الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسافر في أرض الحيرة الكبرى

مسافر في أرض الحيرة الكبرى
13 سبتمبر 2012
عندما انتهيت من قراءة الديوان الجديد “أسمّي الرّدى ولدي” للشاعر المعروف حبيب الصّايغ، الصّادر هذا العام عن دار الانتشار العربي في بيروت، والذي هو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، لا أعرف كيف قفزت إلى ذاكرتي، تلك العبارة التي يقارب بها أدونيس تجربة الشاعر أبي العلاء المعرّي، حين قال: “يبدو شعر المعرّي كأنّه يقذف بالقارئ في مناخ من الضّياع، أو لنقل العدميّة بوصفها جوهر العالم”. مناطق محرّمة يتوغّل الشاعر حبيب الصّايغ بنا من خلال هذه القصيدة ـ الديوان، في تلك المناطق المحرّمة من أرض الشّعر، تلك المناطق المفخّخة بأسئلة الوجود الإنساني، والتي تنزّ من أطرافها عصارة الألم. وبالمناسبة فإنّ الشّعراء قليلاً ما يرتادون هذه المناطق، إذ هم أغلب الأحيان ينشغلون بهموم العيش المتداولة، وبالجماليات التي توفّرها لهم خيالاتهم المدرّبة. القليل القليل منهم فقط من يشذّ عن القاعدة، فيتطوّع إلى أن يغوص في وحل ذلك الوجود الهشّ، ويسرد الكارثة! وينبغي أن أعترف هنا لأقول إنّ القصيدة أخذت منّي وقتاً طويلاً لقراءتها. لقد قرأتها مرّات عديدة، وفي كلّ مرّة كانت تبدو عسيرة على الهضم! طبعاً أنا لا أقصد من وراء هذا التوصيف أن أنتقص من الشعريّة العالية التي تتمتّع بها القصيدة، أو النّيل من تفرّدها على مستوى الكتابة الشعرية العربية، ولكنّني أردت أن أشير إلى الهموم التي تثيرها قراءة هذا النوع من الشعر، الأمر هنا يشبه أن تتجرّع كأساً عظيمةً مطفّحة بالنّار! منذ البداية يفاجئنا الشاعر بعبارته الغريبة، ويقذف بنا في اللجة: “أسمّي الرّدى ولدي/ وأسمّي الحجارةَ فلذةَ كبدي”. أمّا مصدر الحيرة التي تلفّنا جرّاء العبارة السابقة، فهو كامن في تلك المزاوجة بين طرفين نقيضين: الحياة والموت، إذ الرّدى/ الموت هنا هو ابن للشاعر أو الكائن! أمّا الحجارة الصّلبة الخالية من الحياة فهي فلذة كبده! فيما سبق تعوّدنا على عكـس ما تقوله هذه الأطروحة، إذ الإنسان والحياة في جانب، والموت في جانب نقيض تماماً. تعوّدنا أن نقول مثلاً، إن الإنسان يناضل باستمرار من أجل الانتصار على الموت. إذن العبارة السّابقة تنطوي على لغز ما، ولعلّ أمر هذا اللغز سيتّضح لاحقاً. نشيد الفقد العظيم تلك العبارة التي أطلقها الشّاعر، سوف تصبح بمثابة لازمة في نشيد الفقد العظيم الذي يندلع من حنجرته، ليغمر الأنحاء. يتوغّل الشاعر في شعاب الشعر، كما لو كان يتوغّل في أرض غربته. في هذه الأثناء سوف تهبّ عليه الفواجع من كلّ صوب، وسوف يكتشف عمق الهوّة الوجوديّة، التي تتربّص به، والتي تفتح ثغرها الهائل لتبتلع كلّ شيء. عند ذلك لا يجد الشاعر من سبيل أمامه، سوى أن يهتف بمرارة، ذلك الهتاف الحارق الضاري: “الطّريق الطّويل، النّبيلُ، الأصيلُ، الجميلُ إلى آخر المدحِ ليس طريقي ومستقبلي يا صديقي في حريقة صدري والسّراج الصّغير المعلّق في سقف قبري” لقد وضعنا الشاعر من خلال المقطع السّابق أمام الجدار! وأشار إلى طبيعة المأساة التي تغلّف الحياة الإنسانية، فأيّة مكائد مدبّرة يحيكها لنا الثّعلب الموت، في طريق الحياة، الحياة التي تتفتّح لنا أزهارها الجميلة المخاتلة، والتي سرعان ما تذبل وتتلاشى!! لغة ملغزة وهاذية: في محاولته لمقاربة المأزق الوجودي، يلجأ الشاعر حبيب الصّايغ إلى استخدام لغة خاصّة، مكثّفة وموحية، لغة تشير وتومئ، أكثر مما تصف وتقول. لغة ملغزة وهاذية هي أقرب إلى لغة العقل الباطن، أو لغة الحلم الذي يتحرّك حركةً رمزية أثناء النّوم، والذي نقوم بتأويله فيما بعد، بتأويلات متعدّدة: “أحاولُ أنْ أتناولَ حبلَ وريدي بأيدٍ مواربةٍ ومحايدةٍ لونهُ أخضر أو بدا لي وَوِجهتُهُ وِجهتي وهو أستاذ قفزِ حواجزَ في ما بدا لذلك أدنيتُ منّي الرّدى وسمّيتُهُ ولَدا” فالذي يطالع المقطع السابق، ويحاول أن يحصل منه على معلومة محدّدة، وثابتة، سوف يفشل بالتأكيد، ذلك أنّ لغة هذا المقطع بعيدة عن التقرير. الطريق الوحيدة لاستيعاب ما يضخّه المقطع السابق من أنفاس ورؤى، تكمن في التّعامل معه كما لو كان حلماً. لا بدّ من الإشارة هنا، ونحن نتحدّث عن لغة القصيدة، إلى الطبيعة المخاتلة لهذه اللغة، فالأسلوب السّردي المتتابع يوحي للقارئ بسلامة المغامرة، ولكنّه أي القارئ سرعان ما يكتشف الخديعة، ويدرك أنّه أمام لغة متحوّلة تفترسه، وتقوده باتّجاه المجهول. إنّ ما يحدث مع القارئ هنا هو شبيه بما حدث من قبل مع الشّاعر نفسه، حين ضلّلته اللغة التي كتب بها، ولم توصله سوى إلى مزيد من الضّياع: “أسمّي الرّدى ولدي وأسمّي الحجارة فلذةَ كبدي وأسمّيكِ يا لغتي لغتي وأسمّيكِ منفاي” هكذا تصبح اللغة منفى للشاعر، أمّا الحروف فهي حتوف كما يقول الشاعر في مقطع تالٍ. النتيجة الحاسمة لكل ذلك الضّياع هي أن الشاعر وجد نفسه مقذوفاً في التّيه: “محض تيه وهو فيه نبيٌّ جديدٌ ولا أحدٌ يصطفيه” أرض الحيرة الكبرى يمثّل التيه الذي يبلغه الشاعر هنا، ذروة المأزق الوجودي، وذروة الشّعر أيضاً. لقد وصل الشاعر إلى الحقيقة المرّة التي تقول: إنّ إقامتنا على هذه الأرض هي إقامة طارئة، وكفى. إذ لا حلّ يمكن له أن يتخلّق، لا كوّة يمكن لها أن تنفتح في الجدار الصّلب الذي يقمّط حياتنا. ولعلّ هذا التّيه هو غاية الشّعريّة التي لا تبحث عن حلول، بقدر ما تطلق الأسئلة. بعبارة أخرى يمكن لنا أن نقول إنّ التّيه الذي يواجهه الشاعر هو بصورة من الصّور الشّعر نفسه، ذلك أنّ الشعر تيه وضلال وشكّ، وهو أرض الحيرة الكبرى، التي يتقرّاها الشاعر ويتقرّى أشياءها بالحدس، الحدس الذي يستيقظ مثل الصّباح ومثله، وينهض قبله، فيفرك عينيه، ثمّ يهيل التّراب على وجهه، ويهيل السنين على الشكل، شكل السّديم، كما يقول الشاعر. يتحسّس الشاعر جسده، موجوداته، لغته، تاريخه، ليفكّك حزمة الألغاز التي باتت تطوّق كيانه، ولكن دون جدوى. يذهب الشاعر إلى قصّة حرب بن أميّة، والد أبي سفيان، الذي قتلته الجنّ، ودفنته في مكانٍ غير معروف، وهتفت للناس من فوق المرتفعات التي تحيط بمكّة، بذلك البيت الغريب: “وقــبر حربٍ بمكــانٍ قفـر وليـس قــربَ قبرِ حـربٍ قبر” لكنّ الشاعر لا يجد غير المزيد من عبث المحاولة، حين يكتشف أنّ حرباً المغدور ما هو إلا رمز لجموع عظيمة باتت تُقتَل وتُغيَّب: “وحربٌ على المستوى النّحويّ وحيد ولكنّه في الحقيقةِ جمعٌ وضجّتُهُ أقبلت، تُقبِلُ الآن” من الوجوه التي يستحضرها الشاعر في هذا المجال، وجه أليف من أجداد حزنه البعيدين، المشاركين له في استقراء المحنة. وأعتقد أنّ المقصود به هنا هو الشاعر الجاهلي (النّمر بن تولب)، الذي يقول في إحدى قصائده: “ألا يا ليتنــي حجــرٌ بـــوادٍ أقــامَ وليـتَ أمّـي لم تلـدني” يُعتَبَر هذا البيت من الشعر النادر في تاريخ الشعر العربي كلّه، الذي يقارب من خلاله شاعر قديم، الفاجعة الوجودية بكلّ هذه الحساسيّة والعمق. هنا يحدّق الصّايغ في صاحب ذلك البيت، فيجد أنه ذهب أدراج الرياح: “فيا ليتَ أجداد حزني يجيئون حتى أوائم بين نكاتي وأكفانهم ليتني حجرٌ واضحٌ قاله شاعرٌ غابرٌ ثمّ أضحكه الموتُ حتى استوى جدولاً وجرى” ملل فاضح في هذه الأجواء المشحونة بعبث المحاولة يلجأ الشاعر مرّةً أخرى إلى استخدام تلك اللغة الهاذية السّاخرة المجنونة. يتّضح ذلك في المقطع التالي: “فهذا الحيادُ يقود إلى مللٍ فاضحٍ/ مللٍ فاضحٍ وصحيح/ مللٍ فاضحٍ وصحيحٍ ومبتذَل/ مللٍ فاضحٍ وصحيحٍ ومبتذلٍ وصريحٍ”. وتظلّ الكلمات تتكرّر وتدور وتتناسل، كأنها عرقٌ ثخينٌ يتفصّد من كيانه، إلى أن يصل به الأمر، إلى قمّة السخرية والفضائحيّة، وذلك حين يقول: “مللٍ فاضحٍ، وصحيحٍ، ومبتذلٍ، وصريحٍ، ومنتقمٍ، وجبانٍ، ومستوحشٍ، ودعيٍّ، ومنتَهَكٍ وحمارٍ/ ويلعبُ بي/ وبرقعة شطرنجيَ الملكيِّ/ قلاعي، خيولي، وجندي/ أنا اللاعبُ الأوّلُ المستفيقُ على الجهل”. أمام هذه الخيبة المرّة التي تعصف بمصير الشاعر، يبلغ الهذيان أوجه في القصيدة. هنا تلحّ على الشاعر رغبة عارمة في عناق الموت، ومعرفة أسراره، وتلمّسه عن كثب. الأكثر من ذلك فالشاعر يعلن عن رغبته في الإطلالة على مشهد موته: “أحاول تحقيق موتي النّهائيّ أن أتفرّجَ وحدي وفي موكبٍ وعلى مهلٍ وبطيئاً بطيئاً على جثّتي وهي تمشي أو هي تعبر” المرأة الحلم بموازاة كلّ ذلك القنوط، ماذا عن المرأة؟ هل يمكن للمرأة أن تكون حلاً بشكل من الأشكال؟ ينشغل الشاعر في الثّلث الأخير من القصيدة بالمرأة. في هذه الأثناء تهبّ عليه رياح الأنوثة، لتخفّف عنه شيئاً من وطأة الكابوس الذي يطحن روحه، هنا يبدو اغتباطه بالمرأة واضحاً، لكنّ المرأة التي تبرز له في القصيدة هي امرأة حلميّة أكثر منها امرأة واقعيّة، أمّا عن علاقته بها فهي علاقة على حافة الحلم، ليست أقلّ ولا أكثر، كما يقول. ولأنّها امرأةٌ حلم، فهي لا تنكشّف له بسهولة: “ومكانكِ ذاكَ القصيّ فلا هو في الحلْمِ، لا هو خارجه لا أنتِ في خاطري لستِ في اليدِ أو في المآقي”. لكنّ المشكلة سرعان ما تطفو على السّطح مرّة أخرى، فهذه الإشراقة الخاطفة التي يحقّقها حضور المرأة، تتمّ في لحظة ترقّب وخوف، جرّاء الموت المخاتل الذي يتهدّد كلّ شيء، وذلك ممّا يفسد الحب: “كأنّكِ هدهدُ روحي وحطّ على ألمي المستطيلِ فكيف أنام ونومي حرامٌ وحلمي حرام ومستقبلي وطنُ الموت؟” وهكذا يشتبك كلٌّ من الحب والموت على المسرح نفسه، مسرح الوجود: الحبّ يضيء الأمل بالحياة، والموت يَنْقَضُّ ليبطش. وعلى الرّغم من الغلبة الظاهرة للموت، إلا أنّ الأمر يبدو أعقد ممّا يُظَنّ: “حياتي تدلّ على الموتِ هذا صحيح ولكنّها لا تدلّ عليه بهذي السّهولة” في المقطع الأخير من القصيدة يذهب الشاعر إلى نشدان الخلود، وفي هذه الحالة يصبح كل شيء ممكناً: من ممارسة النوم، إلى القراءة إلى اختراع الأباطيل، أو مصاحبة الأسد في الغاب... وحتى التّسلّي بالموت، وعندها يدخل الموت ليعاتبه الشاعر قائلاً: “وحتى إلى الموت تلحقني ياولد”؟ كما يوجب الظّنّ يفلح الشاعر في أنسنة الموت، خاصّةً وهو يرى أنّه جزء أساسي من طبيعة الحياة الإنسانية، يصاحب الإنسان منذ الولادة ويكبر معه، حتى إذا بلغ الكائن ذروة اكتماله، تقدّم منه الموت وأمسك بيده ليكون دليله في التّيه الجديد. غير أنّ كلّ ما تمّ استقراؤه في هذا المشوار العاصف مع القصيدة، سرعان ما يتبدّد، وذلك حين يقول الشاعر على حين غرّة: “لا أميلُ إلى اللغة الجارحة فلا مطري ممكنٌ ولا قدري وإنّي أحاول موتي وإنّي أرتّبُ موج حياتي كما يوجبُ الظّنّ” هنا يبدو كلّ ما كتبه الشاعر، وكل ما توصّل إليه محض ظن، وفي تصوّري أنّ المقطع السّابق مثّل حجر الزاوية في بناء القصيدة، ذلك أنّ الشعر في الأساس فنّ قائم على الظّنّ. وكان العبقري الكبير أبو العلاء المعرّي قد وصّف الحالة قديماً حين قال: “أمّا اليقينُ فلا يقينُ وإنّما أقصى اجتهادي أن أظُنَّ وأحدُسا” “أسمّي الرّدى ولدي”، هو عمل شعري مهمّ آخر، يضيفه الشاعر حبيب الصّايغ إلى رصيده الخاص، وإلى رصيد الشعريّة العربية، وينبغي لنا هنا أن ننوّه بتجربة الصّايغ التي لا تشبهها تجربة أخرى، وفي جرأته على المغامرة، وخوض المواضيع الصّعبة. ولعلّ هذا الديوان، الذي هو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، قارب الشاعر من خلالها الوجود القلق للإنسان والكون، يكون خير دليل على ما نذهب إليه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©