها تحت الاختبار، وما زاد من أحزاني أن الذين يطلبون يدي الآن هم من الأميين الذين لم يحصلوا على أي قدر من التعليم وأستطيع أن أجزم أنه لن يكون هناك أي نوع من التوافق بيني وبين أي منهم واعتبر أن تلك التوابع كانت أكثر إيلاماً من الطلاق نفسه. أخواتي انتهين جميعاً من دراستهن وحصلن على الشهادات والوظائف وتزوجن وكن أحسن حالاً مني لأن أبي لم يشترط على أزواجهن ما اشترطه على طليقي وهن قد تخطين مرحلة الخطر التي كنت أمر بها في كل مراحل حياتي، فقد وجدن شباباً متعلمين كثيرين يتقدمن لهن وقد توفي أبي - رحمه الله - ولم أكن أحمله أي مسؤولية عمّا حدث لي فهو في النهاية قضاء وقدر وإرادة الله والآن انتفى الشرط الذي كان يشترطه أبي وسقط تماماً بوفاته لكنني أنا التي اشترطه على نفسي تجاه أمي وشقيقي الولدين الصغيرين الذين ما زالا في مراحل التعليم فهم ليس لهم أي مصدر رزق بعد أن باع أبي كل ما يملك على تعليمنا أو على زيجات أخواتي، وليس من الشهامة أو النبل أن أنسحب من حياتهم وأتركهم للفقر والعوز والحاجة وإن لم يكن راتبي وحده كافياً لاحتياجاتنا لكنه يكفي من سؤال الناس. أمي تكاد تموت كمداً وحزناً عليَّ وتحمل نفسها وأبي كل ما حدث لي وتبدي أسفها وحسرتها عليَّ وندمها أنها لم تستطع أن تقول لا في الماضي وأنا مع عدم رغبتي في الزواج إلا أنني أتوق لولد يرعى شيخوختي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©