الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن مهنة المغلط اللغوي

عن مهنة المغلط اللغوي
8 مارس 2009 04:24
الأخطاء اللغوية في المطبوعات كثيرة، وقد تكون ناجمة عن أخطاء الكاتب نفسه أو أخطاء الطباعة، وقد اعتدت أن أصنف أخطاء الطباعة إلى: أخطاء حميدة وهي الأخطاء التي يعرف القارئ بسهولة أنها أخطاء طباعة ·· أخطاء خبيثة وهي التي لا يمكن أن يقتنع القارئ أبداً أنَّ الكاتب لم يرتكبها· مثلاً عندما تقرأ عبارة (ضباط نيويورك أفضل لصوص سيارات) في جريدة أميركية شهيرة، فأنت تضحك أولاً ثم تدرك يقيناً أنه خطأ مطبعي ·· في مصر مثال شهير جداً للنعي الذي نُشر في جريدة كبرى ومعه العبارة الشهيرة (أسكنه الله فسيح جناته)·· قدم النعي قبل النشر لسكرتير التحرير فكتب بقلمه (يُنشر إن كان له مكان)· هكذا نشر النعي وقد كتب فيه (أسكنه الله فسيح جناته إن كان له مكان) ! هذه أخطاء حميدة يعرف القارئ على الفور أنها أخطاء مطبعية· أما الأخطاء الخبيثة فتكون على غرار (رأيت المتظاهرون)·· مهما أقسم الكاتب أنه نصب جمع المذكر السالم بالياء في النص الأصلي فلن يصدق أحد ·· وسوف يغمغم القارئ: هؤلاء القوم لا يعرفون كيف يكتبون ·· إنها مشكلة التعليم منذ البداية· هناك نوع جديد من الأخطاء اللغوية لم أفطن له إلا مؤخراً عندما وصفت حفلاً في مقال لي، فقلت العبارة الشهيرة: ''ارتدى الرجال الفراك'' ·· الفراك هو بذلة السهرة إياها· قرأت المقال المطبوع فلاحظت أن الرجال ارتدوا (الفراء) ·· لا أعرف منذ متى يرتدي الرجال الفراء في السهرات مع أنه سيجعل شكلهم سخيفاً فعلاً، لكن الكلام مطبوع ·· إذن هو صحيح ·· الحقيقة أنني وجدت هذا التعديل أجمل وقد منحني أفكاراً رائعة ·· أما عن (الفريسيين) - وهم اليهود المتحذلقون المتنطعون الذين كانوا يتربصون بالسيد المسيح - فقد تحولوا بمعجزة ما إلى (الفرنسيين)· لم أكتب كلمة (الفريسيين) في حياتي إلا وصارت (الفرنسيين)· وهكذا توصلت إلى حقيقة مهمة هي أن السيد المسيح كان محاطاً بالفرنسيين وكانوا يضايقونه فعلاً· يبدو أن الفرنسيين كانوا سمجين في ذلك العصر· أما عن النظرات النارية فمن الواضح أنني لا أفهم شيئاً، لأنها تتحول إلى (نظرات نازية)، بينما الحزب النازي الرهيب يتحول إلى حزب (ناري) دائماً·· يبدو أن الحزب الناري كان يخص الصفوة من ضباط هتلر وكان أكثر قسوة وعنصرية ·· لي صديق طبيب أديب أخبرني في مرارة إنه حينما يتكلم عن (عظمة القص) تتحول إلى (عظمة القفص)·· وحينما يتكلم عن (الهيكل العظمي) تتحول إلى (الهيكل العظيم)، أما عندما يذكر آية من الإنجيل مثل (ماذا ينتفع المرء) فإنها تتحول إلى (ماذا ينفع المرء)·· هكذا وجد السيد المصحح أنه أبرع وأكثر ثقافة من صاحبي·· فهو يعرف الإنجيل أكثر منه برغم أن صاحبي مسيحي، وهو يفهم الطب أكثر منه برغم أن صاحبي طبيب ! هناك قانون من قوانين مورفي يقول: ''لو كتبت تنتقد الأخطاء اللغوية في عمل أدبي ما، فلسوف يحتوي مقالك على خطأين لغويين على الأقل!''· أنا أعرف أكثر من سواي صدق هذا القانون· أحياناً أتذكر خطأ لغوياً ارتكبه صاحب المقال فيصححه المصحح!·· أي يصحح الخطأ الذي تنشره كمثال للأخطاء!· مثلاً أقول إن الكاتب الفلاني لا يجيد العربية لأنه كتب: ''لم أرى أحد هناك'' ·· وينشر المقال فأجد أنني أنتقد الكاتب الذي يقول: ''لم أر أحداً هناك'' !· هذا يقنع الناس بأنني مجنون أو متعنت أو كفيف· من هنا اكتشفت هذه المهنة الجميلة·· مهنة (المغلط اللغوي)، وهو يختلف كثيراً بالطبع عن المصحح اللغوي· الأخير مهنته أن يتأكد من خلو المقال من الأخطاء، لكن الأول مهنته أن يملأ المقال بها· وهو يمارس عمله بنشاط وحماس وإتقان ولا يخطئ أبداً· بمعنى أنه لا ينسى شيئاً يمكن أن يجرد الكلام من أي معنى مفهوم· أو للدقة أكثر، مهمته أن يقنع الناس أنني لا أفهم شيئاً· لقد قابلت بعض هؤلاء فوجدتهم قوماً شديدي الاعتزاز بالنفس·· يؤمنون تماماً أن الكتاب لا يفقهون شيئاً وراسبون في الشهادة الإعدادية· تكلمه فيصر في كبرياء على رأيه وعلى أنه محق·· ذات مرة قلت لأحدهم: فلنحتكم إلى أحد دارسي اللغة العربية، فقال في فخر: أنا حاصل على الماجستير في اللغة العربية! هكذا قبلت رأيه على مضض، وكان علي بعد ذلك أن أقبل سيل الخطابات الذي انهمر على رأسي يتهمني بأنني جاهل لا أفقه شيئاً·· مهنة (المغلط اللغوي) خلاقة تحتاج إلى نشاط وخيال خصب·· وبرغم صعوبتها فإنها تنتشر بالتأكيد في الصحافة والكتب مما يدل على أنها مهنة ذات مستقبل· لا يحتاج الأمر إلى دراسة بل يحتاج إلى خيال وصبر وثقة بالنفس ·· كما يحتاج إلى كراهية عميقة للمؤلفين··!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©