الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوهام الليلة الأخيرة

أوهام الليلة الأخيرة
18 سبتمبر 2013 21:46
هزته الكلمات المضيئة.. كلمات كان ينتظرها منذ أن انخفضت درجة حرارته إلى مستوى لفه بالقشعريرة.. حين قالت له في أصبوحة هادئة على غير العادة: “مع كل التقدير”. أحسّ لحظتئذٍ أنه قد أطيح به من داخل مشاعره المرهقة التي أشعلتها سيدة البحار.. في يوم امتدّ لألف عام.. كان يتلفت منقباً بين زوايا روحه عن نبض يدفئ أجزاءه المرتجفة دون جدوى. كان ينادي على بعد الزمان والمكان.. يجد نفسه كما في الأحلام، كلمات مختنقة تريد أن تخرج، لكنها لا تستطيع.. يستجمع كل قواه كي تنصهر الكلمات، فتتحول إلى صهيل مبحوح.. حنجرته تتقلص.. شفاهه تتحرك.. لا تنطلق الكلمات.. كان يريد أن يصرخ بآه فزعة.. لكن ارتجاف أطرافه أوقفها.. انسحقت دقات قلبه، وبدأت بالتلاشي.. تصاعدت إلى رؤاه في لحظته تلك أقوالها التي قذفت به إلى متاهات سحيقة، حين أدرك يومها أن عبارتها الرسمية، كما في كتاب حكومي.. “مع كل التقدير”.. أطاحت به إلى زاويته الأولى، حيث التمترس وراء الكلمات: “أراني مضطرة أن أعتبرها صفة ملازمة “لكم”... “لهم”.. “أنتم يا معشر “الهم”.. بضم الهاء بالطبع.. القفز وراء الاستنتاجات الغيورة أحياناً، والمتسرعة أحياناً أخرى..   أترى! كم هي عديدة الكلمات والمواقف التي تمر بنا أو نمر بها دون أن تترك بصماتها على مشاعرنا، لنعود فجأة ونصطدم بها في مفترق طرق، ونحن نوشك أن نلتف حول الناصية التي تلوح لنا، والتي حسبناها نهاية طريق سرنا به.. بين بسمة مرة ودموع مرات.. نقدم قدماً لتلحق بها الثانية.. مفعمين بالأمل أن الركن الآخر من الزاوية يحمل معه راحة ربما.. وفجأة في هذه اللحظة الفارقة تقتحمنا كلمات.. ألحان.. صور.. أصوات.. فنتجمد هناك عند آخر الزاوية.. وتعلق القدم الثانية في الفراغ، ونخشى أن نلتفت لننظر فوق أكتافنا.. حيث نسأل أنفسنا في قسوة: ماذا فعلت بنا؟ أو ماذا فعلنا نحن بك؟ هل أضعتينا.. أم أضعناك نحن؟ لتبقى الإجابة مبعثرة حينا، وشاردة أحياناً أخرى.. وما زال البحث عنها هارباً مع كل ما فوق التقدير.. وما بعد الكلمات”. ماذا؟ “كم”؟ “هم”؟ هو من معشر الـ”هم”! وربما الـ”كم”! يا الله... كم تخيل أنه الكوكب المحلّق في عليائه، متهادياً بما منحته هي له من روحها الملتهبة وألقها المستديم، لكنه الآن من الـ”هم” والـ”كم”.. ترى كم هي عديدة الكلمات والمواقف التي تمر بنا أو نمر بها دون أن تترك بصماتها على مشاعرنا، لنعود فجأة ونصطدم بها في مفترق طرق ونحن نوشك أن نلتف حول الناصية التي تلوح لنا؟ كان يخاف عليها منه.. ويخاف عليه منها.. هو الذي كان أمام منعطف خطير.. توثقه الكلمات، حيث لا عودة عنها.. بين بارقة آمال تتلألأ في أقاصي السماء متوهجة على غير ما ائتلفت عليه الكائنات.. وبين بارقة هزيمة تحطم كل التوهج في داخل نفسه.. ونفسها المتوهجة بالجمر.. حين تتلاشى الأحلام أمام واقع باهت اللون. ... أيها المرفأ والفنار.. والحارس والمصباح.. هل وصل الأمر إلى التحام في فضاءات تلتمع بلون قوس قزح؟ أتكتفي هي؟ أيكتفي هو؟ أم يبقى التسامي حلماً ممزوجاً بالقيود التي تشدنا وتصفعنا بأصفادها الصدئة؟ ياه... كم اشتاق إليها.. وكم افتقدها.. عوّدته أن تكون جزءاً من يومه المضيء.. وعودها أن يشربا قهوتهما الصباحية على أبواب الجنة.. دخل في صمته الرهيب.. صمت أغلق عليه منافذ الأثير الذي كان يرتشف منه الحياة.. شيء ما قد حصل.. أعاد الرحلة إلى محطتها الأولى.. صمته يغلف الأشياء.. ويلونها بلون رمادي.. صَمَتَ هو أيضاً، خوفاً عليها منه وخوفاً عليه منها.. لكن الصمت تلاشى. كانت تطل من عليائها بوجهها المثير الذي أضاف إليه الشحوب المتهم دوماً.. لوناً بلون الخمرة.. كانت شفتاها تتباطأ وهي ترسو على مرفئه: أوجعني الإبحار أوجعني الوهم أوجعني الحلم أوجعني الألم لم يكن غياباً.. كان غيبوبة.. “إبحار مقترن بالوهم”، “حلم مقترن بالألم”، “غياب اقترن بالغيبوبة” تتماهى الكلمات والألوان تتلاشى المشاعر والأفكار “تلك هي المسألة إذن.. أن نكون أو لا نكون” وسؤال أول.. يطرح نفسه آخرا: متى تأتي النهاية؟ وما بين الهاجس والانتظار تصبح الغيبوبة مكاناً أفضل للعيش... لكن انسحاقه ما بين خوفه عليها منه.. وخوفه عليه منها.. يبقى هو المتراس الأول والأخير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©