الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

باتريك زوسكند يسرب العلاقة الخفية بين الحب والموت (1 ـ 2)

24 ديسمبر 2006 01:06
ترجمةـ فهيمة جعفر: '' في الحُبِّ وَالموت''، هو عنوانُ الكتابِ الذي خرجَ طازجاً من المطابعِ للروائي وَالكاتب المسرحي وَالسينمائي الألماني باتريك زوسكند، الذي قدَّمَ سابقاً لقرائه عدداً من الأعمال المميزة أشهرها رواية ''العطر'' التي تصدَّرت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً وَحُوِّلت مؤخراً إلى عملٍ سينمائي، إضافةً لأعمالٍ أخرى مثل ''الحمامة'' وَ''حكاية السيد سومر''· في كتابه الصادرِ مؤخراً، يُقدِّمُ زوسكند رؤيته للصلةِ الخفيةِ بين الحُبِّ وَالموت، سابراً غور أمثلةٍ أدبيةٍ وَميثولوجيةٍ وَواقعية· نُقدِّمُ ترجمةً لجزءٍ منه: الموتُ كموضوعٍ للحديث أليسَ الموتُ أنموذج الموضوع الذي لا حديثَ فيه ؟ مهما تحدّثنا بمرحٍ عنِ الحبِّ، فالقليلُ يقالُ حولَ الموت· قيلَ لنا كان الموتُ مختلفاً في العصورِ السالفة· كانَ طَلِق اللسانِ عذبَ المعشر، جُزءاً من المجتمع وَالعائلة، لم يتفادوا مواجهته، وإن لم يكُن صديقاً مقرّباً، فقد كانت علاقتهُ بالبشريةِ جيدةً على الأقل· طرأ تغيرٌ جذريٌّ خلال القرنين الماضيين، صمتَ الموتُ وَأمرنا أن نلتزمَ الصمت·· وَكنّا سعداء بالإذعانِ لأمره ؛ كُنّا في واقعِ الأمرِ نصونُ صمتاً مميتاً· لأننا نجهل كلَّ شيءٍ حوله - هذا ليسَ سبباً ليطبق الشخص فمَه كما هو معروف - لا، بل لأنّهُ روحُ السلبِ السرمديِّ، مُفسدُ المتع وَهادمُ اللذات بما تعنيه الكلمةُ من معنىً، وَلا حيلة لنا معَ شخصياتٍ كهذه في زمننا الحاضر· إذن كيفَ يمكننا ربطَ هذا المتحفِّظ البغيض بـ ''إيروسü ü'' الشهواني المَرِح، ليسَ كنقيضهِ -وَهو ربطٌ يبدو متسقاً أكثر- بل كرفيقه وَكيفُ يمكن أن تصدرَ المبادرةُ لنيلِ رفقةٍ كهذه لا عن ثانوتاس üü ü(هذا المخلوق الفظُّ أشدُّ كسلاً وَاكتفاءً بذاتِه من أن يبادرَ بذلك)، بل عن إيروس نفسه، هذا المثيرُ، الفاتنُ، وَالمصدرُ الظاهريُّ لكُلِّ اندفاعٍ خلاق · في قصّةِ أوسكار وايلد، تقعُ الأميرةُ الجميلةُ سالومي في غرامِ متعصّبٍ دينيٍّ أجبنُ من أن ينظرَ لها حتّى· لكنّهُ أعمىً وَشجاعٌ بما فيه الكفاية ليدفعَ حياته ثمناً لرفضه لها· وَبعدَ أن يُقطعَ رأسُهُ بأمرٍ منها، تُقبِّلُ بغبطةٍ شفتيه الميتتين وَهما تقطران دماً، وَتخبرُنا أن لغزَ الحبِّ أعظمُ من لغزِ الموت· قد نعترضُ قائلين: ''وَمن تكونُ سالومي هذه ؟ مجرّدُ صبيةٍ مدللةٍ في الثانيةِ أو الرابعةِ عشر من عمرها، لا تعرفُ سوى القليل عن الحب، وَلا شيء إطلاقاً عنِ الموت·'' بيدَ أن توماس مان نفسه ، الذي كان فائق الذكاء، وَضليعاً في الأمرين، يربطُ بينَ الحُبِّ وَالموت ليسَ في أعمالهِ فقط، بل في سيرةِ حياته أيضاً· في غمرةِ افتتانِه بنادلٍ شابٍّ يلتقيه وهو عجوزٌ في الخامسةِ وَالسبعين من عمره، خلالَ إجازةٍ يقضيها في زيورِخ، يقولُ إنه ''يكادُ يتمنّى موتَه·'' وَيكتبُ في مذكراته: ''وداعاً إلى الأبدِ أيها الفتى الساحر سأعيشُ قليلاً، وَأنجزُ قليلاً، ثمَّ أموت· أنتَ أيضاً ستنضجُ في حياتكَ التي تمضيها، وَتموتُ يوماً ما يا لكِ من حياةٍ عصيةٍ على الفهم، تثبتُ ذاتها في الحُب''، لكنَّ ''ثانوتاس'' و''إيروس'' لا يلتقيان فقط في لحظةِ الفِراق والهجران، حيثُ التياع الحب· في رأي ستاندال - الذي ينبغي وصفهُ كخبيرٍ في الأمرِ- الحُبُّ بشكلٍ عام مصاحبٌ مزمنٌ للموتِ· وَيكتبُ: ''يجعلُ الحُبُّ الحقيقيُّ من فكرةِ الموتِ اعتياديةً، سهلةً، وَغير مرعبة، يصبحُ مادَّةً بسيطةً للمقايضة ؛ الثمنَ الذي يكون الواحدُ مستعداً لدفعه لقاءَ الكثير·'' نتفهّم كلا الموقفين: الموقفَ الذي يلتمسُ في الموتِ خلاصاً من ألمِ الحُبِّ المضني، وَالآخرَ الشهم الذي يتقبّلُ الموتَ كمجازفةٍ لا مفرَّ منها في سعيهِ إثرَ فريسته الإيروسية، لا سيّما في الأزمان وَالمجتمعات التي تُسَلُّ السيوف وتُشهَرُ المسدساتُ فيها بسرعة · لا يمكنُ اعتبارُ أيٍّ من الموقفين نموذجيّاً وَجديراً بالمحاكاة، بل الأحرى أن يُعزى لطبيعتهِ المجنونةِ وَالمرضيّة واقعاً، واعتباره اضطراباً مؤسِفاً ذا باعثٍ إيروسيّ· غيرَ أنَّ بوسعنا تفهم أمرٍ كهذا، أي يمكننا وضع أنفسنا مكان أولئك الأشخاص الذين يموتون أو يقتلون أنفسهم لأجلِ الحُب· لو لم يكُن ذلكَ بالوسع، كيفَ استطعنا إذن قراءةَ ''أحزان الشابِّ ويرثر'' أو''آنا كارنينا'' أو''مدام بوفاري'' أو''ايفي بريست'' دونَ أن تحرِّكَ مشاعرنا ؟ لكنَّ النقطة التي ينتهي عندها التعاطف وَالتفهّم وَيتضاءل الاهتمام هي حينَ يرمي ''إيروس'' üü üü نفسه بقوّةٍ بين ذراعي ''ثانوتاس'' - في تناقضٍ تامّ - كما لو كان سيتّحدُ به، النقطة التي يلتمس فيها الحُبُّ شكلَه الأرقى وَالأنقى - أي كمالَهُ- في الموت· تبدأُ هذه العلاقة المشؤومة مبكّراً منذُ أوائل القرنِ السادس عشر - كما يخبرنا بذلك فيليب آرييه في كتابه ''ساعةُ موتنا'' -، في ذاكَ الوقت حوَّلت الفنون البصريَّةُ رقصةَ الموتِ القروسطيَّة المظلمةَ لكنِ المحتشمة، إلى رقصةٍ إيروسيّةٍ داعرة· لاحقاً تتخذُ هذه الظاهرة ملامحَ ''نيكروفيليّة necrophiliac ''، متبوعةً بمظاهرَ ساديّة قبلَ ظهور دي ساد نفسه، فشقَّت طريقها إلى الأدب· تمَّ اختلاق خرافةِ انتصابِ الرجل المشنوق، وَهي سخفٌ محض· أدخلت اللغة الفرنسية المصطلحَ (la petite mort ) كمرادفٍ لهزّةِ الجماع، وهو تعبيرٌ يبدو عندَ النظرةِ الأولى صادِماً وَحسناً (وَلرُبَّما أريدَ له في الأصلِ أن يبدو متناقضاً) لكنّهُ عندَ النظرةِ الثانية يبدو غيرَ ملائمٍ إطلاقاً· وَأخيراً تفرطُ هذه الظاهرة في النضجِ في القرنِ التاسع عشر، حبُّ الموتِ وَالموتُ حبّاً يبلغُ أوجَ نشوتهِ: ما ''أناشيدُ لليل'' لـ نوفاليس إلا قصائدُ حبٍّ طَرِبَةٌ تخاطبُ الموت، وفي نهاية الفترة الرومانتيكية تظهر ''أزهار الشر'' لـ بودلير التي تمزجُ الواقعيَّ بالغرائبي، باعثةً رائحةَ العفنِ الحادّةَ السامَّة· عنهُ كتبَ أناتول فرانس: ''ينتشي برائحةِ الجثث كما لو كانت عِطراً مثيراً''· رسائلُ ''هنريك فون كليست Heinrich von Kleist'' الأخيرة كانت مفعمةً بمرحِ الحياةِ وَالحماسةِ الإيروسيّة، بعدَ أن اعتادَ فكرةَ الانتحار· ظلَّ أشهراً يبحثُ عن امرأةٍ مستعدةٍ للموتِ معه، وَأخيراً وجدَ ضالته في امرأةٍ مريضةٍ وَكئيبةٍ وحمقاء بما فيه الكفاية لتتحمَّس لتأديةِ الدور ـ زوجةٍ لموظفٍ مدني - يفكّرُ المرء كم كانت حياتها عاديةً، كئيبةً، فاترةً، وَمليئةً بالشكوك الدينية وكانت تنشدُ ذروةَ متعتها في القتلِ بالرصاص كتبتْ له ملاحظاتٍ متَيَّمةٍ بحبّه، وَكتب لها رسائل حُبٍّ لا نظيرَ لجمالها في اللغةِ الألمانية· كانَ يركعُ صباحاً ومساءً ''شاكراً الربَّ على حياةٍ ملؤها العذاب'' أكثر من أي حياةٍ أمضاها شخصٌ آخر، لأنّهُ ''كافأني بأسمى ميتةٍ وأكثرها شهوانية·'' ü قاصة ومترجمة من السعودية üü إيروس - إله الحب وَالشهوة الجنسية في الميثولوجيا الإغريقية· üü üü ثانوتاس Thanatos : رمز الموت في الميثولوجيا الإغريقية· üü üü جميعها أسماء روايات لـ غوته، ليو تولستوي، غوستاف فلوبير، ثيودور فونتين، ''على التوالي'' ، أبطالها يخوضون تجارب حُبٍّ يائس· يكتبُ لابنةِ عمه - التي ظلّت مؤتمنة أسراره حتى ذاك الحين- ما يشبه برسالةِ اعتذارٍ قبلَ أسبوعٍ من موتِه المدبَّر، يطلبُ منها أن تتفهَّم أنه وجدَ امرأةً أخرى - زوجةَ الموظفِ المدني - وَهو يحبُّها أكثر: ''هل يواسيكِ قولي إنّي ما كنتُ لأؤثِر إطلاقاً تلك الصديقةَ عليكِ لو أنّها أرادت فقط العيشَ معي؟ '' لكنَّ ابنة عمّهِ للأسف رفضت مراراً اقتراحهُ بأن يموتا معاً، في حينِ أن تلك ''الصديقة المؤلَّهة '' وافقت في الحال، وَ''لا أستطيع أن أصفَ لكِ القوةَ العظيمةَ التي تجذبني بها موافقتُها إلى صدرِها''· فيضٌ من الغبطةِ - لم يعرف له من قبل مثيلاً- يغمره، كما يقول· وَينتهي إلى القول: ''وَليس بوسعي الإنكارُ أنَّ قبرها أحبُّ إليَّ من فراشِ إمبراطوراتِ العالمِ كافّة''· وَلا يغفل عن إضافةِ تحيةٍ قصيرةٍ يخبرُ فيها ''صديقته العزيزة'' - يعني بذلكَ ابنة عمّه- أنهُ يتمنى من اللهِ أن يقبضَ روحها عاجلاً ''إلى ذلكَ العالمِ الأفضل، حيثُ يمكننا جميعاً ضمَّ قلوبِ بعضنا البعض بحُبِّ الملائكة- وداعاً '' انتُقِدَ غوته عندَ قوله عن كليست - وَهو بالمناسبةِ يعترفُ بعبقريته - أنْ لطالما غمرَهُ ''بمشاعرِ الرُعبِ وَالنفور''· قد يتفقُ معه المرء ''ماذا غيرُ ذلك ؟ '' وَيضيفُ أنَّ المعنى الأصلي لمفردةِ ''نفور'' لا تنطوي على ازدراءٍ، بل تعني جفولاً غريزياً، ''نَفْضَةً''، للإبقاءِ على شئٍ في منأىً عن طبيعةِ الشخص - وَهو موقفٌ معقولٌ خاصةً إذا كانت طبيعةُ هذا الشخص غيرَ محصَّنةٍ تماماً ضدَّ المُرعبِ وَالمنفر· فراشةٌ تقتحمُ اللهب (2-2) باتريك زوسكند ترجمةـ فهيمة جعفر*: نتابع في الأسطر التالية ما انتهينا إليه أمس من سرب باتريك زوسكند للعلاقة بين الموت والحب من خلال هذا الفصل '' فراشة تقتحم اللهب '' المترجم من كتابه الجديد '' في الحب والموت '': يندرجُ انتحار ''ورثر'' تحتَ صنفٍ مختلفٍ عن انتحارِ كليست بالطبع· قَتَل وِرثر نفسه أو ''ضحّى بحياته'' لأجلِ محبوبته كما يقول، لأنَّهُ حُرِمَ الحياة مع ''لوته جُُُّّم'' - كما يعتقدُ هو على الأقل· كليست - من جهته - كان مفتوناً طيلة حياته بالانتحار، ناظِراً لمواثيق الانتحار كتعبيرٍ أقصى للمودَّةِ وَالإخلاص المتبادل· وَينتحر آخر الأمر برفقةِ شخصٍ آخر لأنه يأملُ أن تهبه هذه التجربة ما يمكننا وصفه بـ النشوةِ الإيروسيةِ القصوى· غيرَ أن هناكَ أوجه شبهٍ بين رسائل الوداع ''المتخيّلة'' التي كتبها ورثر لـ لوته، وَبين رسائل كليست الأخيرة لابنة عمه وأخته، وَهي ليست مجرَّد صيغةِ تواصلٍ نثرية بل هي عمل أدبي راق· بالمثلِ أيضاً، لفعلِ الانتحارِ بناءٌ متقنٌ لدرجةٍ مرعبة - في تخطيطه وَتنفيذه المتكامل، وَفي توثيقه الأدبي وَأثره المحسوب على العامَّة، وَيمكن وصفه واقعاً - وَعذراً لاستخدامِ هذا التعبير- بـ تحفةِ كليست الأدبية· يقرُّ ورثر بأن الفكرة المهتاجة بقتلِ ألبرت، زوجِ لوته، أو قتلِ لوته نفسها، قد تسللت إلى رأسه، بدلاً من الانتحار، إذ أنَّ ''على واحدٍ منا نحن الثلاثة أن يغادر''· لم يقترح أن يموتا - لوته وهو- معاً، بل ماتَ مدّعياً أنَّ ذلك سيجعلها ملكه للأبد· سيسبقها فقط إلى عالمٍ آخر وَينتظرها هناكَ حتّى تأتي· وَعندئذٍ '' سأطيرُ إليك، أمسكُ بكِ، وَسنغرقُ في عناقٍ أبدي على مرأىً من السرمدية'' كما يكتبُ لها· حديثهُ هذا لا يذهبُ بعيداً عن انتحارِ كليست الإيروسي· بعد أن نضجَ غوته ما عاد يحبّذُ تذكيره بأمورٍ كهذه· على الرغمِ من كونِ ''آلامِ ورثر الشاب'' أساسَ شهرته، صرَّح بأنَّ هذا العمل من الماضٍي قد تجاوزَه، وَنعتَ المتحمسين الذينَ آذوا أنفسهم احتذاءً بِـ ورثر، مغفلين وَذوي طبائع هشة وَيستحقونَ ميتةً حمقاءَ كهذه· لا عجبَ إذن أن يسبب له كليست -الذي كانَ هشّاً - الاضطراب، وثمَّة أمرٌ مريبٌ في طريقةِ نبذهِ ليسَ للرجلِ فقط، بل لعملهِ أيضاً ناعتاً إيّاهُ بالسخفِ البربريّ· ذلكَ أنَّ الإغراءات التي تعرَّض لها كليست فاستسلمَ لها دون مقاومة لم تكن غريبةً عن غوته· بعدَ العديد من السنوات - ومضيِّ وقتٍ طويل على وفاةِ كليست- يكتبُ غوته قصائدَه الأشهر، نُشِرت أوّل الأمرِ في مجلةٍ نسائيةٍ تحت عنوان )ضٌٌُمَلَِّه كمال( ثُمَّ تالياً بعنوان )سمٌىهم سموََِّّكوُّ اشتياقٌ بهيج ( في طمَُّّ-فَُّّمَْ ىًّفَ : في خمسِ رُباعيّاتٍ بتقفيةٍ متقاطعة؛ يبيّنُ البيت الافتتاحي بإيجازٍ أن التالي لا يخاطب أي شخصٍ، بل قلةً من العقلاءِ فقط: أَنْبئ العقلاءَ فقط، فالعامّةُ ستزدري فكرةً كهذه· ثُمَّ يباشرُ فكرته بقرعِ طبلٍ أجوف: أبجّلُ تيك الأرواح الحيَّة التي تتوقُ لموتٍ محموم· ثُمَّ يصنعُ مجازاً من الصورةِ التي فتنته طيلةَ حياته، صورةِ الفراشةِ وَهي تندفعُ نحو موتها·· منجذبةً دونَ مقاومةٍ للشعلةِ الملتهبة· يضعُ هذا المجاز مقابل خلفيةٍ معتمةٍ معتادة؛ رسْمٍ بقرائنَ شديدة الإيروسية: في هدأةِ ليالي العشق المتناسلة كما تتناسلُ أنت، شعورٌ غريبٌ يحلُّ عليكَ مؤتلِقاً، تحتَ لهبِ شمعة· خَللَ الظلالِ، ما عدتَ تحتملُ الترقٌّبَ في سكونِها المعتم· مثقلٌ أنتَ باشتهاءاتٍ أشدّ لرفقةٍ أسمى· عاجزةٌ المسافةُ عن لجمِ تحليقك، مترعاً بالحُبِّ على أجنحةٍ رشيقةٍ، قدِمتَ أخيراً، تشتهي النورَ، كفراشةٍ تقتحمُ اللهب· حتّى ينتهي إلى القولِ في البيتِ الأخير، الذي باتَ مشهوراً وكَثُرَ الاستشهادُ بهِ رغمَ تحذيرِ المؤلفِ في استهلاله: حتّى يحين الموتُ الأخير، ذاكَ التجلي، يضمّك إلى صدرِه، ما أنتَ سوى عابرٍ كئيبٍ على هذه الأرضِ المعتمة متريّثاً، يصعّدُ أنفاسَه هنا· كان غوته شديدَ التحفّظِ حيالَ نشرِ قصائدَ معينة، آثرَ أن يغلقَ عليها الدرجَ ككنزٍ خاص، وَلا يخرجها إلا لقلةٍ مجتباة· من الجديرِ بالملاحظة أنَّ العديد من سونتاته الفينيسيّة، وَمراثيه الرومانية، وَقصيدة ''المذكرات'' وَقصائد إيروتيكية مشابهة ظلَّت حبيسةَ الأدراجِ، في حينِ سنح للقصيدة التي اقتبستُ منها للتوِّ أن تُنشَر في مطبوعةٍ رصينة· فهيَ الأكثرُ جرأةً من بينِ هذه الأعمال، ومؤلفّها ليسَ بأقلَّ تطرّفاً من كليست الذي وصفهُ بالبربريّ· صحيحٌ أنَّ كليست يتناولُ عِرْقَهُ المتأصّلَ دونَ إبهامٍ، وَلا يحيدُ أبداً عن صراطه، بينما يمكنُ القول عن غوته - بمحاولته تخفيفَ حِدَّةِ الموضوع- أنّهُ يتركُ ثغراتٍ لتأويلاتٍ محتملة: دينيةٍ، وَميتا-صرفيّة، وَإبستمولوجيّة ''معرفيّة''· وفي حينِ نجدُ نبرةَ كليست حادَّةً، وَمتفاقمةً، وَمهتاجة، يُهَدْهِدُنا غوته بترفِ نغمهِ اللفظي وَنَفَسِ حكمةِ الشيخوخةِ المطْمَئنة· وَبذلكَ يُلهينا عن الافتتانِ المُرعبِ الذي يحتلُّ تفكيره كما يحتلُّ تفكيرَ كليست: هذا التوق الإيروسيِّ للموت· كانَ ريشارد واغنر أقلَّ حرجاً حيالَ الأمر· لا الغِنى الموسيقيّ وَلا الحوار وَالحَدَث تمكّنا من حجبِ التنافر الرهيب في ''تريستان وَإيسولد'' · يحلُّ الغروب حتى في الجزء الأولِ من الافتتاحية· في الفصل الأوَّل يُقدَّمُ سمٌّ زعاف ثُمَّ يتضحُ أنه ترياقٌ للحب؛ وَفي الفصلِ الثاني تنقلبُ أمسية الحبِّ إلى ساعةٍ مسخّرةٍ ''للتوقِ موتاً في الحب'' - الـ ''ليبستود '' - لكن ليسَ بتكتمٍ كما هو ''شعور غوته الغريب'' تحتَ ضوء شمعة، بل بابتهاجٍ وَمرحٍ وظفر- مقتربةً بذلكَ من روحِ كليست لكن في لغةٍ أبسط -كما يليق بأوبرا- · وَفي الفصل الأخير كلُ شئٍ على المحك: عندَ عودةِ إيسولد إلى تريستان -الذي يرغبُ بها بشدة- لتتمكّنَ من مداواته وَالعيش معه، يمزّقُ الضمادات التي تلفُّ جرحه ليندفعَ نحوها، نازفاً حتى الموتِ وَمحتضراً بين ذراعيها· تنزعجُ لفترةٍ قصيرة لفشلهِ في الالتفاتِ للتوقيتِ المناسب بحيث يصل مبكّراً، ثُمَّ ''تحدّقُ في جسدِ تريستان في نشوةٍ متتأججة'' لتطلقَ الأورغازم الأطول في تاريخِ الموسيقى (سبع دقائق ونصف تقريباً) قبلَ أن تسقطَ بدورها ميتةً بينَ ذراعيه· * زىكوفْل طفهَمْ: موسيقار ألماني عظيم، وَ''تريستان وإيسولد'' هي واحدة من أشهر مسرحيات الأوبرا التي نظمها· ** جىمقمَُُّّل: تعني ''الموت حبّاً'' ، وَهي التسمية التي تطلق على استهلال الفصل الأول من أوبرا ''تريستان وإيسولد''·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©