السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحلم المستحيل

الحلم المستحيل
10 أكتوبر 2014 22:10
عرفت الكثير من الأمور في حياتي، وحرصت على أن أتعلم كل شيء. منذ جلست في أول سيارة ووضعت قدمي على دواسة البنزين وقيل لي أن اضغط بالتدريج، ومحاولة طبخ حساء الخضر أو الأرز لأول مرة محاولاً تذكر تعليمات أختي قبل أن تفارق البيت بعد الزواج. جربت الإمساك بمنظار المعدة وإدخاله في فم المريض بينما أصابعي تحاول تحريك القرص الذي يوجهه يمينًا ويسارًا وأمامًا وخلفًا. جربت الكثير ونجحت أحيانًا وفشلت أحيانًا. لكن هناك خبرة ظلت بعيدة عني ومن الواضح انني لن أتعلمها ابدًا. قبل ذلك الاختراع الجميل المسمى بالإيميل، لم تكن هناك طريقة لإرسال الخطابات لغيرك سوى الحمام الزاجل أو التسليم اليدوي، ثم ظهر طابع البريد على يد البريطاني السير رولاند هيل، وولدت خدمة البريد المعروفة، والتي أشك في أنها ستنقرض بعد بضعة أعوام. ما حدث معي ببساطة هو أنني أرسلت عشرات الخطابات في حياتي، ولكن لم يصل أي خطاب منها لأي جهة أرسلته لها في حياتي!. . هناك قصة مؤثرة لتشيكوف عن صبي يكتب لجده شاكيًا من العذاب الذي يلاقيه لدى المعلم الذي يعمل لديه. . خطاب يمزق القلوب، وفي النهاية يكتب على المظروف (جدي) - هكذا فقط - ويلقيه في صندوق البريد!!. . يحق لهذا الصبي المسكين أن يشكو من عدم وصول خطاباته، لكن ما هي حجتي أنا؟ خطر لي أن هناك خطأ قاتلاً أرتكبه. ربما أكتب عنوان المرسل إليه في مكان خطأ. . ربما ألصق الطوابع بشكل سيئ. كنت فضوليًا لدرجة أني طلبت من ساعي البريد أن يراقبني وأنا أكتب بيانات الخطاب على المظروف، وبرغم هذا لا شيء يصل. أسافر وأرسل خطابات لأهلي فيؤكدون لدى العودة أنه لم يصلهم خطاب واحد ويشد أبي أذني لأنني مهمل. أسافر فلا تتلقى زوجتي خطابًا واحدًا وتصر على أنني وغد نسى أسرته ليغرق في اللهو والتسلية. هل هو خطي الذي لا يقرأ؟. . تعلمت أن أجعل أحد أصدقائي من ذوي الخط الرائع يكتبون العنوان، ثم تعلمت كيف أضع المظروف في طابعة الكمبيوتر ليكتب العنوان عليه بالضبط. لكن هذا لم يحل المشكلة. اعتدت أن أذهب لصندوق البريد فأدور حوله لأتأكد من أنه صندوق بريد فعلاً وليس مضخة حريق. ثم كانت تؤرقني فكرة أن يكون مفتوحًا من تحت. . رأيت شيئًا كهذا في فيلم كوميدي، لذا كنت أدور حوله لأتأكد من أنه محكم الغلق. بعد هذا تأتي مشكلة اللون. . هناك صندوق أحمر وصندوق أخضر وصندوق أزرق. قالوا لي إن الأخضر للخطابات الدولية والأزرق للخطابات شبه الدولية والأحمر للخطابات المحلية أو العكس. . في الحقيقة لم أتلق ردًا مرضيًا عن هذه النقطة حتى اليوم. في طفولتي أرسلت عشرات الخطابات لمجلة «ميكي» وفيها قصتي الرائعة «الهجوم على الدب»، والتي أحكي فيها كيف رأيت الدب في السيرك يوشك على التهام المدرب، فوثبت من فوق السور ووجهت ركلة قوية لخاصرة الدب فصرخ وجرى متواريًا. هذه القصة الرائعة أرسلتها للمجلة مرارًا فلم يبال بي أحد. بعد هذا أرسلت لهم اسمي ضمن هواة التعارف لكن لم أظفر بنشره. أرسلت لعنوان بيتي عدة خطابات فلم يصل أي خطاب منها. هكذا تأكدت من أنني غير قابل للخلاص. حالتي ميؤوس منها فعلاً. من يومها كففت عن إرسال الخطابات وقررت أن أكتفي بالهاتف أو الذهاب لبيت من أريد الكلام معه. خرقت هذه القاعدة ذات مرة عندما كنت في مراهقتي أقلب مجلة سورية فوجدت أجمل فتاة رأيتها في حياتي، كانت تدعى «غيداء» وهي من سني. كانت تطلب التعارف والصداقة، وهكذا كتبت لها خطابًا جميلاً ودسسته في مظروف، ثم ذهبت لصديقي أسامة وهو ممن تصل خطاباتهم لكل مكان حتى لو أرسلوها لهانيبال أو أشور بانيبال. طلبت منه أن يكتب العنوان ويرسل الخطاب. بالفعل لم يمر أسبوعان حتى جاء خطاب السورية الفاتنة. . وقد راق لها خطابي جدًا، لكن أروع ما راق لها هو الخط الجميل على المظروف!. . رددت على الخطاب وبحثت عن صاحبي أسامة فلم أجده ليكتب على المظروف. أرسلت الخطاب بنفسي وبالطبع لم ترد، وانتهت قصة حب قبل أن تولد. سمعت بعد عدة أعوام أن أسامة قد تزوج من فتاة سورية بارعة الجمال اسمها «غيداء»، عرفها عن طريق المراسلة، وقد جاءت لتعيش معه في مصر. . . يبدو اسم الفتاة مألوفًا لكن لا أذكر أين سمعته. على كل حال أنا كبرت وتعلمت الكثير. نوع واحد من الخطابات لا يضيع ابدًا، هو الخطابات كئيبة المنظر الصفراء ذات الطابع الحكومي إياه. إنها تثير الذعر في النفوس ولا أحد يجسر على تضييعها خوفًا من المسئولية. لو قررت أن أحب صديقة مراسلة اليوم فلسوف أختار أقبح مظروف حكومي في درج مكتبي وألصق عليه بعض التمغة وأطبع بعض الأختام. هكذا سيصل بالتأكيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©