السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصور .. وراء الانتشار الكبير لمقامات الحريري

الصور .. وراء الانتشار الكبير لمقامات الحريري
10 أكتوبر 2014 22:05
شهدت نهاية القرن الخامس الهجري مولد القصة القصيرة في الأدب العربي، بل والعالمي تحت اسم المقامة على يد بديع الزمان الهمذاني، ثم رائدها الأشهر الحريري صاحب المقامات الخمسين المعروفة باسمه. ولاقت مقامات الحريري قبولاً ورواجاً بين معاصري الحريري نفسه حتى يقال: إنه أجاز بخطه أكثر من 700 نسخة، وذلك بفضل الأسلوب القصصي الحافل بالمحسنات البديعية من جهة، واعتمادها على نقد الواقع السياسي والاجتماعي للعصر العباسي من جهة أخرى إذ جعل الحريري من بطل المقامات أبي زيد السروجي رجلاً يحتال بمهاراته الأدبية وذكائه لكسب عيشه عبر عدة مدن تمتد من مرو قرب خراسان إلى مدن العراق والشام ووصولاً إلى مصر واليمن وحتى سمرقند بوسط آسيا واستطاع عبر راوية المقامات الحارث بن همام أن يمنح قصصه مسحة من الواقع الاجتماعي لديار الإسلام آنذاك. دور المصورين ويدين الحريري بالفضل للانتشار الكبير لنسخ المقامات، للمصورين الذين عملوا على توضيح وقائع المقامات بالصور ولعلَّ في عمل المصور الشهير يحيى بن محمود الواسطي الماثل في النسخة التي تحتفظ بها المكتبة الأهلية بباريس خير دليل على الدور الفعال لفن التصوير في الترويج لهذه المقامات، حتى أنها ترجمت للسريانية واللاتينية خلال العصور الوسطى، ثم لعدة لغات أوروبية في العصر الحديث. وتبين صور الفنان الذي قام بنسخ المخطوط وتذهيبه وتصوير لوحاته أيضا أنه أعطى أولوية قصوى للتعبير بموضوعية عن واقع الحياة، حيث عاش في بغداد وجوارها من القرى، فجاءت المنمنمات المئة التي زود بها النسخة المخطوطة من المقامات بمثابة سجل توثيقي لما كان يمر بحياة الناس من أنشطة يومية روتينية وأحداث طارئة وموسمية كالاحتفالات والأسفار. الحياة في الريف ومن أهم لوحات الواسطي اثنتان توضحان الحياة في الريف العراقي خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري «الثالث عشر الميلادي»، والذي حظي باهتمام بالغ منه وكأنه اختزن في ذاكرته كافة الأنشطة اليومية المعتادة في الريف ليفرغها في أعماله. الصورة الأولى منهما توضح جانباً من أحداث المقامة الرابعة والعشرين المعروفة باسم القطيعية، وقد رسم في مقدمة الصورة وقائع المقامة التي تدور حول احتيال السروجي على ثري يجلس في بستانه لسماع الموسيقى والغناء ومن حوله حواشيه، فنرى الأشخاص قد التفوا في تصميم دائري حول قناة مياه يتدفق إليها الماء من ناعورة (ساقية) في الخلفية ويبدو حرص الواسطي بالغاً في إبراز الملابس والعمائم، وكذلك العود وجلسة عازفه المميزة باعتبار أن الأشخاص هنا يمثلون الواقعة التي تتحدث عنها المقامة وفضلا عن ذلك فقد دفعته الواقعية إلى إعطاء أهمية خاصة لمشهد الفلاح الذي يقود ثورين يدوران بالناعورة مبرزاً حركته وهو يلوح بالعصا لحثهما على الدوران بسرعة وغطاء الرأس أو القلنسوة المثلثة التي يعتمرها فوق رأسه ولم يغفل في زحمة التفاصيل والألوان أن يرسم جزءاً من الناعورة ذاتها وبدقة تنبيء عن ذاكرة بصرية مدهشة. أما الصورة الثانية، فتوضح بعض أحداث المقامة الثالثة والأربعين المسماة البدوية، وبالتحديد محادثة السروجي بطل المقامات مع اثنين من راكبي الإبل، وقد احتل هؤلاء مقدمة الصورة، بينما احتشدت الخلفية بمفردات منظر قرية رآها الواسطي حتما في إحدى جولاته بريف بغداد فنرى عدة عقود متجاورة ربما تمثل حوانيت بسوق وبداخل كل عقد رسم لشخص أو لاثنين يتابعان المحادثة عن كثب، بل وهناك رسم لحيوان في إحدى تلك العقود بينما هناك دجاجتان فوق القبوات التي تغطي هذه الحوانيت وقد رسمهما الواسطي بواقعية وحيوية تامتين ولم ينس أن يضيف في نهاية الطرف الأيسر من الصورة جزءاً من مسجد ومئذنته ذات المقطع الأسطواني ثم نخلة مثمرة هي في حد ذاتها إشارة رمزية معبرة عن الريف العراقي إلى يومنا هذا. إبل العراق وإلى جانب اهتمام الواسطي بتفاصيل الحياة اليومية في مجتمع الريف عرفت لوحاته ولعاً بتمثيل الإبل في الاحتفالات الموسمية، وكذا في الوقائع الروتينية ورغم أن الإبل في العراق تكاد أن تكون ترابية اللون إلا أنه حرص على تغيير ألوانها لإبراز تعددها وتفردها عن بعضها البعض مع التعبير المتنوع عن حركتها بما يشير إلى مراقبته الواعية لحركة قوائمها أثناء السير. ومن أجمل لوحاته في هذا السياق، واحدة تمثل راعية الإبل في المقامة الثانية والثلاثين المعروفة بالحربية وهي بحد ذاتها درس فني في كيفية التعبير عن الحركات المتنوعة للإبل وأيضاً في التجاوز العبقري لجمود الصورة بسبب تمثيل الإبل على خط أرضي واحد، وذلك عن طريق التباين في ألوان وحركة الإبل مع المراعاة الدقيقة للفوارق اللونية بين قوائمها التي تبدو كغابة من القوائم. ونرى ذات المعالجة في الصورة الخاصة بالمقامة وهي الثالثة عشرة بين مقامات الحريري، حيث تقف الإبل على خط واحد من الأرض العشبية ومع ذلك، فهي تبدو واضحة بركابها دون أن يحجب بعضها البعض. أما صورة المقامة اللغزية «44»، والتي رسمها وتظهر رجلاً يركب جملاً وحيداً في الطريق فقد استغلها الواسطي للتعبير الفذ عن تمازج حركة الراكب وتوجيهه للجمل وإصغاء الحيوان له ومطاوعته في حركة رشيقة مفعمة بالحيوية والواقعية معاً. موكب الرؤية ونجد أيضاً في عدد من المنمنمات التي زودت بها نسخة المكتبة الأهلية بباريس من المقامات تعبير دقيق عن وقائع الاحتفالات والمواكب والتي غالباً ما كانت تشهد تحرك المحتفين على الإبل والخيول معاً وهنا كان مجال إبداع جديد ليحيى بن محمود الواسطي. وفي صورة المقامة الرملية «31» والتي تبين قافلة للحج تغادر إحدى المدن يبدو واضحاً أن الحجيج كانوا يستخدمون الإبل، بينما يقود حراسهم الخيول، و تقرع الطبول وينفخ في الأبواق ابتهاجا برحلة الحج وفي تلك المنمنمة أقدم رسم لهودج فوق جمل مما يعزز من الطابع التوثيقي للحياة الاجتماعية كما عاينها الواسطي في القرن السابع الهجري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©