السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين أبي وأمي سعاد جواد:

بين أبي وأمي سعاد جواد:
24 ديسمبر 2006 00:45
suad-jawad@hotmail.com استجمعت كل طاقتي، وكل ما أملك من شجاعة متحدية ضعفي وخوفي، ثم اتصلت بوالدي لأخبره بما يعتلج بداخلي قائلة: يا والدي·· لنا أنا وأخي وأختي حقوقاً عليك· لقد كبرنا ··· احتياجاتنا كثرت ومطالبنا تعددت وأنت لا تسأل عنا· لم يسمعني طويلاً وصرخ بي قائلاً: لسانك أصبح طويلاً· صرت مثل أمك، وهي لا تعرف كيف تربيك لتحترمي أباك· ثم إن هذا الاختيار هو اختياركم ··· ألم تفضلوها علي؟ أنتم اخترتم العيش معها في بيت رجل غريب هو زوجها، ورفضتم أن تبقوا معي، إذاً فلتتحملوا نتيجة هذا الاختيار، ولا زال بيتي مفتوحاً أمامكم، إذا عدتم لبيتي فلن أقصر معكم في شيء· انعقد لساني·· لم استطع أن أنطق بالحقيقة لأقول له: يا أبي هذا ليس بيتك، بل بيت زوجتك بالدرجة الأولى، وأنت لا تدري ما تفعله تلك الإنسانة بنا عندما لا تكون موجوداً· كتمت كلماتي وأغلقت السماعة وأنا لا أدري ماذا أفعل· لست صغيرة على استيعاب ما حدث لأسرتنا· صحيح أنني لازلت في السابعة عشرة من عمري، إلا أن الحياة القاسية التي عشتها علمتني أن أنضج وأشيخ وأفهم كل ما يدور من حولي· أريد أن أتمرد يوماً، وأن أصرخ بوجه أبي قائلة: يا أبي·· كفاك إيذاءً لنا، نحن أبناؤك، فلذات كبدك·· ما ذنبنا إن لم تنسجم مع أمنا ؟ ما ذنبنا إن طلقتها؟ ما ذنبنا في كل ما حدث بينكما لندفع الثمن بهذا الشكل ؟ بداية الحكاية تزوجت أمي وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وكان والدي في العشرين، زواجاً تقليدياً لأنهما من الأقارب· لم يرزقا بالذرية في بداية زواجهما وقد دام الانتظار خمس سنوات· مع ذلك فقد كان والدي يحب والدتي حباً كبيراً لا حدود له، يدللها ويشتري لها كل ما تريده، وكانت هي سعيدة بهذا الحب سعادة لا توصف· كان والدي الابن الأصغر والوحيد لجدي وجدتي، ولد بعد عدد كبير من البنات، وقد كبرت البنات وتزوجن الواحدة تلو الأخرى، ولم يبق في البيت سوى جدي وجدتي· ثم توفيت جدتي بعد زواج والدي بسنين قليلة فصارت أمي هي سيدة المنزل الذي بقي مفتوحاً لاستقبال الجميع· بعد خمس سنوات رزقت أمي بي ثم أنجبت أخي فأصبح البيت مكللاً بالسعادة والفرح والحب حتى مجيء عمتي إليه· كانت تلك العمة تعاني من مشاكل كثيرة في حياتها الزوجية وكانت تأتي غاضبة وهي تبكي وتشكو زوجها وطباعه السيئة ومعاملته الغير لائقة لها· أثناء وجودها في بيتنا لاحظت كثرة اهتمام والدي وحبه وتدليله لوالدتي مما أثار حسدها وغيرتها فصارت تحاول جاهده أن تخرب هذا الكيان الجميل بشتى الوسائل· راحت تزرع الشك بقلب والدي وتوهمه بأن زوجته غير مخلصه له· كانت تحاول قلب الصورة الجميلة التي يراها في أمي إلى صورة قبيحة لتكرّهه بها بأي شكل، وصارت تقنعه بأن إظهار الحب للزوجة وتدليلها هو السبب في إفسادها· في البداية لم تستطع التأثير على والدي، وكان يروي لأمي كل ما كانت تقوله أخته عنها، وكانت أمي توضح له أي لبس أو إشكال، مدافعةً عن نفسها ضد اتهامات أخته· ولكن والدي صار يتغير بالتدريج، فلم يعد يكلمها أو يخبرها بما تقوله أخته عنها، وصار عصبياً ضيق الخلق عكر المزاج، كلما تحدثت معه ثار بوجهها وعنفها وأسمعها كلاماً جارحاً لا يليق بها، ثم صار يمد يده ليضربها لأتفه الأسباب، ثم أخذ يهرب من البيت· ووجد لنفسه جماعة من أصدقاء السوء الذين دلوه على مسالك الحرام فسلكها، وابتعد عن أسرته وصار يسافر إلى بلدان العالم يبحث لنفسه عن المتع والملذات ونسي كل ما عليه من مسؤوليات نحو والده وزوجته وأطفاله· تبدلات جديدة بعد أن عاد من إحدى سفراته لاحظت أمي تبدلات جديدة طرأت عليه، ولكنها قررت عدم إثارته خوفاً منه· ولكن عمتي صارت تهمز وتلمز لها بأنه قد تزوج امرأة أخرى لتغيظها وتحطم أعصابها· تجرأت والدتي وفتحت إحدى الحقائب التي أحضرها فوجدت بداخلها ملابس نسائية وهدايا وعطور، فسألته عنها فأخبرها بأنها لا تخصه وإنما هي لصديقه اشتراها لزوجته ولأن حقيبته امتلأت اضطر لوضعها في حقيبته· ازداد ابتعاده عن بيته وأسرته وكان جدي غاضباً عليه وقد طرده من البيت بعد مشاجرة حدثت بينهما· مرض جدي على إثرها ثم انتقل إلى رحمة الله ولم يعلم والدي بموت أبيه إلا بعد يومين من الوفاة· صارح والدي أخته بأنه قد تزوج من أخرى وطلب منها عدم إخبار أمي بالأمر، فصارت تستفز أمي وهي واثقة بأن لديها السر الذي سيدمر حياتها إلى الأبد فكانت أمي تتجاهلها ولا تكترث لها لأنها تعلم بنواياها الغير طيبه نحوها· حملت أمي للمرة الثالثة بأختي فأخبرت والدي بحملها، وبدلاً من أن يسعد ويفرح كما كان يفعل سابقاً، وجدته غاضباً متضايقاً، ثم طلب منها أن تسقط الحمل وتتخلص منه فحزنت أمي حزناً شديداً لما آل إليه وضعها مع زوجها ورفضت أن تسقط الحمل فطلقها أبي لعنادها ثم ردها إليه ثم طلقها مرة أخرى وردها في أجواء مليئة بالمشاكل والخلافات والصراخ والضرب والأحقاد· مجرد طفلة كنت في الخامسة من عمري، أعي كل ما يحدث من حولي، وقد قضت المشاكل على طفولتي وحطمتها فحفرت تلك المشاهد بداخلي صوراً لا يمكن أن أنساها أبداً· أصبت بمرض غير معروف شخصه الأطباء على أنه اختلال بالغدة الدرقية، أجريت لي عمليات عديدة، ثم قرر أحد الأطباء أن العملية الأخيرة خطيرة جداً ونسبة نجاحها قليلة، ان لم تجر لي تلك العملية سأموت وإن أجريت سأفقد النطق إلى الأبد· كان الموقف صعباً· اتصلت بوالدي حتى يتخذ القرار الخطير بهذا الشأن فجاء وكان قراره هو إجراء العملية، ففقدان النطق أرحم من الموت· ولم يناقش الأمر كثيراً ثم وقع الأوراق لإجراء العملية ومضى إلى حال سبيله· جن جنون والدتي، كيف يتخذ قراراً مصيرياً بهذه السرعة· إنها ابنتنا التي انتظرناها خمس سنوات كاملة· ذهبت أمي إلى مدير المستشفى وتوسلت إليه بعدم إجراء العملية، فنصحها الرجل أن تتصل بأحد الأخصائيين القادمين من الغرب وتستشيره· ذهبت أمي إلى الأخصائي وعرضت عليه التقارير فطلب نقلي إلى مستشفى آخر ثم أجرى لي عملية أخيرة ساهمت في إنقاذي من الموت ومن البكم· بعد نجاح العملية كنت لا أزال في المستشفى أمر بفترة النقاهة، فولدت أمي أختي الصغرى فوضعونا بغرفة واحدة· جاء والدي لزيارتنا، وأثناء وجوده معنا رن هاتفه وسمعنا صوت امرأة تصرخ بصوت مرتفع من خلال سماعة الهاتف، وهو متلعثم يقول لها: حاضر·· سآتي حالاً ·· ثم أغلق الخط· سألته أمي: من هذه؟ قال: هذا صديق· كانت الضغوط النفسية التي عاشتها والدتي في الفترة الأخيرة شديدة عليها ما جعلها تتصرف بعصبية معه وطلبت منه أن يخبرها بالحقيقة إن كان متزوجاً من غيرها وصارت تصرخ فقام بضربها حتى أغمي عليها· كنت أراقب كل ذلك وأنا أرتعد خوفاً، حتى شعرت بأنني لم أعد أحب والدي وانه مخلوق مخيف مؤذ لا يحبنا ولا يفكر بنا إطلاقاً· بعد هذا المشهد حدث الطلاق الثالث الذي لا رجعة بعده فارتاحت عمتي وسعدت بالنتيجة التي أوصلتنا إليها· بعد أن حدث الطلاق تقرر توزيعنا على الاثنين فكنت أنا من نصيب والدي، وأخي وأختي الرضيعة من نصيب أمي· بالطبع فإن الأمر تم بلا محاكم ولا قوانين شرعية، فمن العيب عند الأسرة، أن يلجأ المتخاصمون إلى المحاكم فيساء إلى سمعة الجميع إذا طبق القانون، فهم يضعون قوانينهم بأنفسهم ولا حاجة للشرع والقانون ليفصل بينهم، بهذا المنطق المتخلف تم تقسيمنا· أخذني والدي الى بيته· وجدت امرأة تجلس أمام التلفاز تأكل المكسرات بغير اكتراث، قال أبي: هذه أمك·· من الآن أنسي أمك السابقة· نزلت دموعي بلا وعي مني توسلت إلى أبي·· أريد أمي·· هذه ليست أمي· ثم بدأت صفحة جديدة من حياتي· المرحلة الصعبة مع تلك المرأة عرفت وجه الشر وملامحه وتكويناته، عرفت المنافقين وصفاتهم، عرفت الشيطان وفنونه· أمام والدي تعاملني بمنتهى الرقة والطيبة وبمجرد أن يخرج تتحول إلى وحش ظالم يذيقني صنوف العذاب والمهانة· كانت تهددني وتقسو علي حتى صرت أخاف منها خوفاً كبيراً فلا أستطيع أن أخبر أحداً بما يحدث لي عند غياب والدي· من شدة خوفي كنت أفزع في الليل فلا أنام، وفي النهار أتقلب على جمر العذاب وأنا مجرد طفلة في السادسة من العمر· أمي تزوجت من رجل كبير في السن لديه أولاد وبنات كبار متزوجون وانتقلت للعيش في بيته· كانت تلح في رؤيتي وكنت أتمنى أن أعود لحضنها، فتدخل عمي زوج أمي لإعادتي إلى أمي فأفلح في مسعاه بعد سنتين من وجودي عند أبي فانتقلت إلى بيت أمي وكنت خائفة من أن يكون عمي مثل زوجة أبي قاسي القلب متحجر المشاعر، ففوجئت بعد بقائي عندهم بأنه إنسان طيب، رحيم، يخاف ربه ويخشاه ويعاملنا أحسن معاملة جزاه الله عنا كل الخير· بقيت عند أمي لمدة سنتين ثم عاد أبي يطالب عمي بعودتنا إلى بيته، فالعيب كل العيب أن يتربى أولاده في بيت زوج أمهم وهو مازال على قيد الحياة· ليته يفكر بنا بشكل حقيقي ليعرف ما سنعانيه على يد زوجته، ولكنه أعمى البصيرة، أخذنا أنا وأخي بالقوة إلى بيته مرة أخرى وبقيت أختنا الصغيرة عند أمنا· عدت لأجد زوجة أبي على حالها من التوحش والقسوة، فأذاقتنا أنا وأخي صنوف العذاب، حتى امتلأت أجسادنا الصغيرة بعلامات الضرب والعض والتعذيب التي مارستها تلك الشريرة بحقنا· كنت أصبر وأسكت ولا أخبر أبي بما يحدث ولكن أخي كان يخبره بكل ما تفعله تلك المرأة معنا·· فماذا كان يفعل ؟ كان يواجهها فتنكر فيصدقها ويكذب أخي لأنه هو الضعيف وهي القوية المتسلطة التي لا تخاف ربها ولا تخشاه· بقينا لمدة سنتين عند والدنا فأصبحت حالتنا الصحية والجسدية سيئة للغاية فعطف علينا والدنا وأعادنا لأمنا علنا نتعافى هناك· أعادنا على شرط أن نبقى عند أمنا في فترة الدراسة وفي الصيف نذهب إليه لنقضى ثلاثة أشهر من العذاب والجحيم عنده· عندما أذهب إلى بيت أبي تلبسني أمي الذهب والملابس الجميلة فتأخذها زوجة أبي وتخفيها وتعطيني ملابس قديمة لألبسها، وإذا أعطاني أبي شيئاً من المال فإنها تأخذه منا وتحذرنا بأن نخبر والدنا· كنا نمرض فيتصل أبي بأمي فتأخذنا مرة أخرى· ثم قللنا زياراتنا لمنزل أبي حتى قطعناها بشكل نهائي· ولكن المشاكل استمرت بين أبي وأمي بسببنا، فهو يريدنا أن نعود للعيش عنده ويرفض أن ينفق علينا، وهي محرجة بسبب تحمل عمي كافة نفقاتنا لوحده وهو رجل مسن متقاعد راتبه محدود، يضطر للاقتراض من أبنائه لينفق علينا· مرت السنون ووصلت إلى السنة النهائية في المرحلة الثانوية وأنا أتمنى من كل قلبي أن يحس والدي بمسؤوليتنا، يعطينا ما نحتاج إليه، يسأل عنا، يزورنا، يحسسنا بوجوده في حياتنا· حتى الزيارات القليلة التي كنا نراه فيها أو الاتصالات القليلة التي تجري بيننا كان يتحدث فيها عن أمنا كلاماً جارحاً لا نقبله ويعطينا مبلغاً بسيطاً لا يتناسب مع احتياجاتنا الحقيقية· ولا يتناسب مع وضعه المادي الجيد الذي يعيش فيه هو وزوجته بلا مسؤوليات وبلا أطفال· أخي بدأ يضيع منا· أهمل دراسته وصار يتعرف إلى أصدقاء السوء، فالحياة الغير مستقرة التي عاشها أثرت على سلوكه وجعلته قلقاً لا يعرف ماذا يريد· وأنا أجهد نفسي كي أحصل على شهادة تؤهلني للعمل والاعتماد على النفس وتعويض أمي عما عانته من أجلنا· ولكن الزمن بطيء لا يمر بسهولة ولا زالت السنوات الجامعية طويلة أمامي كي أتخطاها وأحصل على عمل· ماذا لو أن والدي أحس بنا وبما نعانيه؟ ماذا لو أعطانا بعض المال فلا يقع العبء كله على زوج أمنا ؟ ماذا لو سأل عنا وجعلنا نشعر بأهميتنا لديه ؟ هو يعتقد بأن مسؤوليته الوحيدة هي أن يستبقينا في بيته، ولكن ألا يعلم بأن مصلحتنا تستقضي وجودنا في مكان آمن نجد فيه الحب والرحمة ؟ ماذا لو تفهّم الوضع على حقيقته ولم يتخل عن مسؤوليته تجاهنا سواء أكنا في بيته أو في بيت عمنا ؟ ماذا لو اتقى ربه فينا؟
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©