الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سينما محفوظبين «الفكرة» و«المعالجة»

سينما محفوظبين «الفكرة» و«المعالجة»
16 سبتمبر 2015 21:57
في كتابه «فن كتابة المسرحية» -ترجمة دريني خشبة- يقول الكاتب النمساوي لاجوس آجري إن الدراما تتحرك في عدد لا نهائي من الأفكار والمعالجات، لكن البعض يتحدث دوماً عن الثيمات الـ36 بنوع من الخطأ الشائع في هذه المسألة، فالثيمات لا تصنع مسرحيات أو أفلاماً أو أعمالاً درامية جيدة، إنما هي المعالجة التي تقدم للثيمة وأسلوب تناولها. ويقول نجيب محفوظ: الفكرة في الفن هي محاولة لخلق شيء ما له معنى، يأتي نتيجة التحام الذات مع الواقع. إذا وجدت حادثة تلفت نظرك أو شخصاً أو معنى زائداً فموقفك من الحكاية ينتج عملاً معيناً، بعضه يأتي من الملاحظة وبعضه من العمل وبعضه مما يسمى «الإلهام». يمكن من خلال إضافة ما ذكره لاجوس آجري عن المعالجة مع تعريف نجيب محفوظ للفكرة في الفن أن يصبح لدينا منهج مبدئي لتحليل كيفية تعامل محفوظ مع كتابة السيناريو السينمائي والمعالجات الفيلمية. من المعروف أن أول سيناريو يشارك محفوظ في كتابته هو (مغامرات عنتر وعبلة) 1945، ثم (المنتقم) عام 1947 وكلاهما من إخراج صلاح أبو سيف، دليله ومرشده لعالم السيناريو السينمائي، لكنه ترك بصمته أو توقيعه على 25 فيلماً ضمن 100 عمل رائع في تاريخ السينما المصرية. وتصل النسبة التقريبية للسيناريوهات والمعالجات المحفوظية إلى 18 سيناريو خلال الفترة من منتصف الأربعينيات إلى منتصف السبعينيات، أغلبها يمكن بسهولة أن نطبق عليه منهج (الفكرة والمعالجة) الذي أشرنا إليه. مما يلفت النظر أن محفوظ اشترك في كتابة المعالجات السينمائية لعدد من الروايات والقصص القصيرة خلال مشواره السينمائي رغم موقفه الشهير الرافض للاشتراك أو معالجة أيٍّ من رواياته وقصصه إلى السينما! كانت بدايات السيناريست نجيب محفوظ في فيلم «لك يوم يا ظالم» جاءت عبر اعتماده على قصة تيريز راكان لإميل زولا ليشاركه صلاح أبو سيف السيناريو، ويتركا كتابة الحوار للسيد بدير، ثم يجيء اشتراكه مع الكاتب أمين يوسف غراب فى كتابة سيناريو روايته «شباب امرأة» وليصبح الحوار أيضاً للمتخصص السيد بدير، ولكن المساهمة الأجدر بالتحليل والتوقف أمامها فى كتابة السيناريو المقتبس عن روايات أدبية تتمثل في تجربة محفوظ مع روايات ابن جيله الأديب إحسان عبد القدوس (أنا حرة) و(الطريق المسدود) و(إمبراطورية ميم) - اثنان من إخراج صلاح أبو سيف، والأخير من إخراج حسين كمال. إمبراطورية ميم في عام 1965 أصدر الكاتب إحسان عبد القدوس مجموعته القصصية «بنت السلطان» التي ضمت 33 قصة قصيرة متنوعة ما بين الفانتازي والاجتماعي والبوليسي والنفسي. ومن بينها قصة (إمبراطورية ميم) التي قدمها عبد القدوس فيما لا يزيد على عشر صفحات لتصبح بعد ذلك «نواة الفكرة» التي ينطلق منها نجيب محفوظ عام 1972 بالتعاون مع إحسان نفسه والمخرج الشاب -آنذاك- حسين كمال لتقديم سيناريو اجتماعي سياسي، من بطولة فاتن حمامة وأحمد مظهر، يحمل نفس اسم القصة القصيرة، ولكن شتان بين النص الأصلي والمعالجة المحفوظية للسيناريو الفيلمي. في قصة إحسان كان البطل (محمد مرسي) رجلاً عصامياً استطاع أن يصعد مهنياً واجتماعياً ومادياً بأسلوب شريف، وفي سياق نجاح يكفله مجتمع ينمو بشكل اقتصادي جيد خلال سنوات الستينيات رغم كل ما يشوبه من سيطرة فكرة الحكم الفردي والسلطة السياسية المطلقة القوة. وعندما أنجب محمد مرسي خمسة أبناء ذكور قرر أن يطلق على جميعهم أسماء تبدأ بحرف الميم في محاولة لصناعة إمبراطورية أسرية تتكاثر وتتوالد عبر أبناء وأحفاد بنفس الحرف. وعندما يظن مرسي أنه قد ثبت سلطاته الأبوية وأصبح ينتظر أن يجني ثمار الحياة الأسرية الناجحة والعزوة الذكورية الفخمة يصطدم مع ابنه الأوسط مجدي دارس الفلسفة الذي يقاوم هذا المد السلطوي الأبوي، ويقرر أن يطرح فكرة الانتخابات لتداول السلطة في البيت باعتباره (الخلية الاجتماعية الأولية) التي يتشكل منها المجتمع. ويترشح مجدي أمام أبيه الذي يرفض أن يصنع لنفسه أي دعاية انتخابية، معتبراً أن ما يحدث لعب عيال لكنه يصاب بهواجس وأحلام حول انهيار سلطته داخل المنزل وتحوله من أب/ قائد/ صاحب سلطة إلى مجرد فرد تابع لسلطة أكبر منه يتم تداولها بناء على اختيار الأفراد المستفيدين مما تقدمه لهم وليس نتيجة قانون طبيعي (كالأبوة) أو شكل اجتماعي سياسي يخص أن من يملك المال يحكم المصير. ولكن تأتي نتيجة الانتخابات باختيار الأب وتشكيل مجلس إدارة للأسرة لا يصبح فيه الفرد هو المتحكم وليتلقى الأب درساً في مسألة تداول السلطة على يد ابنه الاوسط الذي لا يتم اختياره في مجلس الإدارة خوفاً من تطرفه. بالطبع كان الإسقاط واضحاً على المجتمع الاشتراكي صاحب مبدأ الصوت الواحد خلال فترة الستينيات (حرف الميم الذي هو أيضاً أول حرف من اسم مصر) وسلطة الفرد في مواجهة رغبة المجموع، فلا مانع من أن يتولى الأب/ الزعيم السلطة ولكن بناء على اختيار الشعب وليس فرضاً بالقوة أو كحق طبيعي موروث أو مناقض للمنطق السياسي السليم، وهو ما نلمحه في الحوارات السياسية ما بين الأب ومجدي أثناء صدامهما، خاصة في مسألة أن من يملك يحكم، كذلك بدت الرسالة واضحة في أن أصحاب النظريات والأيديولوجيات مهمتهم فقط تحفيز الشعب/ الأسرة وتنويره ولكن لا يجوز أن يصبحوا جزء من السلطة نظراً إلى كون النظرية هي إشارة إلى الطريق السليم ولكن تطبيقها الحرفي قد يؤدي إلى فشل النظام بأكمله. بصمة محفوظ ما فعله محفوظ في المعالجة الفيلمية هو الانطلاق من فكرة التعددية وتداول السلطة مع الحفاظ على رأس العائلة مهيباً ومسيطراً من خلال تحويل الشخصية الرئيسية من رجل إلى «امرأة» ليصبح الإسقاط الأساسي بالنسبة إليه هو (مصر/ الأم/ الدولة) وليس الزعيم الفرد، وهو ما يشير إليه وضع الفيلم في سياقه الزمني والسياسي (1972) أي بعد رحيل عبد الناصر عام 1970 وتولي أنور السادات. تبديل الشخصية من الأب إلى الأم انتقل بالفكرة إلى مستوى أعمق وأكثر دلالة من شخصية الأب، كما حمى السيناريو من التدخل الرقابي المباشر، فقد حافظ التغيير على أن تصبح شخصية الأم إشارة للسلطة وليس للزعيم أو الرئيس كذلك إشارة للدولة أو البلد مع كون اسمها أيضاً يبدأ بحرف الميم (منى)، ثم قام بتغيير جنس الأولاد ليصبح أربعة ذكور وفتاتين، وجعل من الابن الأكبر مصطفى طالباً في كلية الحقوق ليصبح أكثر اتساقاً مع كونه المنظر الأيديولوجي للأسرة بدلاً من الأوسط مجدي في النص الأصلي. وقام عبر المعالجة بتقديم ثلاثة خطوط متقاطعة لم يكن لها أي وجود في القصة الأولى، هو كون منى أرملة وليست زوجة (في القصة كانت الزوجة على قيد الحياة)، وبالتالي ثمة خط عاطفي يخص علاقتها برجل أعمال كثير السفر (أحمد مظهر) وهو الخط الذي ينتهي بالفشل نتيجة استغراقها أو اكتشافها ضرورة أن تكون بكليتها ملك أسرتها لإدارتهم بشكل سليم. ثم الخط الثاني الذي يخص وظيفتها الحكومية التي تتولى من خلالها منصباً كبيراً في وزارة التعليم -مع ملاحظة أنها وزارة متصلة بالتربية والأجيال الجديدة مثل أبنائها وليست وزارة إدارية أو مجرد مؤسسة حكومية عادية-. ثم الخط الثالث والذي يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والعاطفية لأبنائها مع التركيز على أربعة نماذج: اثنين من الشباب بجانب الفتاتين، لتصبح الأسرة في النهاية نموذجاً للخلية الاجتماعية الأولية من خلال استعراض طبيعة هذه العلاقات، ومشاكل الشباب في هذه الفترة، مع الاكتفاء بأن تصبح شخصية مصطفى مجرد محفز أيديولوجي للانتخابات دون أن تكتمل أبعاده الدرامية مثل إخوته الأصغر منه (المنحرف والموسيقي والمسترجلة والرومانسية)، وهو ما يلخصه المخرج الفرنسي روبير بريسون بقوله: السيناريو هو أن تخلق، ليس أن تشوه أو تخترع أشخاصاً، ولكن الخلق يأتي من أن تربط علاقات جديدة بين الأشياء والأشخاص كما هم عليه. هذه الخطوط الثلاثة أثرت المعالجة بشكل كبير، وحافظت على جانب كبير من الفكرة الرئيسية للقصة حيث استطاعت أن تخلط الاجتماعي بالسياسي بالتربوي.. كما أنها حافظت على رشاقة الأحداث الدرامية وزخمها بعيداً عن خط الصراع الواحد الذي تمحورت حوله القصة الأصلية حيث تشعبت الخطوط والصراعات، فأصبح هناك الصراع الخاص بالخط العاطفي بين منى وأحمد، والصراع الخاص بمحاولة منى الحفاظ على مكانتها كسلطة عليا في البيت الكبير، والصراعات الخاصة بمشاكل الأولاد (المنحرف الذي يدخن ويدخل في علاقة مع خادمة صديقه، والموسيقي الراغب في التدريب على العزف استعداداً لحفلة مهمة، والرومانسية التي تذهب إلى بيت صديقها في خطة تحررية، والمسترجلة التي تقع في حب رجل متزوج أوهمها أن الحب حرية وليس قيوداً اجتماعية وأخلاقية). يقول صلاح عبد الصبور إننا لا نقدم شخصياتنا للمتفرج لكي نصنع نموذجاً في الدراسة النفسية، فليس ذلك هو قصد المؤلف الدرامي، ولا نقدمهم لإثبات مهاراتنا في الخلق، فالمهارة بلا قصد مجهود أخرق، إننا نقدمهم لنرى ماذا سوف يفعلون في مشكلة مطروحة علينا وعليهم، ولذلك فالكاتب لا يقدمهم إلا من جوانبهم التي تلقي ضوءًا على هذه المشكلة ويساعد على تبرير أفعالهم فيما بعد من وجهة نظر كل منهم الخاصة بالطبع. وقد استخدم نجيب محفوظ في معالجة الفيلم على مستوى السرد تكنيك «الفلاش باك» لكي يضمن مساحة مكثفة لتقديم شخصيته الأساسية (منى) واستعراض جانبها العاطفي، لأن الجانب المهني والاجتماعي تم استعراضه من خلال مشاكل آنية تواجهها منى بالفعل، وذلك قبل أن يستقيم السرد زمنياً مع تصاعد الأحداث ويصبح سرداً خطياً تقليدياً لا تقطعه أي تداخلات زمنية من أجل ضمان تركيز المتفرج، واستغراقه في الأمثولة اللطيفة حول عائلة قررت أن تتداول السلطة فيما بينها عملا بمبدأ الديموقراطية ومصلحة الجماعة، وأن القيادة للأصلح من وجهة نظر الشعب، وليس لصاحب السلطة أيا كانت مادية أو معنوية أو عسكرية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©