الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حتى الحجر يفكر

حتى الحجر يفكر
13 سبتمبر 2012
مع عودة الاشتراكيين إلى الحكم في فرنسا، طفت ظاهرة مهمة على سطح الحياة الثقافية في هذا البلد، الذي أعطى للفكر الإنساني في العالم أبلغ أطروحاته وأهم رموزه. وتمثل هذه الظاهرة في عودة المفكر الاشتراكي جان جوريس الذي اغتيل في عام 1914 لكي يحتل حيزاً من النقاش في المجلات المتخصصة، فيما أخذت سهام النقد تنصب فوق رأس فيلسوف التنوير فولتير. لماذ؟ هنا الإجابة: جوريس في الواجهة في اليوم الأخير من شهر يوليو 1914، قتل الزعيم والمفكر الاشتراكي الفرنسيّ الكبير جان جوريس، بينما كان جالسا في مقهى بحيّ “مونمارتر” بالدائرة الثانية بباريس. فكان اغتياله من أخطر الأحداث التي هزّت فرنسا والعالم قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب الكونيّة الأولى. وخلال هذه السّنة، 2012، وبعد أن عاد الاشتراكيّون الى الحكم، ودخل زعيمهم فرانسوا هولاند قصر “الأيليزيه”، تصدّر جان جوريس الواجهة من جديد كمفكّر اشتراكي كبير، وكزعيم شعبيّ فذّ ترك بصماته واضحة على تاريخ فرنسا الحديث..راسماً صورته الجديدة في الفكر الفرنسي، كتب فانسان بايّون المتخصّص في فلسفة مارلو بونتي يقول: “جوريس الزّعيم السياسي، وجه مشرق وساطع في تاريخنا. أمّا جوريس الفيلسوف فلا يزال مجهولاً. وأنا أعتبر جهل مثل هذا الجانب مظلمة في حقّه. إذ لا بدّ من الإحاطة به لكي ندرك الجوهر الأساسيّ لشخصيّته السياسيّة. وهو ينتمي الى تيّار فكريّ لا يزال مجهولاً هو أيضا، أعني بذلك التيّار الرّوحاني الذي يبدأ مع مان دو بيران (1766 ـ 1824)، ويمتدّ الى برجسون، والذي كان التيّار المهيمن على الفلسفة الفرنسيّة. وفي ذلك الوقت، تمرّد جوريس مع فلاسفة آخرين على فلسفة كانط التي تقول بإنه ليس باستطاعتنا أن نعرف الواقع خلف أشياء. ولكي يدعم موقفه، لجأ الى السايكولوجيا، وإلى تحليل العلاقة بين الوعي والعالم. ورؤيته الميتافيزيقيّة تنطلق من المبدأ الذي يقول إن الرّوح موجودة في الطبيعة، من هنا الرّوحانية. ويبدو هذا الأمر مثيرا للفضول في زمننا الرّاهن. أمّا بالنسبة لجوريس فإنه يعتبر أن الحجر يفكّر. وهو يقوم حتى في خطاباته البرلمانيّة بإقامة تواصل يبدأ من الجيولوجيا ليصل الى ما هو اجتماعيّ!. وفي القوانين العمّاليّة، هو يحافظ على نفس المبدأ. والكلمة الأساسيّة عند جوريس، فيلسوفا وزعيماً اشتراكيّاً هي: الوحدة”. وأمّا لوك فيري، الفيلسوف الذي كان وزيراً للتعليم في حكومة ساركوزي، فيقدم أربعة جوانب أساسيّة في فكر جوريس فيلسوفا، وزعيماً سياسيّاً. وفي ذلك يكتب قائلاً: “بالفعل يمكن القول إن جوريس كان روحانيّاً، بل مثاليّاً. وانطلاقاً من ذلك هو قطع مع الماركسّة في أربع نقاط أساسيّة النقطة الأولى تتعلّق بمفهوم الثّورة. فقد كان جوريس يرفض العنف الثوريّ رفضا قاطعا. وهو يدافع عن الشرعيّة سواء كان في السلطة أم خارجها. والنقطة الثانية هي أن الدولة ليست وسيلة، وليست “البنية الفوقيّة” للطبقة المهيمنة، وإنما هي وسط محايد، وتحكيميّ فيه يمكن أن تكون الطبقة العاملة ممثّلة بواسطة الانتخابات. وثالثا كان جوريس يساند النظام الجمهوري، ويرى أن تربية الجماهير أساسيّة للثورة، وليست نتيجة لها. وأمّا النقطة الأخيرة فتتعلّق بمسألة حقوق الإنسان. وفي هذا المجال هو يرى أن الحريات العامّة والأساسيّة مثل حرية التعبير، وحرية التنقّل مبادئ جوهريّة تسمح بإقامة علاقات بين الناس، وباقتلاعهم من المجموعات الضّيقة، المنغلقة على نفسها”. ولد جان جوريس عام 1859، في “كاستر” ذات الطبيعة السّاحرة، والتي فيها يسمح الأفق الواسع، الرّحب، للخيال بالتّحليق بعيدا. وفي سنوات مراهقته مارس الأعمال الزراعيّة، ليشرع في اكتشاف أسرار الكون والأشياء وهو مستند الى جذع شجرة، أو حاملا حزمة من السنابل. وفي المدرسة، تعلم اللّاتينية والإغريقيّة ليطّلع من خلالهما على أعمال الفلاسفة والشعراء القدامى، وفي دار المعلمين العليا التي انتسب إليها بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، التقى هنري برجسون الذي سيلمع نجمه فيما بعد في سماء الفلسفة الفرنسيّة والعالميّة. وكان في السادسة والعشرين من عمره لمّا انتخب نائبا في البرلمان الفرنسي. وفي هذه الفترة، لفت الأنظار إليه بخطبه الناريّة، ذات اللغة البديعة العاكسة لثقافته الواسعة والعميقة. وفيها كان يركّز على الدّفاع عن حقوق العمّال والفلاّحين والمدرّسين. وفي الصحف الكبيرة، دأب على نشر مقالات فيها يوضّح مواقفه وآراءه في جميع المجالات. وبذلك اكتسب شعبيّة في الأوساط الجماهيريّة فكثر المعجبون به، وكثر خصومه السياسيّون أيضا من أهل اليمين ومن اهل اليسار. فالبورجوازيّة تخشى اشتراكيّته الإنسانيّة، المتفتحة، الرّافضة للعنف الثوريّ. والأحزاب اليساريّة تعتبره مسالم، وخادماً للبورجوازية، ومنحازا لسياستها. ولم يكتف جوريس بإلقاء الخطب، وكتابة المقالات، بل ألّف العديد من الكتب الفكريّة والفلسفيّة أظهر فيها قدراته الفائقة في فنّ الجدل. ومعرفته العميقة بالفلاسفة الكبار الذين بهم يستعين في بلورة أطروحاته من أمثال فيخته، وهيجل، وكانط، وغيرهم. ولم يكن ينقطع عن النّضال على مختلف الجبهات. فهو يهاجم السياسيّين الفاسدين المسؤولين عن فضيحة “قناة باناما”، ويندّد بأعمال العنف والإرهاب التي تقف وراءها مجموعات تدّعي الثّوريّة، وينتقد بحدّة كلّ إجراء يتعارض مع الحريات العامّة والخاصّة، ويطالب بتوفير حياة أفضل للعمّال، وبضمانات قانونيّة لحقوقهم. وفي البرلمان يخاطب النّوّاب قائلا، وقد التهبت نيران حماسه: “لقد أوقفتم الأغنية التي تهدهد البؤس البشري... لكن البؤس البشري استيقظ بصرخات عالية. وها هو منتصب أمامكم مطالبا بمكانه، مكانه الواسع تحت شمس العالم بالطبيعي، المكان الوحيد الذي لن تتمكّنوا من الاستيلاء عليه”. ورغم الهجومات التي يكن خصومه السياسيون من كلّ الجوانب ينقطعون عن شنّها عليه، فإن جوريس ظلّ حتى نهاية حياته المأساويّة متثبّثا بمبادئه، وبأفكاره فلم يتخلّ عنها أبدا. لذلك لم يجد خصومه وسيلة أخرى للتخلّص من زعيم صعب المراس مثله غير رصاصة في الرأس! الوجه آلآخر لفولتير مع كلّ من ديدرو، وعدوّه اللّدود جان جاك روسو، يعتبر فولتير (1694 ـ 1778) من أعمدة فلسفة التّنوير التي مهّدت بأطروحات وأفكار أصحابها للثّورة الفرنسيّة التي اندلعت عام 1789 لتطيح النّظام الملكي، وبسلطة الكنيسة. وبسبب مواقفه وأفكاره المناصرة لقضايا العدل والحرية، والمنتقدة للمسيحيّة ولرجال الدّين حبس وهو في العشرين في العشرين من عمره. كما اضطرّ فولتير للهروب الى المنافي أكثر من مرّة. فعندما كان في الثانية والثلاثين من عمره، أمضى سنتين في بريطانيا، حيث بهرته الحرّيات التي يضمنها الدّستور، والتي تحمي المواطن الإنجليزي من سلطة الملك. ووجد في تقدّم بريطانيا على المستوى العلمي والإقتصادي ما حرّضه على المزيد من توجيه انتقادات لاذعة للنّظام الملكي في بلاده، معتبرا إيّاه مسؤولا عن تخلّفها، وعن شقاء شعبها المكبّل بقيود تمنعه من العمل، ومن التّفكير بحريّة. وفي لندن أتقن فولتير اللّغة الإنجليزيّة، وتعرّف إلى كبار الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين، وعلماء الفيزياء، والرّياضيّات. وهناك كتب مؤلّفه الشّهير “رسائل فلسفيّة” الذي استعرض فيه أهمّ أفكاره في السياسة والفنون والتاريخ والقوانين والديانات، وغير ذلك. وفي برلين، أمضى فولتير أربع سنوات حظي خلالها برعاية من الإمبراطور فيرديريك الثّاني المستنير، والمتفتّح، وترأس أكاديميّة العلوم، وفيها كتب العديد من مؤلّفاته، أشهرها “قرن لويس الرابع عشر”. ولم ينشغل فولتير بالقضايا الفلسفيّة فقط، بل كتب المسرح، وألّف رواية عنوانها “كانديد” استوحى موضوعها من الّزلزال الذي ضرب لشبونة في أواسط القرن الثّامن عشر. وقد جمع فولتير من حقوق مؤلّفاته، ومن عمليّات تجاريّة مربحة، ومن علاقاته بالملوك، وبأمراء أوروبا، ثروة هائلة خوّلت له أن يعيش عيشة مترفة، وأن يسكن القصور الفخمة، وأن يتمتّع السّلطة الماديّة والمعرفيّة التي تمكّنه من أن يكون فاعلا بقوّة في الحياة السياسيّة والفكريّة في بلاده. وتعود شهرة فولتير العالميّة في جزء كبير منها الى أنه رسم بمواقفه الشجاعة تجاه قضايا العدل والحريّة والمساواة صورة المثقف الحديث الذي يرفض الإنزواء في برجه العاجيّ ليكون في قلب المعارك التي تخوضها الجماهير العريضة ضدّ المظالم المسلّطة عليها في مجالات مختلفة ومتعدّدة. لذلك اقتدى به الكثيرون من الكتاب والمفكّرين والفلاسفة المعاصرين من أمثال إميل زولا، وجان بول سارتر، وألبير كامو، وبرتراند راسل، وآخرون. وفي مقال نشرته مؤخّرا مجلّة “لوبوان” الفرنسيّة تحت عنوان “الوجه المتخفّي لفولتير”، استعرض المفكّر الفرنسي روجيه ـ بول دروا جوانب، ومواقف سلبيّة، في مؤلّفات فولتير تتناقض تماما مع ما عرف عنه من تسامح، ومن تشبّث بالمبادى الإنسانيّة السّامية والنّبيلة. وفي بداية مقاله، يشير روجيه ـ بول دروا إلى أن فولتير لم يعد يتمتّع بالشّهرة التي كان يحظى بها من قبل ولم يعد القرّاء في فرنسا وفي العالم يقبلون على مؤلّفاته مثلما يقبلون على مؤلّفات معاصريه من أمثال ديدرلاو وروسو.بل أنه “يكاد يسقط في مهاوي النّسيان”. ويضيف روجيه ـ بول دروا قائلا: “الجميع يعلمون الوجه المشرق لفولتير الذي جعل منه رمزا كبيرا لفلسفة التّنوير، وأيقونة، ومفخرة من مفاخر فرنسا، ومعبودا من الشعب، ومصدرا مؤسّسا للثّورة الفرنسيّة، وللفكر الجمهوري. مع ذلك هناك وجه آخر لفولتير، يكاد يكون مجهولا، ومشوّها لصورته المشرقة، بل إنه يبرزه عنصريّا حاقدا، وغير متسامح”. ومقدّما الأدلّة على ما ذكر، يشير روجيه ـ بول دروا الى أن فولتير لم يعترف في مؤلّفه “مقال في آداب وأخلاق ألأمم” الصّادر عام 1756 بوحدة الجنس البشري إذ إنه كتب يقول: “ليس مسموحا إلاّ للبصير بأن يشكّك في أنّ البيض والسّود، والهوتّنتوت، والصّينيّين، والأميركيّين أجناس مختلفة”. وفي مؤلّفات أخرى هو يبدي كراهيّته للنّساء قائلا بأنهن “ناقصات عقل، وضعيفات جسديّا” مقارنة بالرّجال. لذلك هنّ لا يتحمّلن الأعمال الشاقّة والمرهقة. واعتمادا على أدلّة أخرى، يرى روجيه ـ بول دروا أن فولتير كان معاديا للسّامية، وكان ينعت اليهود بأنهم “أشنع شعب على وجه الأرض”، كما أنهم، أي اليهود “الأمّة التي، من جوانب عدّة، تدنّس الأرض”. لذلك يحمّل فولتير الشّعب اليهودي كلّ المظالم التي سلّطت عليه في مراحل مختلفة من التّاريخ بسبب شرهه للنّفوذ والمال. وربما لهذا السّبب، اعتمدت سلطات فيشي على آرائه المذكورة خلال الاحتلال النّازيّ لفرنسا لتشريع ملاحقتها، واضطهادها لليهود. كما هاجم فولتير الإسلام بعنف وحدّة تماما مثلما فعل مع المسيحيّة واليهوديّة. كما أنه وصف الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بأوصاف قاسية وجارحة. ويكتب روجيه ـ بول دروا قائلا: “كان فولتير يشعل نيرانا من كلّ حطب يحصل عليه. فعندما يهاجم المسيحيّة فإنّ هدفه هو هو انتقاد المسيحيّة بسبب استنادها لـ”العهد القديم”. وحين يندّد بعنف الإسلام فلكي يشهّر أيضا بعنف المسيحيّة. وعندما يمتدح التّسامح في الإسلام، فإنّ غايته هي توجيه سهام نقده للمسيحيّة التي يعتبرها “الديانة الأكثر إثارة للسّخرية، والأشدّ دمويّة، والتي تدنّس الأرض أكثرمن أيّ ديانة أخرى”. ويرى روجيه ـ بول دروا أن فولتير يجسّد بكلّ تناقضاته، وموافقه المتقلّبة صورة فرنسا بوجهها القبيح، وبوجهها المشرق أيضا. فرنسا بإنسانيّتها الكونيّة، وبعنصريّتها، ورفضها للأجناس الأخرى، فرنسا المتسامحة، وفرنسا التي تنفر من الآخر، وتحتقر ديانته وثقافته، وجنسه. فرنسا التي تدعو للمساواة، لكنها في الوقت نفسه تقيم الحواجز بين الطّبقات، وبين الأجناس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©