الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سنغافورة··· موسم سقوط العولمة

سنغافورة··· موسم سقوط العولمة
8 مارس 2009 04:52
يمكن القول دون تحفظ إن سنغافورة والعولمة توأمان سيَّاميان لا ينفصلان· فقد كانت هذه المدينة- الدولة المتوهجة صنيعة فعلية من صنائع العولمة بحكم تاريخها ونشأتها· فما إن ازدهرت التجارة العالمية حتى تحول ميناء سنغافورة البحري الواقع على تقاطعات الشرق والغرب، إلى شيء شبيه بميناء ''أوهير'' بشيكاجو الذي لا تنقطع عنه سفن الشحن والناقلات النفطية العملاقة مطلقاً· وإلى جانبه انطلقت خدمات خطوط طيران سنغافورة، على رغم عدم وجود طرق جوية محلية للطيران· ويكاد يكون كل ما ينتج محلياً هنا في سنغافورة مصنوعاً خصيصاً من أجل التصدير إلى الخارج، بينما يوجد عامل أجنبي واحد على أقل تقدير، بين كل ثلاثة عمال هنا· ولكن مع دخول العالم الآن مرحلة انحسار العولمة، فقد تحولت سنغافورة إلى ما يشبه آلة العرض المصغرة لتراجع تلك القوى التي جعلت من الحراك العالمي للبضائع والخدمات والاستثمارات والعمالة، أمراً غير مسبوق في تاريخ المجتمع البشري· وبسبب تراجع التجارة العالمية للمرة الأولى منذ عام ،1982 تحول ميناء سنغافورة البحري الممتد الواسع، إلى موقف هامد للسفن الراسية دون حراك خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد أن كان يضج بالسفن الصاعدة والنازلة بلا توقف· ففيه تصطف الآن سفن وشاحنات قادمة من مختلف دول آسيا وأوروبا والأميركتين وإفريقيا والشرق الأوسط، على بعد أميال ساحلية راكدة· وعلى حد تصريح ''رون ويدوز'' الرئيس التنفيذي لشركة NOL بسنغافورة -وهي إحدى أكبر الشركات العالمية الناقلة للحاويات- فإننا نواجه صعوبة فعلية الآن في إيجاد مراسٍ إضافية للسفن المتزايدة على الميناء· وعلى صعيد العمالة، فقد خسر آلاف العمال الأجانب وظائفهم، سواء كانوا من خيرة خريجي مدرسة لندن للاقتصاد، ممن كانوا يتقاضون رواتب تصل لمئات آلاف الدولارات، أم من أفقر العمال البنجال وأضعفهم دخلاً، مما سبب معاناة الاقتصاد المحلي من أسوأ موجة ركود تشهدها منطقة جنوب شرق آسيا· وبسبب موجة الكساد هذه، باتت سنغافورة تعد اليوم مثالاً لافتاً للأنظار على ظاهرة الهجرة العكسية للعمالة الأجنبية، بعد أن تحولت الأوضاع فيها إلى بيئة طاردة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة· ويقدر اقتصـــــاديون من بنك Credit Suisse مغادرة نحو 200 ألف عامل أجنبي لسنغافورة، أو هجرة عامل واحد بين كل 15 عاملاً أجنبياً إلى بلدانهم أو أي دول أخرى، بحلول عام ،2010 وهو مؤشر على موجة هجرة كبيرة بالطبع· يذكر أن صادرات سنغافورة قد انهارت بمعدل مخيف منذ شهر يناير المنصرم وبحد بلغت نسبته 35 في المئة· وفي هذا الانهيار انعكاس لما حدث لصادرات معظم الدول الآسيوية المجاورة· وكان ازدهار صادرات سنغافورة قد ارتبط أصلاً بارتفاع القوة الشرائية وتوفر الائتمانات المالية الحافزة لها في الولايات المتحدة الأميركية· والمؤسف أن فورة الشراء الأميركية هذه قد خمدت فجأة بفعل تداعيات الأزمة المالية التي ضربت أميركا، مع ملاحظة أنه ليس متوقعاً للفورة الشرائية هذه أن تعود للأسواق الأميركية في أي وقت من المستقبل القريب المنظور· وفي حين يحاول المنتجون في سنغافورة التشبث بأي حبال منقذة في أي خطط احتياطية أخرى بديلة، بما فيها محاولات توجيه الصادرات إلى كل من الهند والصين اللتين لا تزالان متماسكتين اقتصادياً، إلا أن الحقيقة هي أن جميع هذه المحاولات والبدائل، لا توفر طوق نجاة يمكن التشبث به احتماءً من الغرق المحتوم في دوامة الركود الاقتصادي· ومما يزيد من مخاوف ركود صادرات سنغافورة، الذي ربما يمتد إلى بضع سنوات، ارتفاع موجة حماية الدول الإقليمية لمنتجاتها المحلية، بما فيها إندونيسيا المجاورة· وكان المشهد في هذه المدينة الساحلية -حيث الميناء- فيما لو نظرنا إليه في تكامل عناصر لوحته مع الازدهار الاقتصادي العام لدول جنوب شرق آسيا المعتمدة كلياً على الصادرات، أشبه بميلاد عصر ذهبي للتجارة والابتكار التقني، وتراكم الثروات والحد من معدلات الفقر عبر العولمة· أما اليوم فقد أصبح انهيار العولمة الاقتصادية أمراً ممكناً إلى أبعد الحدود· وذلك هو ما أكده الاقتصادي الأميركي المعروف، جيفري ساكس بقوله: ''لقد سبق للعولمة أن انهارت مرتين خلال القرن العشرين: أولاهما بسبب الحرب العالمية الأولى، وثانيتهما عند حدوث الكساد العظيم· وبسبب التداعيات الاقتصادية الحالية، فقد ارتفعت بدلاً منها النزعة الوطنية الهادفة إلى حماية الاقتصادات المحلية· وهذا هو ما يحدث في أميركا على وجه التحديد، حيث ترتفع النزعة الوطنية، بينما تنغلق نظرة النظام السياسي على القضايا الداخلية· وليس ثمة عجب في هذا، لأنه عادة ما يتكرر حدوثه في أوقات الأزمات''· وبسبب الانهيار العالمي للصادرات، فقد أغلقت المصانع أبوابها من الصين إلى أوروبا الشرقية· وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الأزمة الاقتصادية الحالية، ستوقع ما لا يقل عن 53 مليون نسمة إضافية من سكان الدول النامية في فخاخ الفقر خلال العام الجاري· ففي الأسبوع الماضي وحده هرب نحو مليار نسمة من الأسواق العالمية الحديثة الناشئة، في إشارة لأكبر خسارة اقتصادية من نوعها خلال أسبوع واحد منذ شهر أكتوبر المنصرم حسب إحصاءات ''ميريل لينش''· ومن أكثر المتضررين من هذه الخسائر، المهاجرون والعمال الأجانب· فعلى سبيل المثال تعتزم ماليزيا طرد آلاف العمال الإندونيسيين، في إطار سياسة جديدة لإعطاء الأولوية في التوظيف للعمالة الماليزية، في مواجهة خسائر الوظائف الناشئة عن الركود· وحتى في دولة مثل بريطانيا التي عرفت تاريخياً بتسامحها وتعددها العرقي الثقافي، انتظمت إضرابات العاطلين عن العمل على امتداد مدنها مؤخراً، للتنديد بتوظيف العمالة الأجنبية في إحدى أكبر مصافي النفط في البلاد· والغريب أن هذه الإضرابات والمظاهرات الاحتجاجية قد عمت المدن البريطانية على رغم فرار آلاف المهاجرين إلى بريطانيا من دول أوروبا الشرقية في طريق العودة إلى بلدانهم، بسبب عجزهم عن الحصول على أعمال· وفي الوقت نفسه، تراجعت الحوالات المالية -التي تمثل شريان الحياة الذي توفره العمالة المهاجرة للأهل في الوطن- من بلدان أميركا اللاتينية إلى جمهوريات آسيا الوسطى· وتبدو جمهورية قيرغيزستان الأشد تأثراً بتراجع الحوالات الأجنبية هذه، لأنها تشكل نسبة 27 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي· وهو ما اضطر الأمم المتحدة إلى حث برنامج الغذاء التابع لها، على التعجيل بتقديم مساعدات إنسانية طارئة لقيرغيزستان، وهي المرة الأولى التي احتاجت فيها تلك الدولة إلى مساعدات كهذه منذ عام ·1992 أنتوني فيولا محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة ''لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©