الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جعجعة تقنية بلا طرح إنساني

جعجعة تقنية بلا طرح إنساني
13 سبتمبر 2012
ازداد اهتمام صناع الأفلام بهوليوود في الآونة الأخيرة بهاجس البحث عن صور وخيالات المستقبل البشري على الأرض، وقراءة هذا المستقبل من جانبه الأكثر دكانة وسوداوية، اعتماداً على تنبؤات وتحليلات أقل ما يمكن وصفها بأنها تحليلات غارقة في التشاؤم، ومستندة على حطام وأطلال المعارك الكونية وخطورة وحساسية الصراع بين الهويات والمرجعيات المختلفة، والتي باتت تتنافس في اختراع أشد الأسلحة دماراً، وأكثر التقنيات العسكرية فتكاً ومن دون انتباه إلى أن ميزان القوى بين هذه الجبهات المتناحرة بات هشاً وغامضاً وموعوداً بنتائج كارثية إذا اندلعت مواجهة حقيقية ومباشرة بينها. وهي قراءات وتحليلات مخيفة قدمتها عدة أفلام خلال العام المنصرم، مثل الجزء الرابع من سلسلة “الرجل العنكبوت” للمخرج مارك ويب ومع ممثل جديد هذه المرة هو أندرو جارفيلد الذي شاهدناه في فيلم “الشبكة الاجتماعية” كأحد مؤسسي موقع الفيسبوك، “الرجل العنكبوت” ينتقل سريعاً إلى المستقبل من خلال الهوس التدميري لأحد العلماء الباحثين عن التفوق بأي وسيلة وبمبررات تتخطى الضمير المهني والمعايير الأخلاقية التي تذهب ضحية لهذا السعار التقني والعلمي المتعلق بعلم الجينات والطفرات المذهلة القادرة على توليد كائنات خارقة من رحم المختبرات العلمية المغلقة على أسرارها ونواياها المعتمة. الحال نفسه تنطبق على الجزء الثالث من فيلم “الرجل الوطواط” الذي عرض قبل فترة في الصالات المحلية، ورأينا فيه مدينة غوثام الخيالية والمستقبلية، وهي تتحول إلى ساحة قتال شرسة وبخسائر فادحة وتضحيات صعبة حتى على صعيد الممثل الرئيسي في الفيلم “كريستيان بيل” الذي لن يظهر بالتأكيد في الأجزاء التالية من الفيلم، بعد أن ذهب به المخرج كريستوفر نولان إلى الخيار الأكثر مرارة، وهو موت البطل، من أجل إحياء الأمل في المبادئ التي اختار أن يقف هذا البطل بجانبها حتى الرمق الأخير. فيلم “استدعاء كامل” Total Recall المعروض حالياً بصالات السينما في الإمارات، لا يشذ عن القاعدة التي انبنت عليها أفكار وتصورات الفيلمين السابقين، غير أنه يترجم عنوانه حرفياً، حيث يستدعي وبشكل كامل فيلم تم تقديمه بالاسم ذاته في عام 1990 من توقيع المخرج بول فيرهوفين وتمثيل أرنولد شوارزنيغر، وشارون ستون في وقت مبكر من شهرتهما السينمائية، وفي وقت مبكر أيضاً من عمر التقنيات البصرية والمؤثرات الخاصة، والتي كانت للتو تتشكل كظاهرة جديدة ومربحة لتقديم سينما الخيال العلمي ونقل محتوى الروايات المستقبلية إلى الشاشة بأقل التنازلات الفنية، وبأقل التغييرات القائمة على التحوير والإبدال في المفاصل الأساسية لهذه الروايات. يقتبس فيلم “استدعاء كامل” فكرته العامة وثيمته المكثفة من قصة قصيرة نشرها الكاتب فيليب ك. ديك في أواسط الستينات بعنوان: “قادرون على استعادة ذكرياتك بالجملة”، وظلت هذه القصة مهملة إلى أن التقطها المخرج الهولندي الأصل بول فيرهوفين صاحب الفيلم الشهير “غريزة أساسية”، وعمل على توسيع نطاق الصراع في القصة والقائمة على استدعاء ذاكرة رجل استغلته القوى المهيمنة على كوكب المريخ كي تتغلغل إلى أسرار وخبايا الأرض، من أجل التمهيد لغزو هذا الكوكب المليء بالموارد والثروات، ورغم التقنيات المتواضعة مقارنة بما توفره هوليوود حالياً، إلا أن فيرهوفن استطاع أن يقدم فيلماً ناجحاً متماسكاً ومقنعاً على مستوى الحفاظ على إيقاع العمل بشكل عام، وعدم سقوطه في فخ التنازلات المثيرة للسخرية والتهكم. النسخة الحديثة والمتطورة من “استدعاء كامل” تقع هذه المرة تحت إدارة المخرج الشاب لين وايزمان مخرج أفلام عدة معروفة مزجت بين الإثارة المشهدية والخيال المستقبلي مثل “ستارجيت”، و”رجال بزي أسود”، و”يوم الاستقلال”، و”غودزيللا”، وصاحب السلسلة المتتابعة من فيلم “أندر وورلد” والذي يستعيض في فيلمه الجديد بالروبوتات والجنود الآليين بدلا من وحوش كوكب المريخ في النسخة القديمة من الفيلم، ويحل النجم “كولن فاريل” مكان شوارزنيغر، وكيت بيكنسال مكان شارون ستون، مع الاستعانة بالممثلة جيسيكا بيل في دور المرأة المقاومة والملاك الحارس للبطل المُستغَل من القوى المهيمنة على الأرض أو على ما تبقى منها بعد حرب كيميائية طاحنة لم تنج منها سوى بقعتين وحيدتين في العالم هما بريطانيا وأستراليا. يحكي الفيلم قصة العامل دوغلاس كويد “كولن فاريل” الذي يعيش بعد الكارثة الكيميائية في مستعمرة محمية من الغازات هي قارة استراليا والتي تتبع إداريا السلطة المتحكمة فيما تبقى من الكوكب ومقرها بريطانيا، وعندما يشعر هذا العامل بالرتابة والاكتئاب وبضغط الحلم الأشبه بالكابوس الملتصق بمناماته كل ليلة، يقرر - رغم معارضة زوجته الجميلة (تقوم بدورها كيت بيكنسال) ومعارضه صديقه في العمل ـ أن يزور عيادة متخصصة في الكيمياء العصبية، بحيث يدخل المرضى اليائسين من روتين حياتهم الممل والمحبط في عالم افتراضي من الأحلام التعويضية الشافية والقادرة على انتشالهم من فوضى الحواس والتشويشات المحيطة بهم. لجوء كويد لهذه المصحة يتحول فجأة إلى كابوس حقيقي من الملاحقة والمطاردات المثيرة المترتبة من تعرف السلطات على حقيقة هذا العامل واكتشاف ماضيه الحافل بالتمرد والنضال، كونه الرأس المدبرة والقائد الحركي لفصائل المقاومة في المستعمرة، كويد وبعد أن يستعيد ذاكرته الأصلية يكشف لنا عن قدراته القتالية الهائلة، ويتحول فجأة إلى العدو رقم واحد بالنسبة للسلطة المركزية في بريطانيا، والتي انقلب السحر عليها عندما أرادت أن تستغل كويد بعد مسح ذاكرته كي يكون هو العميل المزدوج القادر على كشف خبايا وأسرار المقاومة والأماكن التي يلجأ إليها أفرادها كي يتم تدميرها ومسحها من الخارطة. وتتكشف خيوط اللعبة الماكرة للسلطات عندما يعرفنا الفيلم تدريجيا على حقيقة المحيطين بكويد في حياته العادية فزوجته ما هي إلى عميلة للسلطات وكذلك صديقه المقرب، بينما في الطرف المقابل نرى صديقته الحقيقية لوري ـ جيسيكا بيل ـ وهي تقاتل بجانبه وبشراسة مطلقة حتى لا تفقد المقاومة أحد أهم عناصرها، والتي تم إخفاؤها وتزييفها لفترة طويلة في دهاليز المستعمرة الأسترالية. يحضّر رئيس جهاز الأمن كوهاجن ـ يقوم بدوره بريان كرانستون ـ لحملة مكثفة من أجل القضاء على كويد وجماعته في المقاومة ويحشد جيشاً من الجنود الآليين الذين عمل لفترة طويلة على تعزيز قدراتهم القتالية من أجل إحلالهم مكان الجنود البشريين في خطة خبيثة وأنانية تمكنه من السيطرة على كل المناطق المتبقية من كوكب الأرض وتنصيب نفسه زعيما عليها. ورغم كل الوسائل المخادعة التي اتبعها كوهاجن من أجل الإيقاع بكويد وبزعيم المقاومين ماثياس ـ يقوم بدوره الممثل المخضرم بيلي ناي ـ إلا أن كويد وبمساعدة لوري يخرجان من المتاهة النفسية والجسدية الكبيرة التي يختلط فيها الواقع بالفنتازيا، كما ينجوان من المطاردات الشرسة وغير المتكافئة ومن الالتحام العنيف مع الجنود الآليين في المستعمرة الموبوءة أصلاً بالفقر والفوضى والهجرات العشوائية والهويات المختلطة والسلوكيات المتطرفة والهمجية، خصوصا مع إهمال الحكومة المركزية في بريطانيا للمستعمرة وسيطرتها على الموارد التي يتم نقلها في قطار هائل يخترق الأرض كي يصل في دقائق معدودة إلى العاصمة لندن المتمتعة برفاهية خاصة ومغيبة عن سكان المستعمرة. لم تستطع النسخة الجديدة من فيلم “استدعاء كامل” ـ رغم ثورة التقنيات والمؤثرات البصرية الطاغية على الفيلم ـ أن تقدم اشتغالاً سينمائياً متفوقاً على نسخة التسعينات، حيث كان الإبهار الصرف هو هدف الفيلم ومبتغاه الأساس برغم وفرة المواضيع والمعالجات النفسية والفلسفية حول التشويش الذاتي والاغتراب الاجتماعي المقرون بالعزلة وصراع المبادئ المتناقضة وتجاذبات الواقع والحلم، وغيرها من المداخل الرصينة التي ذابت أو انسحقت تحت الماكينة الضخمة من الديكورات المعدنية والضجيج والأضواء والمشاهد واللقطات المستقبلية والتي جاءت مثل خلطة بصرية مقتبسة من عدة أفلام خيالية رأيناها في السابق مثل “حرب العوالم” و”حرب النجوم” و”روبوكوب” و”السيد والسيدة سميث” و”تقرير الأقلية” وغيرها من الأفلام التي حاولت أن تضيف جديدا وأن تبتكر معالجات فنية وموضوعية مستقلة ومدهشة لم نجدها في الفيلم، وافتقدها المخرج وايزمان، الذي قدم لنا بضاعة لامعة تجارياً، ولكنها وفي العمق كانت منطفئة وخاوية تماماً من اللمسة السينمائية المتفردة ومن التعاطف الروحي والتواصل الذهني مع حكاية القصة ومضامينها والتي لم تستثمر لا على صعيد الأداء التمثيلي، ولا على صعيد البناء الدرامي المكتمل أوالمتوازن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©