الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشاهد قاهرية

مشاهد قاهرية
13 سبتمبر 2012
لم يقتصر أثر ثورة 25 يناير 2012 في مصر على السياسة فقط، بل تعداه إلى الكثير من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، ووصل أثرها إلى خارج حدود مصر، وإلى الساحات الأوروبية على وجه التحديد. فقد شهدت أوروبا حركة “15 مارس” التي بدأت في بويرتا ديل الصول (ميدان الشمس) بالعاصمة الأسبانية مدريد في مارس 2012، لتشعل بعدها الميادين الرئيسية في أربعين مدينة أوروبية أخرى، مستوحية حراكها من مجريات ميدان التحرير في القاهرة والميادين المصرية الأخرى، بل وصل الأمر إلى أن هذه الحركة الشعبية الزوروبية عبرت المحيط الأطلسي واحتلت أكبر مراكز رأس المال في العالم “وول ستريت”، والجميع في هذه الميادين يرفع شعارا واحدا: “حرية، عدالة اجتماعية”. ولم يتأخر عالم الثقافة عن متابعة ثورة يناير بميدان التحرير، حيث انتشرت الندوات والموائد المستديرة بوسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة لمناقشة ما يجري فيما أسموه “الربيع العربي”، وعلى أثر هذا الاهتمام بما جرى ويجري على أرض الواقع بدأت بعض دور النشر تتسابق في نشر الجديد الذي يتناول الواقع العربي بالنقد والتحليل، بل إن بعض دور النشر بدأت تفتش في دفاترها القديمة لتصدر العديد من الطبعات الجديدة لكتب نفدت طبعاتها من عشرات السنين، ومن بين تلك الكتب التي صدرت في أسبانيا مؤخرا كتاب “لوحات مصرية” لواحد من أبرز الروائيين والصحفيين البرتغاليين في القرن التاسع عشر “جوزيه ماريا ايسا دي كيروز” (1845 ـ 1900) والذي جمع فيه هذا الصحافي والروائي الشهير مجموعة من المقالات والتحليلات والأخبار الصحافية التي كتبها من القاهرة وبورسعيد والإسماعيلية لبعض الصحف البرتغالية والبرازيلية بمناسبة تغطيته حفل افتتاح قناة السويس عام 1869 وما تبعها من رحلات وكتابات لتغطية وقائع مصرية مهمة امتدت حتى العام 1882، من بينها ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية وتدميرها تمهيدا لاحتلال مصر وإجهاض ثورة عرابي. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام تضم إحداها نصوصا تعكس انطباعات الكاتب عن مصر، والجزء الثاني للأخبار التي تقدم تغطية للأحداث، والثالث يضم مقالات متفرقة وتحليلات تعكس رؤيته كشاهد على تلك الأحداث: في النصوص الأولى التي يضمها كتاب “لوحات مصرية” يصف الكاتب أول رحلة له إلى مصر، وكانت أولى المدن التي هبط فيها مدينة الإسكندرية التي صدمته بقذارتها وبيوتها المتهدمة وشوارعها المليئة بالحفر، رغم أنه وصل إليها وفي ذهنه صورتها القديمة التي عرفها عنها تاريخيا منذ الأسكندر الأكبر وكيف كانت عاصمة العالم الإغريقي والبيزنطي، وكيف كانت مدينة كليوباترا وانطونيو وقصة عشقهما الأسطورية التي خلدتهما معا “انه مكان مليء بالطين، والشوارع مكتظة بحطام البيوت الضيقة البائسة التي تقع على الجانبين”. لقد اكتشف أنه برحلته هذه وصل إلى “شرق” مختلف تماما عما رسمه مستشرقون سابقون عليه، فالقذارة التي واجهته في الإسكندرية زاد من وقعها السلبي حرارة الشمس الحارقة التي تسقط على الرؤوس مباشرة، وربما سرعة خروجه من المدينة باتجاه الدلتا خفف من سلبية هذه الصورة، فقد اتجه جنوبا ثم شرقا ليصل إلى مدينتي بورسعيد والإسماعيلية لحضور حفل الافتتاح الفخم الذي أعدته مصر لقناة السويس وكانت قمته افتتاح أوبرا “عايدة” للموسيقي الإيطالي الشهير “فيردي” الذي كتبها ولحنها خصيصا لهذه المناسبة. وصف خلال عبوره دلتا النيل كيف كان يشاهد مجموعات النساء الجالسات على الشواطئ، والفلاحات العاملات في الحقول، ويصف تلك المشاهد بأنها “عالم تاريخي قديم، عالم مليء بمتناقضات الحياة، وجاء إلى مصر ليبقى”. ربما كان وصفه للقاهرة أكثر ما يلفت الانتباه، بل وينبهنا إلى هؤلاء الذين انتشروا اليوم في شوارع القاهرة ويريدون لها أن تكون عكس ما كانت دائما، فالقاهرة كما رآها تضم: “جميع الأجناس، جميع أشكال الملابس، وكل العادات والتقاليد، وكل اللغات واللهجات، وكل الأديان، وكل المعتقدات، كل ما يخطر على البال يمكن العثور عليه هناك، في شوارعها الضيقة، من شوارع الحي القبطي إلى شوارع القاهرة الإسلامية المثيرة للدهشة والإعجاب رغم عدم التناسق والانتظام الذي يسيطر على بناياتها (...) كل شيء بالغ القدم، كثير منها متهدم وكالح اللون، وآيل للسقوط”. من وصفه لمباني القاهرة ينتقل البرتغالي جوزيه ماريا ايسا دي كيروز إلى وصف البشر بتعدد الألوان التي وصفها من قبل: “زحام كثيف، تجد فيه الحاوي بثعابينه والسقّاء البربري والدرويش”، ولفت نظره الخادم الذي يجري أمام عربة السيد النبيل التي تجرها الخيول ليفسح له الطريق، ومجموعات من الأتراك العجائز، أما أجناس البشر فهم خليط من القبط والنوبيين والسودانيين والمغاربة والإغريق واليهود والرهبان، وعثر حتى على سيدتين تنتميان إلى أحد الأقاليم الأسبانية الواقعة على البحر المتوسط، ونساء من الصعيد وغيرها من أقاليم مصر. رغم مرور الزمن والوقت على هذه الكتابة الصحافية فإنها لا تزال حيوية وتعكس مدى الحرفية التي كان يتمتع بها صاحبها البرتغالي جوزيه ماريا ايسا دي كيروز. اللافت للنظر تلك المقالات التي خصصها الكاتب البرتغالي للغزو الإنجليزي لمصر والتي نشرها في أحد الصحف البرازيلية وكيف أن الاستعمار البريطاني حاول أن يجد حججا واهية ليبرر غزوه لمصر، فقد كان الهدف المعلن حماية الممر الملاحي لقناة السويس أمام حركة النقل العالمية، فيما كان الهدف الحقيقي القضاء على الثورة العرابية، رغم أن تلك الثورة كانت في ذلك الوقت ترفع شعارات أوروبية عن الحرية والعزة والكرامة والديمقراطية، وما أشبه اليوم بالبارحة عندما علل الرئيس الأميركي جورج بوش احتلال العراق للقضاء على “أسلحة الدمار الشامل” والتي لم يتم العثور عليها حتى اليوم. إن هذا الكتاب “لوحات مصرية” للكاتب البرتغالي جوزيه ماريا ايسا دي كيروز يعكس بالدرجة الأولى الدقة التي اتبعها الكاتب في وصف الحال في مصر في الفترة ما بين 1869 و1882 كنوع من محاولة فهم الواقع، وكانت تلك الدقة ربما مفتقدة في معظم ما تنشره وسائل الإعلام الغربية الحالية عما جرى في ميدان التحرير بداية من ثورة 25 يناير وحتى الآن، بل في كل ما جرى ويجري فيما أطلق عليه المحللون اسم “الربيع العربي”، فالكاتب البرتغالي كان يهدف من كتابة محاولة لتفهم ما هو قائم على الأرض وأي أرض، إنها أرض مصر الأسطورية التي يعرف قارئه في ذلك الوقت عنها القليل، أرض تجري عليها أحداث تعد امتدادا لحضارات متعاقبة بهرت العالم، من الفرعونية بحقبها وأسرها المختلفة إلى مصر الإغريقية والبيزنطية إلى مصر القبطية ثم إلى مصر الإسلامية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©