الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الواقعية الجديدة.. روحية

الواقعية الجديدة.. روحية
18 سبتمبر 2013 21:38
مضى الزمن الذي كان المفكر يهتم فيه بتقديم نظرية أو مذهب فكري وفلسفي أو نقدي يعرف به، وعلق النقاد على ذلك كثيرا، محاولين تقديم تفسير لعزوف المفكرين عن تقديم نظرية أو مذهب جديد، مثل أن العصر الذي نعيش فيه لم يعد يحتمل المذاهب الكبرى وأنه عصر الجزئيات والتخصص العلمي والأكاديمي الدقيق والضيق، تجد عالما كبيرا في تخصصه ولكن ما إن ينطلق خارج التخصص تجده في مستوى ذكاء المواطن الأمي وربما أقل ثقافة منه. وفي عالمنا العربي جاء وقت انشغل فيه المفكرون العرب بأهمية وجود فلسفة عربية أو مدرسة عربية ومذهب عربي في التفكير، فضلا عن الشعور بضرورة وجود فيلسوف عربي، وهكذا وجدنا د. عثمان أمين يقدم ما أطلق عليه “الجوائية”، لكن “الجوائية” لم تجد الاعتراف ولا الانتشار الذي أراده صاحبها، وقدم توفيق الحكيم “التعادلية” والتي لم تصبح مدرسة فكرية بقدر ما اعتبرت من نوادر الحكيم ودلائل شهرته، والأمثلة عديدة في ثقافتنا العربية خلال القرن العشرين. سقوط النظريات الدكتور محمد شبل الكومي يحاول مجددا أن يقدم تصورا فكريا أو فلسفيا لدراسة ثقافة عصر الحداثة وكذلك عصر ما بعد الحداثة، في كتابه الجديد.. القصور أو المذهب الذي يدعو إليه سماه الواقعية الروحية أو “الواقعية الجديدة”، وهو عنوان الكتاب. د. شبل هو أستاذ للأدب الإنجليزي ويجيد الألمانية والفرنسية ويقول لنا زميله وصديقه د. محمد عناني إنه متبحر كذلك في التراث العربي والإسلامي، وهذا واضح من كتابه ويتضح منه أيضا إلمامه العميق بالتراث الثقافي المصري القديم، لكن اهتمامه الأكبر بالثقافة والفكر الغربيين، خاصة الفكر الفلسفي ويليه الأدب والنقد. ينطلق الكاتب من سقوط النظرية النقدية الماركسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وذلك أن مفهوم الطبقات الاجتماعية كما تبناه كارل ماركس، لم يعد قائما، في الوقت الحالي، حيث حل محله طبقة من البيروقراط والتكنوقراط، كما أن العلم والمعرفة والتكنولوجيا وليس الإنتاج الصناعي وفائض القيمة ومن ثم الطبقة العاملة هي المسيطرة أو التي تتحكم في المشهد العام بالمجتمع الحديث. في المقابل فإن العلوم الحديثة شغلت بالجزئيات، ومن ثم التفتيت، تفتيت النظرة إلى الكون والعالم، حتى الزمن تم تفتيته إلى الفمتو ثانية، فقد قسمت الثانية إلى ملايين الوحدات الزمنية، وأدى هذا إلى غرق الثقافة في النظرة الجزئية وغياب الرؤية الكلية أو الشاملة، وفضلا عن ذلك سيطرة النزعة المادية بالتمام والكمال على الإنسان والإنسانية كلها وللخروج من هذا المأزق يقترح ما يسميه “الواقعية الروحية”، وقد تبدو الكلمة عند الواقعيين القدامي مثل روجيه جارودي وغيره في الغرب والشرق متناقضة، إذ كيف تجتمع الواقعية مع الروحية؟ الواقعية في الأدب وغيره تعني في المقام الأول وصف الواقع الظاهر، كما هو، بلا زيادة ولا نقصان، ومن ثم فهي تهتم بالظاهر وبالملموس، لكن ذلك يغفل أن للإنسان بعدا آخر هو البعد الروحي أو ما يتجاوز ظواهر الأشياء ويعلو على الجوانب المادية. يقول هو عن الواقعية الروحية إنها “عبارة تحمل في طياتها أمل الإنسان في الإمساك بوحدة الواقع وتحقيق حلمه أي: تكامل الإنسان المادي والروحي”. وبهذا التعريف فإنه يهاجم المادية الجدلية أو الماركسية ويهاجم كذلك فلسفة هيجل أو “المثالية الرومانسية”، لأن كلا منهما تعتمد على فهم خاص يرتكز على رد أحداث الواقع ونمطه إلى نمط آخر، وتنحاز كل منهما إلى جانب أحادي في التفكير والفهم، وهو يريد ويسعى إلي الجمع بينهما. الواقعية الطبيعية هناك “الواقعية الطبيعية” التي تتخذ من علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ الإنساني إطارا لتفسير الموضوع، أيا كان. نصا أدبيا أو شيئا وغير ذلك، أما الواقعية الروحية فهي تعتمد في المقام الأول على الدين والفن والفلسفة وهي المجالات الثلاثة التي تتجلى فيها ـ كما يقول هيجل ـ الروح الإنسانية. يقدم الكاتب تعريفا وافيا للفكرة التي يدعو إليها ويقول “إن الواقعية الروحية هي فلسفة تحاول الجمع بين مادية الغرب وروحانية الشرق، بين إيستمولوجيا الغرب وأخلاق الشرق، وتلك المحاولة ليست خارجة عن المألوف”. ويذهب هو إلى التأكيد بأن كل العقائد الرئيسية في العالم تعلن الحاجة إلى النضال من أجل صورة من صور الواقعية الروحية. وفي سبيل تقديم الواقعية الروحية ينشغل بدراسة ومقارنة الفكر الشرقي والفكر الغربي، ويحاول التمييز بين كل منها ولكنه بعد طول تحليل ودرس يصل بنا إلى القول “إن الفكر الشرقي يتفق مع الفكر الغربي في النظر إلى الوجود بوصفه يشتمل على حقيقة روحية وحقيقة مادية، ولكن الشرق يفسر الحقائق المادية في ضوء الحقائق الروحية. والعكس عند مفكري الغرب أي: إن الفكر واحد ولكن المنطلقات تختلف”. سوف نجد طوال صفحات الكتاب انشغالا بثنائية الفكر الشرقي أمام الغربي، الأمر الذي يذكرنا بكتاب إدوار سعيد “الاستشراق”، لكن منطقة اهتمام إدوار سعيد مختلفة، حيث اهتم بقيام المستشرقين بمحاولة تشكيل المفاهيم الغربية عن الشرق والشرقيين، وتحديد المسلمين وفق تصورات المؤسسات الاستشراقية والحكومات الاستعمارية لكن د. الكومي يحاول البحث عن مناطق التقارب والالتقاء بين الجانبين، وإذا كان يقوم بالمفاضلة والمقارنة فإنه يفعل ذلك من باب إحداث تقارب أو الرغبة في الحد من الخلاف والتباين، وبمعنى آخر يرى أن الخلاف ليس كبيرا ويكاد يكون مصطنعا، لذا نقرأ له هنا “الواقعية الروحية لا تجد أي تعارض في أن يعيش الإنسان في عالمين مختلفين: عالم المادة أي المذهب الطبيعي الذي يعبر عن النظرة العلمية للكون، أي عالم الظواهر الحسية التي يدرسها العلم، وعالم الروح، المذهب الروحي “المثالي” الذي يعبر عن الحياة الروحية والدينية للإنسان، والتي تظهر في الفن والدين والفلسفة”. يستحق الكتاب نقاشا ثقافيا وفكريا موسعا، بدءا من عنوانه الذي كان يجب أن يكون الواقعية الروحية وليس الواقعية الجديدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©