الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغربة والضياع

الغربة والضياع
14 سبتمبر 2012
(القاهرة) - أبي هادئ خفيض الصوت، قليل الكلام والمطالب، يرضى دائما بما بين يديه، وكان هكذا في صباه وشبابه، ليس من المغامرين ولا محبي التجريب، ومع ذلك استجاب لبعض رفاقه في السفر إلى الخارج بعد أن انتهى من دراسته الجامعية، بحثا عن فرصة عمل، اقنعوه أن الدنيا هناك مفتوحة بلا حدود، لدرجة أنه قد يعثر على أوراق البنكنوت ملقاة على الأرض لا تجد من يلتقطها، وسيرجوه أصحاب الأعمال ليعمل لديهم بأجور خيالية، ويصبح بعدها من الأثرياء خلال سنوات معدودة، وأيضا إن رغب في الزواج فالفتيات هناك في الشوارع اكثر من البضائع في المولات التجارية، وهكذا صوروا له كل شيء أهون من الخيال، لم يقصدوا خداعه ولكن نقلوا إليه بعض ما سمعوا وتوقعوا وصدقوا وأحسنوا الظن بمن نقل إليهم تلك المعلومات، وحاولوا أن يقنعوه ليكون معهم. حمل الشباب حقائبهم الخفيفة التي لا تحتوي إلا على بعض الملابس القليلة معظمها بال وقديم أكل عليه الدهر وشرب وهم يطمعون في أحدث الأزياء وصيحات الموضة في بلاد الغرب، انطلقوا وهم خمسة من الزملاء والأصدقاء تجمعهم روابط كثيرة فهم أبناء منطقة واحدة ودرسوا في مدارس وجامعات معا، بينهم صداقة فكانت الصحبة مطمئنة ودافعة لهم على خوض هذه الرحلة إلى المجهول الجميل، والأحلام الوردية وأهمها الفوز بالشقراوات ذوات الشعر الأصفر والزواج هناك، ولا مانع من العودة بعد أن تستقر بهم الأمور، وانطلقوا إلى المطار حيث كانت تلك أول مرة لهم جميعا يركبون فيها الطائرة، ليبقوا ساعات بين السماء والأرض، وهذا إحساس غريب وله ذكرى خاصة وتوقعات ومخاوف وهواجس الإحساس بينهم أيضا مشترك، لم يكن في بال أي منهم شيء إلا حوادث الطيران، وكلما اتخذت الطائرة منحنى لتعتدل في مسارها خفقت قلوبهم، حاولوا أن يسيطروا على مخاوفهم حتى لا يظهروا في موقف الضعف. جلس أبي – كما قال لي فيما بعد- شاردا ينظر إلى السحاب تحته وهو لا يعرف إلى أين يذهب يفكر في أبيه وامه وإخوته وأخواته ومتى سيعود اليهم وكيف ستكون رحلته، أمنيته الآن أن يعود لكن ما باليد حيلة، يحاول أن يغمض عينيه فلا يستطيع، لا يريد أن يتحدث مع جاره في المقعد وهو من أصدقائه وقد يكون الثاني مثله غارقا في نفس تفكيره، وضع السماعات في أذنيه ليسمع آيات من القرآن الكريم عساه أن يهدأ ويطمئن قلبه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وتصل الرحلة إلى مستقرها بسلام. وحطت الطائرة وبدأت حياة جديدة للأصدقاء الخمسة، كانت صعبة بكل المقاييس، شعروا بمرارة الغربة من أول وهلة، كل ما حولهم مختلف جملة وتفصيلا، الناس يسيرون في الشوارع كأنهم يتسابقون، لا يلتفت أحد حوله ولا يهتم بما يحدث مهما كان، فهو مشغول بشؤونه، ولا يعنيه ما يفعل الآخرون، يبدو الجميع مثل خلية النحل، حتى عندما يتنزهون يتفرغون لذلك ويتركون وراءهم مشاكل ومشاغل العمل وقد يغلقوا هواتفهم وهم في الأصل يعلمون انهم لن يزعجهم أحد باتصالات من أي نوع في يوم الإجازة الأسبوعية أو “الويك اند” كما يسمونه. المهم أولا أمام الأصدقاء أن يلتحقوا بعمل لكي يستطيعوا الإقامة بشكل قانوني، كانوا يريدون أن يجدوا مكانا يؤويهم جميعا، لكن كانت تلك أمنية غاية في الصعوبة، بينما الأهم العمل الذي سيؤدونه، ليس أمامهم إلا المطاعم والفنادق ليغسلوا الأطباق أو ينظفوا الغرف أو في المزارع ليحلبوا الأبقار وفي أحسن الأحوال ليجمعوا العنب وليقلموا الأشجار، وكلها أعمال لا يقبلونها، لكن ليس أمامهم خيار آخر، فانصاعوا وبدأت الفرقة فأماكن أعمالهم متباعدة لعشرات أو مئات الكيلومترات، ليس بينهم إلا الاتصالات الهاتفية. كل ما سمعوه ونقل إليهم عن تلك البلاد وهؤلاء الناس لا يمت إلى الحقيقة بصلة، هناك الجميع دائما مستعجلون لا يلتفت أحدهم يمينا ولا يسارا ولا يجيب سائلا ولا يرشد ضالا، المال هو اللغة السائدة ومن معه فلس يساوي فلسا، لا مجال للعواطف، وجدوا هنا ما تعلموه في المدارس وهم صغار، من جد وجد ومن زرع حصد، لا مكان لكسول ولا طعام لا عاطل، لا فرق بين شاب وفتاة، كل واحد يحمل هموم نفسه. كان من نصيب أبي العمل في فندق ويرى أنه أحسن حظا من بقية رفاقه، لأنه يعيش وسط العاصمة، لأول مرة يعترف أن الضجيج والحركة والسرعة والزحام افضل بكثير من الهدوء القاتل والوحدة، وهذا هو الفرق بين الأجواء التي يعيش هو فيها ورفاقه الذين تشتتوا في الأرض، فهو يستطيع أن يخرج ويتنزه بعد نهاية العمل ويرى البشر ويتعامل معهم، بينما هم وسط مزارع شاسعة مترامية الأطراف، صحيح أن هناك الخضرة والماء والطبيعة الساحرة لكن هذا ينقصه الناس الذين يجعلونهم يتمتعون بتلك النعم والميزات، فالوحدة تجعلهم يستغرقون في التفكير ويتخيلون أشياء لا أساس لها من الواقع، في المساء يحل الخوف مع الظلام حيث الإقامة بالقرب من الغابات الكثيفة، تحملوا كل تلك الظروف بقسوتها حتى لا يقال انهم فشلوا، لا يريدون أن يسمعوا هذه الكلمة ولو غلبتهم الدموع. وعلى أي حال من السعادة أو الألم تمر الأيام، وحدثت الفرقة الحقيقية بين الأصدقاء، تشتتوا رغم أنوفهم وهم يحاولون البحث عن فرصة أفضل منهم من ظل على ما هو عليه ومنهم من عاد من حيث أتى ومنهم من عاود الترحال إلى بلد آخر، لكن أبي ظل في مكانه واستقر فيه لأنه تعرف على واحدة من فتيات الفرنجة جمعه بها العمل، أراد أن يحصن نفسه بالزواج وهو في تلك البلاد المفتوحة، وحدث التقارب بينهما، لكنه شعر بخوف عندما أراد أن يفاتحها في موضوع الزواج، استعاد كثيرا من المشاكل التي تحدث من زواج الأجنبيات وضياع الأبناء أو الاختلاف في الدين والعادات والتقاليد، لم يستغرق كثيرا من الوقت في التفكير لاتخاذ القرار ولم يتردد واقتنع بأنه يجب أن يتعلم من أخطاء الآخرين ولا يقع فيها، وحسم أمره سريعا واستطاع أن يقطع علاقته بزميلته. أربع سنوات مضت سريعا رغم المعاناة التي كان فيها وهو يعد الساعات والليالي، بعدها عاد في أول إجازة مشتاقا إلى أسرته وأهله محملا بالهدايا والحكايات الكثيرة والمواقف التي أصبحت من الذكريات، يتذكر دقائق تفاصيلها، كان الزواج هو أول أهداف هذه الزيارة، أراد أن يكمل نصف دينه ويختار فتاة من بلده ليتجنب ما وقع فيه من سبقوه الذين انبهروا بالشعر الأصفر والعيون الملونة وتغاضوا عن كل ما وراء ذلك، والأهم عنده الحفاظ على أبنائه الذين سيرزق بهم فيما بعد ويتمسك بتنشئتهم على ما نشأ عليه، الوقت ضيق ولا بد من الاختيار سريعا، ليس أمامه إلا أن يستعين بالأهل والأصدقاء لترشيح فتاة مناسبة، كل الإجراءات تسير على عجل، حتى تم الزواج خلال ثلاثة أسابيع وبعد أسبوع واحد عاد إلى عمله، حياته بعد الزواج تغيرت، يقضي وقتا طويلا في العمل من السادسة صباحا إلى السابعة مساء، لا وقت للبيت ولا للتنزه إلا في عطلة نهاية الأسبوع كما اعتاد وتفرض عليه ظروف عمله، مما جعل الزوجة العروس تضيق وتتبرم من الأيام الأولى، خاصة وأنها ليس لها أي أصدقاء أو معارف في هذه البلاد الغريبة البعيدة، ولم يكن التلفاز كافيا لمؤانستها. ظهرت الشروخ سريعا في علاقة الزوجين، هي تتضجر وترفض وهو لا يجد مفرا أو مخرجا، كانت تعتقد وتتوهم أن تكون كل يوم في مكان مختلف، وكل ليلة في سهرة مدهشة، وهو اعتقد أنه سيجد الإلف الذي يؤنس وحدته ويسري عنه في غربته بعد طول عناء، كان الحل في البحث للزوجة عن عمل لتكون هي الأخرى مشغولة طوال الوقت وينتهي الخلاف وتضيف إلى دخله دخلا آخر يمكنهما من تأمين مستقبلهما وتأسيس مشروع ولو صغير في بلدهما، والتحقت كعاملة أو كوافيرة في محل لتصفيف الشعر، وكان دخلها منه جيدا يفوق ما يحصل عليه زوجها مما جعلها تتمرد عليه خاصة بعد أن استطاعت فيما بعد أن تحصل على الإقامة بنفسها بعيدا عن التبعية له. وسط الأجواء المشحونة التي لم تعرف الاستقرار رزقا بطفلين ولد وبنت، لم يكونا سببا في إدخال السعادة على الأسرة الصغيرة ولا للاستقرار فيها، بل ربما اصبحا عبئا لأن الصغيرين يحتاجان إلى الرعاية والأبوين مشغولان دائما في العمل، والأم لا تريد أن تضحي بالعمل الذي وجدت فيه نفسها وتساعد أسرتها الفقيرة منه والأب ليس أمامه إلا أن يتحمل الأمر الواقع في محاولات يائسة أملا في إصلاح الأحوال او حل يهبط عليه من السماء يريحه من هذا العناء، وهو الذي ركز تفكيره كله من اجل أن يحافظ على الصغار قبل مجيئهم فما بالك وهم بين يديه فمن الأحرى أن يصدق فيما قطعه على نفسه من عهد. أنا الولد الصغير الذي رزق به أبي وتلك أختي معي نذهب معا إلى المدرسة ونعود فلا نجد أبا ولا أما في انتظارنا بالبيت، ننتهي من المذاكرة وننام والأسرة لا تتجمع إلا في عطلة نهاية الأسبوع، ليست في حاجة للحكم عليها بالتفكك والتشتت، قرر أبي أن تلملم أمي كل ما لها وتنهي أعمالها وتعود بنا إلى بلدنا حفاظا على مستقبلي أنا وأختي ونحن في مرحلة الصبا قبل أن نغوص في عادات المجتمع الغربي ونتوه فيه ونضيع بلا رجعة، لكن أمي رفضت تماما، وقالت له عليك أن تعود انت بهما، واحتدم النقاش والخلاف الذي تطور سريعا، وخلال أيام وصل إلى ساحات المحاكم هناك وبسرعة تم الانفصال بينهما، وقضت المحكمة بان نقضي مع كل منهما أسبوعين بالتتابع، وازددنا تشتتا، أعاني أنا وأختي من التنقل والترحال بين الأب والأم، ولا احد منهما يرى أن يتنازل عنا للآخر، ولا ندري إن كان هذا حبا أم عنادا، ولا يستطيع أن يغادر ويتركنا فيحصل “غريمه” على حكم قضائي بعدم أحقيته في حضانتنا. بالطبع لا يخلو الأمر من اتهام كل طرف منهما للآخر بالكثير من النقائص والصفات السيئة، فأصبحت أنا وأختي مثل كرة تنس الطاولة التي يتقاذفها اللاعبون بسرعة كل منهما يريد أن يتخلص منها ولا يريد أن يحتفظ بها وأيضا لا يمكنه أن يفقدها ويبعدها بعيدا فيخسر اللعبة، ورغم حذر أبي من البداية فقد وقع المحذور، ونحن الأربعة في الضياع بلا أمل في شاطئ أو بر أمان نرسو عليه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©