السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الآنسة كركليم

الآنسة كركليم
20 سبتمبر 2013 21:04
افتتحت مكتباً لمزاولة إحدى المهن، واخترت لوظيفة المندوب شخصاً يقرأ حرف (W) على أنه (M) بالمقلوب، ثم نشرت إعلاناً إلكترونياً عبّرت فيه عن حاجتي لسكرتير في مستوى شكسبير. بعد دقائق كان سيل من الرسائل الإلكترونية ينحدر إلى بريدي، وأعتقد أنني تلقيت أكثر من مئة سيرة ذاتية في يوم واحد. كان أول شيء فعلته هو استبعاد من يتقنون العربية والإنجليزية معاً، فأنا أبحث عن شخص يتقن الإنجليزية بشرط الجهل التام بالعربية، لكن لم يكن بالإمكان وضع مثل هذا الشرط في الإعلان. بعد إبعاد الناطقين بالضاد، رشحت خمسة من غير الناطقين بها ليفوز واحد منهم في النهاية بكرسي السكرتير. لم أجرؤ على التواصل معهم هاتفياً، وأخذت أدعوهم للحضور عبر رسائل إلكترونية «رسمية»، وكتبت إليهم بالحرف الواحد: عزيزي فلان، وبعد التحية، وصلتني سيرتك الذاتية، ويسعدني أن أقدم إليك العرض الوظيفي التالي، فإذا وجدته مناسباً، فأرجو الحضور لإجراء المقابلة الشخصية، وتقبل تحياتي. وحين أقول بالحرف الواحد، فأنا أعني ما أقوله، لكنني بطبيعة الحال لم أرسل الرسالة كما هي، وإنما ترجمتها في «جوجل» ثم بعثتها بعد إدخال تغيير طفيف في بعض التراكيب اللغوية التي ما زلت أذكرها من أيام المدرسة. حددت موعداً لمقابلتهم ما بين التاسعة والواحدة ظهراً، وعكفت على إعداد حوار توظيف بالاستعانة أيضاً بـ»جوجل»، تبدأ بالترحيب، ثم بالدعوة للتفضل بالجلوس والتحدث عن نفسه، ثم بـ»مناقشته» بشأن الوظيفة، ثم بالطلب منه كتابة رسالة لعميل متخيَّل، وأخيراً، بالوقوف لشكره على الحضور. لكنني بقيت أتدرب على ذلك «الحوار» حتى الثانية، ولم أسمع طرقاً واحداً على باب المكتب. رحت أسألهم عن بُعد: ما دمتم غير مهتمين بالوظيفة، فلم أرسلتم سيرتكم الذاتية يا..؟! وقبل أن أبدأ التنقيب في طلبات أخرى، أخذت أقرأ الرسائل التي بعثتها لهم، فربما كنت قد نسيت صفراً من أصفار الراتب الشهري، فلم يناسبهم العرض الوظيفي، لكن كانت الأرقام سليمة، إلا أنني فوجئت بأن رسائلي كلها تبدأ هكذا: (Dear Mr/Miss Curriculum Vitae). إذن هذا هو السبب، وجدوا أنفسهم غير معنيين بالحضور لأن الرسائل غير موجهة إليهم أصلاً، وإنما للشخص الأول الذي بعثت إليه ثم نسيت تغيير الاسم مع البقية. ومع هذا، فلِم لم يحضر الشخص الأول المدعو كركليم فيتا؟ وتذكرت أنني كنت أغير الاسم في كل مرة، وكنت أنقر على فصوص الكمبيوتر أثناء كتابة أسمائهم بدقة وبعناية و»حبّة حبّة»، فماذا جرى؟! قررت أن أقطع الشك باليقين وذلك بالعودة إلى سيرتهم الذاتية، وكانت المفاجأة التي لا تصدق، فهذا الهندي ذو الشارب، وهذا السيرلانكي الأسمر، وهذه الفلبينية المتحجبة، وهذه الهندية التي تبدو كعبقرية، وهذه الفلبينية ذات الشعر المنكوش، يحملون الاسم نفسه رغم اختلاف جنسهم وجنسياتهم ودياناتهم؟! إذن المشكلة لم تكن في الرسائل، رغم أنني متعجب الآن من كوني قد كتبت اسماً واحداً خمس مرات من دون أن أنتبه إلى ذلك. ولم أكن حتى هذه اللحظة قد حككت رأسي، وما أن بدأت الحكّ حتى اكتشفت كل شيء، وهو أن (Curriculum Vitae) يعني «السيرة الذاتية»، وكانت هذه العبارة تتوسط سيرتهم الذاتية ومكتوبة بخط كبير، فاعتقدتُ أنها أسماؤهم، خصوصاً أنني لم أكن أقرأ، أثناء الجرد والتصفية، إلا البيانات الخاصة باللغة وسنوات الخبرة. وبدأت أحلل القضية على ضوء «الكركليم» الجديد، وقلت لابد أن الرجلين اعتقدا أنني أمزح. أما الآنسات الثلاث، فأغلب الظن أنهن اعتقدن أن المكتب مرآب سري، وأن العرض الوظيفي مصيدة، وأنني مختل العقل لا أطلب سكرتيرة وإنما ضحية لأعلقها بخطّاف وأنهال عليها ضرباً بالعقال، فلا يمكن أن يكتب إنسان سوي رسالة يقول فيها: عزيزتي الآنسة السيرة الذاتية. ولم يكن بالإمكان دعوة هؤلاء الخمسة للحضور من جديد، فالخطأ الذي ارتكتبه كان غبياً بدرجة تمس باعتباري الشخصي، وأغلب الظن أنهم يحتفظون الآن بتلك الرسائل للضحك عليّ كلما شعروا بالملل. اخترت خمسة آخرين وبعثت إليهم، وفي تمام الساعة التاسعة حضر أولهم، وبعد دقائق كنت أصافحه مودِّعاً. وبطبيعة الحال، كان الحوار بيني وبينه يتم بطريقة «الكركليم»، مع اعتمادي الكامل على الحوار «الجوجلي» المكتوب والمعروض أمامي على شاشة الكمبيوتر. لم أكن مهتماً بالإنجليزية طوال حياتي، فدراستي كانت بالعربية، وعملي كان باستمرار في أماكن حكومية، وكل ممارستي لهذه اللغة اللعينة لم تكن تتعدى طلب فنجان قهوة أو قطعة بيتزا. ولم أصاحب في حياتي غير العرب، ولم أسافر إلى أي دولة تتخذ من اللغة الإنجليزية لغةً أم. ولم أقرأ صفحة كاملة بالإنجليزية، بل لم أحاول فعل ذلك، وبقيت ثلاثة عقود أؤجل مشروع تعلّم الإنجليزية، وفي السنوات الأخيرة قررت التوقف عن التأجيل، والمبادرة إلى إلغاء المشروع برمته بسبب الاقتراب من سنوات النهاية، وانتفاء الحاجة إلى الإنجليزية في الحياة الأخرى. لكنني هذه المرة أخوض تجربة العمل الخاص، واللغة الأولى فيها هي الإنجليزية، ولابد من وجود سكرتير يفك عقدة لساني، لأستطيع مجاراة العملاء. ولابد أن يجهل هذا السكرتير أي شيء له علاقة بالعربية، ولابد أن يكون المندوب أسوأ حالاً مني ولا يميز حتى بين الحروف الإنجليزية، لئلا ألجأ إليه ليكون حلقة الوصل بيني وبين شكسبير، ويتحول من مندوب للمكتب إلى مترجمي الخاص أثناء محادثاتي الثنائية مع السكرتير. وهكذا، أجد نفسي مرغماً التحدث بالإنجليزية مع سكرتير مكتبي، بعد أن أصبحت ممارسة هذه اللغة مسألة حياة أو موت، ونجاح أو فشل. لكن بدلاً من أن أزداد ثقة مع كل مقابلة، كان لساني يزداد ربطاً، وأذناي احمراراً، وملامحي وقاراً مفتعلاً لئلا يستدرجني المتقدم للوظيفة في حديثه إلى مناطق غير موجودة في خريطتي اللغوية. لكنني لم أكن ذلك المغفل الذي يستقبل شخصاً في مكتبه ليضحك عليه، فهم كانوا يسيطرون على الوضع أثناء الحديث، وأنا أفرض سيطرتي حين أطلب منهم كتابة رسالة بهدف اختبار قدراتهم، وهو اختبار نفسي وليس لغويا بطبيعة الحال. فكنت أتعمد تغيير لغة الكمبيوتر إلى العربية قبل وصول المتقدم للوظيفة، وحين ينتقل للكتابة، أخرج وأعود بعد قليل وفي يدي كوب شاي، فأجده قد احمر وجهه ويضحك من نفسه ويقول إنه لا يعرف كيف يغير اللغة، فأرسل ضحكة قصيرة وأغير إلى الإنجليزية ثم أقف أراقبه وهو يصحح كتابته اعتماداً على خاصية التصحيح في الكمبيوتر. وكانت الخطة ناجحة، وثبت لهم أنني لست الغبي الوحيد في المكتب، وأكثر من شخص توقفوا فجأة واعترفوا بأنهم لا يعرفون كيف يكتبون الرسائل، فودّعتهم وأنا أرتشف الشاي بثقة. بعد الانتهاء من إجراء المقابلات، وقبل أن تصدر اللجنة المشكلة مني قرارها، حضرت واحدة من الخمسة الذين بعثت لهم في المرة الأولى وتخلفوا عن الحضور، وطلبتْ إجراء مقابلة معها، وكان لها ما أرادت، واجتازت المقابلة الشخصية بنجاح، ولم تمنحني فرصة الضحك عليها في اختبار كتابة الرسالة، فكان كرسي السكرتيرة من نصيب الآنسة كركليم فيتا. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©