الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تقرير الأسرار..

تقرير الأسرار..
13 سبتمبر 2012
هذا كتاب ضخم تضمن تقرير اللجنة الوطنية التونسية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، وقد تبين أن تونس كانت في عهد رئيس الجمهورية السابق زين العابدين بن علي، ضحية لمنظومة نهبت مقدرات البلاد، فقد جاء في الكتاب ان اللجنة بادرت منذ تسمية أعضائها بالتحول إلى قصر الجمهورية بقرطاج لوضع يدها على الوثائق التي يمكن أن تكشف عديد الحقائق. ولاحظت اللجنة منذ حلولها بالجناح الإداري لقصر الجمهورية وجود أكياس ببقايا وثائق مختلفة، بما يفيد أن عملية تطهير قد ساهمت بإعدام أو تغييب عديد الوثائق ذات الأهمية. ولكن بالرغم من ذلك تولت اللجنة حجز عديد الوثائق واستبدال أقفال العديد من المكاتب التي كانت يمارس فيها البعض من مستشاري الرئيس لمهامهم. وتبين فيما بعد أن عددا كبيرا من الوثائق والمذكرات تدل على ممارسات فساد ومحاباة وسوء استعمال للسلطة وانحراف بالقانون وبالمرافق العامة. واتضح بما لا يترك مجالا للشك أن الرئيس السابق كان يمارس رقابة على كل كبيرة وصغيرة فيما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية التي تدر منافع وكان يوزع هذه المنافع على أقربائه والمقربين منه. وقد تولت اللجنة إعداد تقارير مرفوقة بالبعض من هذه الوثائق وإحالتها على النيابة العمومية. كما تحولت اللجنة إلى قصر “سيدي الظريف” في “سيدي بوسعيد” (المتاخمة لتونس العاصمة) على أساس أنه قصر تابع للدولة وبناء على ما توفر للجنة من معلومات حول قضاء الرئيس وقتا مطولا بمكاتبه بهذا القصر. واصطحبت اللجنة في كل تنقلاتها شخصيات إدارية وأمنية موثوق بها. واكتشفت اللجنة بهذا القصر خزائن مصفحة تحتوي على ما يناهز 42 مليون دينار من الأوراق النقدية (بعضها بالعملات الأجنبية) سلمت إلى البنك المركزي. وعثرت اللجنة على كميات كبيرة من المصوغ فتم ضبطه في قوائم وتسليمه للخزينة العامة. كما عثرت اللجنة على دفاتر إدخار وعلى كشوفات بنكية منها ما يتعلق بحساب رقمي موجود بإحدى دول الشرق الأوسط ويتضمن 27 مليون دولارا. واكتشف كذلك قطعا أثرية وعددها 57 سلمت للمعهد الوطني للآثار. وتبين بالمبنى السفلي بسيدي ظريف وجود مصحة بها أجهزة طبية متطورة وكميات من الأدوية. كما تبين وجود بضائع مختلفة ومعلبة وبكميات ملفتة للنظر بمستودع كبير في ذات المبنى السفلي. وأما بقصر قرطاج وعلى مستوى جناحه السكني فقد اكتشفت اللجنة كمية محدودة من المخدرات وسلاح مذهب وقطعة أثرية تبدو ذات قيمة تاريخية ومالية كبيرة. وبدار الخير بالحمامات عثرت اللجنة على مسدس، وفي إقامة مارينا عثر على مبلغ مالي وأثاث متنوع لا يزال في علبه. أساليب غير مشروعة لقد تبين للجنة كما كشف عم ذلك الكتاب من خلال مختلف الملفات التي تعهدت بها أن ظاهرة الرشوة والفساد انتشرت واكتسحت المجال الاقتصادي وتغلغلت في أجهزة الدولة بدرجات مختلفة، حتى أن الاعتقاد أصبح سائدا لدى العموم أن الحصول على قرارات أو خدمات إدارية أو تبوأ مسؤوليات أو إنتداب في وظيف بالإدارة أو المنشآت العمومية، بات يخضع لدفع رشاوى يختلف حجمها بإختلاف “الامتيازات” التي عليها المنتفعون بها. ولقد توفرت للجنة من خلال ما تعهدت بدرسه من عرائض وملفات، أدلة على وجود ممارسات فساد ورشوة تتعلق بكل مراكز القرار بدأ بالعمدة ووصولا إلى رئيس الجمهورية مرورا بمختلف درجات السلم الإداري والسياسي للدولة كرؤساء بلديات ذات أهمية خاصة وولاة (محافظين) ووزراء من ذوي النفوذ والعلاقة الخاصة بالرئيس السابق وحاشيته. ولقد شمل الفساد جميع المجالات وخاصة التي في إطارها اختصاصات الجهات الإدارية بالمؤسسات الاقتصادية والثروات عموما. ومن أبرز المجالات التي غمرتها ممارسات الفساد والرشوة ومنها: إسناد الأراضي الصالحة للبناء من قبل الوكالات العقارية إلى بعض المقربين بدون وجه حق، في بعض المناطق ذات الأهمية العمرانية والاقتصادية. وكان ذلك يتم بعنوان مكافأة للمقربين بعيدا عن كل معايير الموضوعية التي من المفروض أن تخضع لها خدمات المرافق العامة. والتصرف غير القانوني في أملاك الدولة كتعمد تغيير طبيعة الملك العمومي كما تبين ان: إسناد الصفقات العمومية لا يخضع وفي كل الحالات للتراتيب القانونية، إذ خلافا لما يقتضيه تشريع الصفقات العمومية، يقتصر دور اللجنة العليا للصفقات على دراسة الملفات وتقديم مقترحات لرئاسة الجمهورية. وفي بعض الحالات يعمد هذا الأخير لإسناد الصفقة لغير الفائز القانوني بها، فضلا عن كون كراسات الشروط توجه أحيانا عند وضعها بطريقة تؤول بها الصفقة للمؤسسة التي يرغب الرئيس السابق في تمتيعها بها. وكشف التقرير ان إسناد الرخص الإدارية لممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية كتوزيع السيارات كان يتم أساسا لفائدة أفراد عائلة الرئيس الذين استأثروا بغالبية رخص توريد وتوزيع السيارات. كما ان انشاء المساحات التجارية الكبرى أصبح منذ قانون سنة 2003 يخضع للترخيص، واستأثر المقربون من الرئيس السابق بهذا الإمتياز، تماما كما هو الشأن بالنسبة لبعض الصناعات كالإسمنت والسكر ونقل المحروقات أو رخص إستغلال المقاطع أو حصص تربية التن ورخص بيع الكحول التي أصبح رئيس الجمهورية السابق يقرر إسنادها شخصيا من خلال الجداول التي تعرضها عليها الوزارات المعنية ليقرر في شأنها ما يراه. كما أن ترخيص تصدير الإسمنت كان حكرا على أفراد عائلة الرئيس السابق والمقربين منه إذ يقرر لكل منهم حصته. واثبت التقرير: سوء استعمال السلطة للمؤسسات المالية، إذ تم توظيف المنشآت العمومية منها وكذلك البنك المركزي لخدمة مؤسسات اقتصادية على ملكية أفراد عائلة الرئيس السابق ومقربيه. وقد مثل التخلي عن الديون وإسناد القروض بدون الضمانات الكافية، أهم التجاوزات على حساب المال العام. وكشف الكتاب ان منظومة الفساد والرشوة تكونت بصورة تدريجية وتدعمت شيئا فشيئا، فأحكمت قبضتها على الدولة والمجتمع وتجسمت عناصرها، خاصة، داخل عدد من المؤسسات السياسية والإدارية والقضائية للدولة. كما شملت تنظيمات سياسية وعلى رأسها الحزب الحاكم السابق، وأخرى اجتماعية وعدد من وسائل الإعلام والاتصال، فأدت إلى إرساء سلوكيات ومواقف في المجتمع أثرت على العقلية الجماعية. ونتيجة لذلك فانه تم استبطان توجه ما إنفك يتعمق، بين أفراد المجتمع، يرتكز على اعتبار الوصول إلى المصالح الشخصية والبحث عن الامتيازات والإثراء السهل وغير المشروع يتحقق بكل الوسائل، وذلك بتسخير القانون وتوظيفه وبالإفلات منه عند الحاجة وانتهاكه بكل الصور في كل الحالات. فكل شيء يمكن أن يأخذ أو ينفك بحق أو دون حق وبالقانون أو خارجه. واستنتج رئيس اللجنة وفق ما جاء في الكتاب أن التصرفات قامت على الإستقواء واستعراض العضلات وعلى الترهيب والتهديد، وكذلك على التملق والتلاعب والخزعبلات والتدخلات والرشوة وكل أنواع الفساد. وقد ساعدت عدة عناصر على قيام هذا الوضع منها خاصة: ? الممارسة الاحادية لسلطة لا تحدها سلطة أخرى ولا تقيدها ضوابط وأخلاقيات، وهو ما أدى إلى التبعية والخوف والعمل على إحلال منطق الرعية محل منطق المواطنة. ? التصور الكلياني للسلطة، وهو تصور يجعل من الماسك بها، أي في آخر الأمر، رئيس دولة، يتدخل في كل المجالات العامة منها والخاصة وذلك إلى حد التدخل في الحياة العائلية للبعض والتصرف أحيانا في حرمتهم الجسدية، فضلا عن قيامه بدور المتصرف المطلق في جميع الشؤون على اختلافها. ? الإنفراد بالحكم كغنيمة يتقاسمها الرئيس وزوجته وأفراد عائلتيهما والمقربين منهما ومن تألفت قلوبهم بعنوان السرقة والنهب. ويتجسم هذا التصور لدى عدد منه الإداريين وحاملي لواء السلطة من عمد وأعوان أمن وإداريين ومسؤولين وغيرهم ممن لهم تأثير ونفوذ. ولئن كان الأمر كذلك فلأن الرقابة الناجعة كانت مفقودة أو صورية وسخرت لغايات ليست بغاياتها، ولأن كل محاولة للحد من السلطة والنفوذ كانت تجابه بالقمع والردع، فانتشر الظلم وعم القهر. عشرة آلاف ملف وكشف الكتاب ان اللجنة تلقت أكثر من عشرة آلاف ملف إلى غاية صياغة هذا التقرير درست منها ما يفوق عن خمسة آلاف وأحالت على القضاء أكثر من 300 ملف، تعلق كل ملف منها بالعديد من الأطراف مع الإشارة إلى أن عددا هاما من العرائض لا يدخل ضمن اختصاص اللجنة، كما تضمن عدد آخر إدعاءات مجردة لم يتم إثباتها، فضلا عن الملفات المتضمنة لوشايات وتصفية حسابات شخصية. ومن المهم القول أن عددا كبيرا من المسائل التي تضمنتها عديد الملفات، تم فضها بمساعدة الإدارات المعنية، كما أن عددا من الممتلكات والأموال وقع استرجاعها. وجاء في الكتاب ان المؤمل أن لا تكون مكافحة الفساد مسألة عرضية وأن تشكل إحدى ثوابت الدولة مستقبلا تدرج في الدستور الجديد بناء على مبادئ الشفافية والمساءلة خاصة، علما وأن مقاومة الفساد وإن كانت ضرورية، فهي تبقى محدودة البعد ما لم تتزامن مع الوقاية منه ومع تغيير ما ترسخ بالعقول وما شاب الأخلاق من استخفاف وزيغ. وكشف الكتاب ان اللجنة واجهت منذ مباشرة مهامها صعوبات مرتبطة بتشعب المجالات التي شملتها ممارسات الفساد والرشوة من قبل دائرة أصحاب القرار والتأثير الفعلي والوسطاء، مما حتم استنباط منهجية عمل لمعالجة الظاهرة ومحولة تفكيكها وإحالة ملفات الأفراد التي تتوفر بشأنهم شبهة الرشوة والفساد وسوء استعمال السلطة والفساد المالي والإداري على النيابة العمومية قصد إجراء التتبعات القانونية. واكد التقرير ان اللجنة فتحت ملفات على غاية من الأهمية بناء على ما يرد عليها من معلومات أو وثائق من مختلف المصالح والأشخاص وبناءا على بحثها في مكاتب وأرشيف رئاسة الجمهورية الذي حجزته لغاية التقصي. وعملت اللجنة منذ شروعها في إنجاز مهمتها على استدعاء كبار المسؤولين في الدولة من وزراء ومستشاري رئيس الجمهورية السابق ومديرين عامين بالإدارات المركزية أو مسيرين للمنشآت العمومية وكذلك أصحاب الأعمال المقربين من الرئيس السابق أو الذين ترد بشأنهم معلومات تدخل في نطاق اختصاص اللجنة. ولقد مكنت بعض جلسات الإستماع من الحصول على معلومات مفيدة تدل على حجم الفساد والرشوة الذي كان متفشيا والذي امتد إلى مختلف قطاعات الاقتصاد، وذلك بالرغم من ميل عدد كبير منهم إلى التحفظ وإعلان براءته، بل أن عددا منهم غالبا ما يقدم نفسه على أنه ضحية للنظام السابق في حين أن بعضهم قد استفاد بصورة مجحفة من قربه من النظام وأن بعضهم كان يأتمر بإمرة المقربين من الرئيس السابق طيلة سنوات عديدة. ولقد تولت اللجنة توجيه إحالات إلى النيابة العمومية يتجاوز عددها 300 إحالة، وذلك إلى غاية 28 أكتوبر 2011 مع العلم أن أهمية الملفات المحالة للنيابة تختلف من حيث حجم الفساد والرشوة ومن حيث مركز المسؤولين المعنيين بالممارسات المشبوهة، وعدد الأشخاص المعنيين فيها ولا يزال عدد هام من الملفات محل بحث وتقصي لتتم إحالة كل ملف على النيابة ريثما يصبح جاهزا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©