الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإغراءُ..بهجةٌ واحتفاءٌ

الإغراءُ..بهجةٌ واحتفاءٌ
16 سبتمبر 2015 21:56
ثمة سحابة من الفوضى المفهومية تُخيِّمُ على المعاجم العربية والأجنبيّة كلّما تصدّت لتحديد دلالة جذور الأفعال التي لها صلة بوجدان الإنسان وعاطفته. فترى الجِذْرَ الواحد منها يُحيلُ على ثانٍ، وذاك الثاني يُحيل بدوره على ثالثٍ، والثالث على سواه، وهكذا تستمرّ لعبة الإحالة المعجمية وتتقاطع دوائرُها ما يُنبئ ببرودة المعنى فيها أو بضياعه، غير أنّ في تلك البرودة، وفي ذاك الضياع، سببًا من أسباب توهّج المعنى في استعمال الأفعال، فلو ثبت المعنى في الفعل لما اتسعت حقول تأويله بالنظر إلى تحوّلات أحوال الأشياء والأحياء في الواقع، ولعلّ بفضل هذا، صار إنتاجُ الشِّعر والرواية والفنون ممكنًا، وصار التفلسف حدثا بشريا يوميا، وبه أيضا أينعت الاستعارةُ وتنوّعت مراجعها. يبدو أن الجذر «غ/ ر/ و»، ومنه الفعل «أغرى» والاسم «الإغراء»، هو من الجذور التي تتعدّد إحالاتها الدّلالية المعجمية، حيث يُفيد في اللسان الحض على الشيء، والولع به، كما يفيد الإلزاق، والإيساد والتحريشَ. كما أنّ مقابله اللاتيني (seducere) يُفيد بدوره الانجذاب إلى الشيء، والحض على الممنوع، وتحويل الوجهة، والابتعاد عن الجادّة، والجليّ أن هذه الدّلالات المعجمية تنبئ بأن الإغراء مثّل مفهوما رديفا للخطيئة، بل وظلّ فيها حاملا لرمزية جنسية هي، لدى كثير من الشعوب، من المعصية والمحرَّم والمسكوت عنه فعلٌ يستوجب الاستهجان والتقبيح، وذلك جرّاء النظر إليه من باب كونه لا يخاطب العقل الواعي للإنسان ويَخضع لشروطه خضوع باقي مفردات واقعه وإنما هو ينصبّ بالتأثير على غرائزه ويُثوِّر فيه شهواته ويُضعف من سيطرته على نفسه. سلبيّة دلاليّة ولعلّ في هذه السلبية الدّلالية ما جعل الإغراء يحضر في النصوص المقدَّسة وفي الشعر العربي القديم بمعناه ويكاد يغيب باسمه، ففي القرآن نلفيه يحضر مرّتيْن فحسب: أمّا الأولى فهي الواردة في سورة المائدة بالآية 14 في قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى? أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى? يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ». وأمّا الثانية فجاءت في سورة الأحزاب الآية 60 حيث نقرأ: «لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا». وفي الآيتيْن يفيد الإغراء إثارة العداوة بين الكافرين والتحريش بهم. وفي الكتاب المقدّس نلفى للإغراء معنى التحريض وذلك في القول: «فَخَلاَ مَنَلاَوُسُ بِأَنْدَرُونِكُسَ وَأَغْرَاهُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى أُونِيَّا، فَصَارَ إِلَى أُونِيَّا وَخَدَعَهُ بِمَكْرِهِ». أما في الشعر فيحضر لفظ الإغراء باحتشام في القصائد الكبرى من ذلك قول الحارث بن حلّزة اليشكري وهو من بني بكر: لا تَخَلْنَا عَلَى غَرَاتِكَ إنّا قَبْلُ مَا قَدْ وَشَى بِنا الأَعْداءُ علما أن «الغراة» تعني الإغراء، وكان الحارث بن حلّزة يتحدّى عمرو بن كلثوم – وهو من بني تغلب الذين حرّشوا الملك عمرو بن هند لينتقم من بني بكر- مُخبِرًا إيّاه بفشل مَن سبقوه إلى إغراء الملك بقومه. ولم تفُلح علوم الإنسان الحديثة على غرار السيميولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلوم الإشهار وغيرها، في إخراج الإغراء من خانة السلبية التي تردّى فيها وصار بها ساكنا محلَّ الثيمة المنوعة التي تحتاج إلى كثير من الجرأة البحثية في تأويل وظائفها، وبسببٍ من هذا، تضاءل البحث في الإغراء بوصفه نشاطا اجتماعيا ذا دلالات فنية وتواصلية ونفسية، بل ورافدا من روافد وعي الناس بالعالَم. وقد اقتصر الأمر فيه على توصيف ممارسته توصيفا يقوم على استهجانه الأخلاقيّ ظاهريا مع إخفاء الرغبة في الإقبال عليه، وهو ما نَلفى له صورة في اتخاذ المبدعين له سبيلا إلى تهييج المعنى في نصوصهم. تأويل ولعلّ في ذلك ما يعني أنّ للإغراء تأويلا آخر يتجلّى فيه مُحرِّكا لكلّ فعل بشريّ ذلك أن الفعل يظل جامدًا إلى أن يحضر الإغراء فيُحرِّكه بالتصريف في المكان والزمان والعواطف والأجساد، ولنا أن نتساءل: هل يمكن أن ننجز فعلا دون أن يقف وراءه إغراء؟ أليست أفعال الواجب والحقّ والإيمان محكومة بطغيان إغرائها الاجتماعي والقانوني والعَقَدي؟ حسبنا للإجابة عن ذلك أن نقرأ قول محمود درويش: «للبحر مهنته القديمة: مدٌ وجزرٌ، للنساء وظيفةٌ أولى هي الإغراءُ، للشعراء أن يتساقطوا غمّاً، وللشهداء أن يتفجروا حلماً، وللحكماء أن يستدرجوا شعباً إلى الوهم السعيد، لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد». والظاهر أنّ الإغراء ينبع من الجسد ويتمّ به في آن: جسد الفرد، وجسد النص، وجسد الصورة، وجسد الإيديولوجيا، وجسد المتخيَّلِ أيضا. ويتخذ له الأدب والموضة والاقتصاد والإعلام وغيرها قنواتٍ صافيةً يجري فيها. وهو إلى ذلك فنّ التكشّف، تكشُّفُ جسد ماديّ أو متخيّل ليُعلنَ عن فتنته، ويُغرِّرَ بغيره، فالغِرُّ حينئذ هو الذي لا تجربة له، وهو الناقص الذي يسعى إلى الاكتمال، أي إلى قبول فعل الإغراء والرغبة في عناقيد لذّة المغرِي ليكتملَ فيه معناه، غير أنه لا يمكن لأيّ جسد مادي أو رمزيّ أن يكون مغريًا إلا متى توفّر على طاقة دونجوانية للتحكّم في الآخر: طاقة لإقناع الآخر وتصيُّدِ رغائبه وإخراجه من حقل مألوف تصوّراته وجعله يشكّ في صِدْقِيتها، بل وحفزه على الانحراف عنها والوقوع في لذّةِ ما يُقدِّم له المُغْرِي من حقائق أو استيهامات عمّا هو راغب فيه. ذلك أن «اللذّة هي منتهى الانحراف» على حدّ ما يقول رولان بارت، ومن ثمة فالإغراء بحثٌ في مُشَتَهى الآخر، ودعوته إلى العيش خارج استعاراته المكرَّسة، بل وإلى نفيها أحيانا لاستنبات استعارات جديدة أكثر رمزيةً وأرقى بهجةً، وهو أيضا تَوقٌ من كائنٍ مَّا إلى السكن في بلاغة كائن آخر، ذاك الذي يَعِدُه بلذَّةٍ ممكنةٍ ويدعوه إلى أن يُشاركه حفلَ تَجَلّيها، لا بل هو تواطؤ المُغرَى مع المُغري، تواطؤ النقصان مع الكمال، وتواطؤ الجفاف مع وعد بالارتواء. ولأن كلّ ممنوع يَحُضُّ على موضوعه ويُغري به على حدّ ما ذهب إليه النواسيّ من كون لَوْمِ المرء على فعلةٍ مَّا إنما هو مُعادِلٌ لتحريضه عليها في قوله النبيه: «دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ»، فقد استشرى الإغراء في مجالات من الحياة عديدةٍ تلك التي يمتزج فيها النهيُ بالمنع، ويتآلف فيها التحريمُ مع الغواية، والمقدّس مع المدنَّس، فلا يُستثنى من تأثيرها إلاّ مَن كان له «مُعين من نفسه» على المعاصي وِفَقَ ما يؤكّده الجاحظ في قوله: «إن لم يكن لك مُعين من نفسك ما انتفعت بشيءٍ من ذلك. بل يعود ذلك النهيُ كلّه إغراءً لكَ». ومن أهمّ مجالات ازدهار الإغراء نذكر مجالات الاقتصاد والجنس والسياسة والدّين، وهي المجالات التي يحشد فيها أعوانُها كلّ قواهم التخييلية والمادية ويستعينون بصافي فلسفات الأرض وفنون إنسانها وحِكْمةِ حكمائها لاستمالة أكبر عدد من الزبائن والمستهلِكين وشَدّهم إلى ما يعرضون عليهم من بضائع متنوّعة سواء أكانت مادية (الأموال، المناصب، الفيء، إلخ) أم رمزية (الخطابات الإيديولوجية، الغنيمة، الوعود بالجنة حيث توجد حور العين بالمجّان، إلخ). والظاهر أنّ أغلب صُناعِ الإغراء راحوا يلوذون بالجسد جسرًا إلى العبور إلى المناطق المظلمة من كيان الإنسان المُعَنَّى بإرواء تعطُّشِه إلى الدنيا أو إلى الآخرة وإشباعِ جوعِه إلى لذائذهما، ومن ثمّة تجلّى الجسد حاملا أمينا للإغراء، بل صار حاملا فاخرا ومكتَنِزًا بكلّ أصنافِ الفتنة التي تنهار أمامها حصونُ العقل، ويخرُّ لها حرّاسُ الأخلاق، ويسيل بسببها اللُعابُ الآدميُّ جارفا كلَّ ما يوجد حوله من مألوف الحياء العامّ وفق ما نقرأ في قول الفيلسوف كانط: «إن عدم رضاء المرء عن حاله وتزاحم الهموم العديدة عليه ومعيشته وسط حاجات لم يتم إشباعها قد تكون إغراء قويًا له على أن يدوس على واجباته». شيوع والرأيُ عندنا أنّ الإغراء لا يتغيّا فحسبُ حفزَ الآخر على الدَّوْس على واجباته والاستهتار بها، وإنما هو فعلٌ مُلطِّفٌ لهيجان الرغائب في الكائن، ومُنظِّمٌ لفوضى سلوكه، ومُعَقْلِنٌ لحركة جسده، وحامٍ له من نزوعه إلى العنف. لأنّ الجسدَ - ذاك الذي قال عنه نيتشة: «إنّ آلة جسدك إنّما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحا، إنْ هو إلاّ أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم»- بعد أن تلذّذ لأزمنةٍ مديدة بحُمولة الإغراء فيه، وصار سَكَنَها الهنيءَ، خضع لسلطة العقل عليه، وصارت العقول تبحث عن كنوز الإغراء في أجسادها منذ بدايات ثوراتها الفكرية الحديثة، فقنّنتها وحوّلتها إلى موضوع للإغراء أثيرٍ، وإذّ ذاك تَرحَّلَ الجسدُ من صفةِ الحامل بالقوّة لحدث الإغراء إلى موضوعٍ للإغراء ذاته ذي لذّة موجودة بالفعل، وهو ما ساعد على استشراء ثقافة الإغراء في مجالات المعيش البشري الراهن. وظهرت في الأرض أجسادٌ شفيفةٌ ولطيفةٌ لا يعنيها من أمرها إلا الإفصاح عن جمالها أدبا وفنا وصناعة وسياسة ودينا إفصاحًا مُبهِرًا تَستَثمِرُ فيه كلّ طاقاتها على التكشُّفِ وإشاعة البهجة في وعي الناس وفي لاوعيهم، تفعل ذلك بالاتكاء على حقيقة أنّ التاريخ البشريّ يُنبئ بأنّ الإغراء حدثٌ إنسانيٌّ لا يُقاوَمُ على حدّ ما عبّر عنه أوسكار وايلد بوضوح في قوله: «أستطيع أن أقاوِم أيَّ شيءٍ عدا الإغراءَ»، غير أنه يمكن التحكّم فيه عبر فهم آليات اشتغاله وتوجيهها صوب خدمة الفرد وخدمة الصالح العام ما به تتحقّق وحدةُ المجموعة الاجتماعية. وإذا كنّا لا نعدم وجودَ مَن ينبذ الإغراء ويسِمُه بكلّ ما هو شائن وشنيع وشيطانيّ بسبب ما يَرى فيه من انتهاك لحُرمةِ الجسدِ وتعدٍّ على حُرمة أخلاق الناسِ وفق ما ذكرنا في بداية مقالتنا، فإنّ الحريَّ بنا تأكيده هو أن الإغراء فعلٌ حُلُميّ منتشِرٌ حتى لدى الشعوب المُحافِظة التي تمارسه في السِرِّ من وراء جدار مؤسّساتها الرقابية وتمقته في العَلَن تزلّفا ونفاقا، وهو لا يقف بالجسد عند عتبة التبرّج والهُجنةِ وإنما يكون لغتَه التي يتواصل بها مع عَينِ الآخر ليقول ما يسكت عنه الناسُ ويتمنّون سماعَه ورؤيتَه. فهو من هذه الزاوية مغامَرةٌ في التجلّي، وشكلٌ من أشكال الحلولِ في الآخر حلولَ الاحتفاءِ والتأنُّسِ، وهو أيضا سبيل إلى تخفيف وحشة الغربة وحدّة التوتّر في الجسد وفي الروح، وحدٌّ من نزوع الكائن إلى تفجير مكبوتاته المادية والرمزية في ممارسات قد تبلغ حدّ القتل والتدمير. كانط إن عدم رضاء المرء عن حاله وتزاحم الهموم العديدة عليه ومعيشته وسط حاجات لم يتم إشباعها قد تكون إغراءً قوياً له ليدوس على واجباته نيتشه إنّ آلة جسدك إنّما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحاً، إنْ هو إلاّ أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©