الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الراعي ورفيقة دربه كانا يهشان الغنم

الراعي ورفيقة دربه كانا يهشان الغنم
25 سبتمبر 2013 20:27
في مأرب الصحراء الموحشة، كان للعصا سحر الذاهبين في عمق الزمن، يخضان الرمل بأقدام أدمتها حصى الصبر، وداهم عيونهم فراغ المراحل ما بعد السراب واللهيب.. سعيد الراعي ورفيقة دربه فاطمة كانا هنا، عند سطح المكان الوسيع، وباتجاه “الشريشة” تمضي قافلة الغنم، من أجل أعشاب الحياة، ومن أجل الدرب والحليب، ومن أجل بهجة تملأ الكائنات الأليفة.. كان الرجل ومعه المرأة الوفية، يخوضان غمار الوقت بقلبين مبللين بالعفوية وفطرة الانتماء إلى التراب، وكانا بسطوة الأمل يغمران الكون بصيحة تثري الصحراء، ضجيجاً، وتملأ الفسحة الوسيعة، بنخوة الأبرياء وصبوة الأوفياء، يعتمران لظى الشمس، خيمة واجمة ملتزمة، في عطائها الأزلي، كادحة في التضاريس، كأنها فرص من ذهب يزخرف سماء معيريض، ويلمع عند أطرافها كأقراط حسناء، في بلوغها العمر الأغر. كانا يسيران خلف الماشية، مشياً على الأقدام، يحاذيهما خيال الظل، الملاحق كهامتيهما كأنه الرفيق الآخر.. كانا يمشطان الحصى بأظافر الغنم، وأخطامها المتدلية، باحثة عن سنبلة في جوف العراء العجيب.. كانا يغسلان التعب بعرف العصامية الفريدة، وينسجان خيوط الحقيقة بأثر يحفر حروفه على صفحات الأرض الصلبة. سعيد الراعي ورفيقة دربه فاطمة، وجهان في مرآة الصحراء، قلبان في جوف التضاريس، ولوحة تشكيلية من ألوان الغنم كانت تلمع في الخلاء كأنها الطيف، كأنها قوس قزح.. الأستاذ والمعلمة كانا في ذلك الزمن الأستاذ والمعلمة والتلاميذ، كائنات ترج الأرض رجاً، وتبس الحصى بسا، وتزجر بلا هوادة، وسط المرعى، المهيب تبحث عن مضغة أو لمضة، عند غمضة التربة الواهية.. كانا الحادي والحادية، والركاب غنم تغط في السراب، وترفع الأسئلة المبهمة للخالق بأن ينزل المطر، لأجل عشب الأرض لأجل تحقيق الفرص، ونوافل ما تبقى من شتاء، يغيم ولا يخيم ويظلم ولا يسهم في بث الروح في الأجساد المتقشفة. كانا، في العزلة الغامضة، يضحكان، لأجل قتل وحوش الأرض ولأجل رسم خريطة طريق تفصح في النهاية عن بداية العودة إلى موائل الهدوء والسكينة، ومن أجل غاية تسفر عن جباية ما بعد المشاوير المضنية.. كانا يحطبان في الفراغ بحثاً عن شجرة النار، ويخصبان الوقت، بحوار، لا يشبه حوار الفلسفة، بل هو أقرب إلى فكرة الفسطائية، حيث تغيب الفكرة في تجاويف المبهم، وحسرة الحاجة.. كانا يخضبان الأقدام بالرمل الملتهب، وما التف حول الحصى من غبار، وما جاش من سعار الوقت لهوجة ورجرجة وأمنيات مضرجة بدماء المساءات المتعبة.. كانا مثل طائرين يخطبان ود الفراغ لشيء قد يأتي أو لا يأتي.. كانا يأكلان الطعام على يباب الأرض، ومن خشاش التعب، ويعجنان الفكرة بملح الأسئلة الطارئة.. كانا يتصفحان كتاب الزمن، بعيون مسغبة، كحلها من غبار ودوار، وأطوار، المكان المتطور نسلاً من حقب الجفاف والعجاف وإتلاف الأفئدة المتصهدة. كانا ككائنين من أسطورة قديمة، حفرت على اللوح المحفوظ.. كانا في الرواية القديمة أنهما حثا الخطى من أجل مملكة الغنم، ومن أجل أصل النعم، في وقت شحت فيه ضروع الفلسفة وما كان للمعرفة سوى أعجوبة الصبر، وأيقونة الجَلَد، يمضهما الانتظار لما لا يأتي حتى وإن تشققت الأقدام واكتسحت القلوب حسرة المدى البعيد. سعيد الراعي ورفيقة دربه فاطمة، هما ما جرى في الحضيض وما تم في أعلى السفوح من بكاء الطير الوالة، واشتياقات الشجرة، المتيمة للماء السماوي.. كانا مثل ذاك الجبل المرسوف كأنه الدهر صامدين صابرين لا يُسمع في العزلة سوى صوتهما رغاء الغنم متوسجاً من كائن متوحش قد يقطف ثمرة العمر، ويمضي مظفراً باللقمة السائغة.. كانا في العودة الميمونة، يفترقان كل إلى غايته، عند المجيء يحضر الناس، يتلقفون الحلال، بلهفة المنتظرين بزوغ الأقمار التائهة في غيبوبة التضاريس المذهلة.. كانا في المكان البعيد يبدوان قمرين يمنحان الفضاء لونه الأليف، يبدوان كوكبين ينزلان من قمة الابتسامة الضائعة، في تجاعيد الوجنات المخضوضة بشمس اللظى.. وسطوة الضحى المتوجس.. كانا مثل نجمتين بلا سماء تلحف ضياءهما.. كانا مثل حلم سطت عليه غشاوة الفزع الليلي. في “الشريشة”، وحده الحلم كان يلتفظ حبّات الألق، ورائحة الجدري تفوح من أجساد الذين واراهم التراب، وما بقي سوى بعض آهات وأنات وزفرات وشهقات، وصرخات، وبكاء أشبه بأنين الصخر تحت التربة الميتة.. في الشريشة كانا يكملان حديث الأمس، وطراً من حكايات المطر الذي كان ينخر خيمة الرفيقة فاطمة، ونباح الكلام ومواء القطط خلف جدار السعف المسفوف من حبل المتاعب. رواية الحياة في الشريشة، كان يبدو للرجل والمرأة، أن تحت الرمل تسكن كائنات لم تستكمل رواية الحياة، حيث الجدري قض المضجع، وأباد الأحلام، وساد وما حاد عن بث آلامه المفزعة، والناس هنا في هذا الحشر المخيف، يرسمون المشهد الحزين ويسقطون على الأعين كأنهم الخوف بعينه.. حكايات تدور حول الشريشة، ووشايات أيضاً كانت تحيك خيوطها، يمضغها سعيد الراعي بلسان بدوي عريق ثم يسجي جسده الثري، على تلة صغيرة، ربما تكون قبراً لميت قديم، نساه أهله، ولم يلفظه التراب الوفي، وربما تكون صخرة دفنت نفسها بعد تقادم للزمن، أو أن جيفة لحمام نفق منذ أن توسدت الشريشة، فراش العزلة، ولم يعد من زوار سوى القادمين من زوايا القيظ الحادة.. في الشريشة، تعكف بعض النخيلات العجفاء، على قراءة ما في عرجونها القديم، من أعواد يابسة، والغاف يحرس آثار أقدام مرت من هناك، إذ كان الزمن معشوشباً بأحلام الذين يبحثون عن حطب النار أو عن حمار تائه فر من قسورة الحمل الثقيل واحتمى بالظل والماء الشحيح. في الشريشة ذاكرة سعيد الراعي ورفيقته فاطمة، ورائحة صوف الغنم تهطل على الأنوف كأنها كثافة الدكان، النازلة من غيمة طينية أو كأنها احتراق سعف القلوب التي نامت بلا طعام يوم اشتد أوار الحرب العالمية الثانية، وصار السطحين أغلى من الذهب، ولحس الناس، بقايا التمر في جوف خزائن السعف.. في الشريشة احتمالات حياة، وحقائق موت أكيد تجللت بالرعب والخوف، خاصة أن الموتى هم ضحايا العسر والابتسار، وما أردته تلك الحرب المشؤومة، من خراب ويباب وعذاب وضباب، واحتراب، وأنياب لأمراض فتكت وهتكت وأهلكت، وكان اليقين أن الغضب الكوني قد حل بالمكان، لأن الناس لا يصلون صلاة الاستسقاء.. في «الشريشة» كان الرمل كالبحر، يلتهم الأجساد ويقضي على العباد، لذا لم يكن سعيد القبع ورفيقته يسعدان للجوء إلى ذلك، وإنما كانت اللهفة للفلس أعظم درجة من أي ثواب.. كان الفلس الأثم اللذيذ الذي يوحي بالبهجة مهما قل مقداره لأنه سوار اليد الممتدة إلى عنق الأحلام الزاهية.. «الشريشة» وحدها التي جمعت ما بين النقيضين، الموت والحياة في جدلية أعظم من جدلية هيجل أو مثالية أفلاطون أو منطقية أرسطو.. أو حتى عبثية نيتشة.. لم يذهب سعيد الراعي إلى «الشريشة» للتعبد كما فعل ابن الفارض في جبل الطور، كذلك لم تفعل فاطمة كما فعلت رابعة العدوية في عزلتها المتصوفة.. الأمر كان أكثر جلالاً واعتدالاً، لأنه من أجل رمق الحياة، من أجل الحياة نفسها كانت الأغنام تمضي بتؤدة، وتفان وطاعة، بل تقول الأغنام جئنا طائعين لأجل عيون الراعي الأمين، ورفيقته السامية.. «الشريشة» وحدها التي انتسبت إلى الموؤودة، والثيب والبكر لأنها حوت من الأجساد ما لا يعد ولا يحصى، ولأنها استفاقت في ذات زمن، على حرب عالمية، وطاعون وجدري، وأناس يهربون من المرض إلى الموت، ورجال يجوسون المكان بحثاً عن بقايا أحياء ربما يعودون إلى منازلهم بقدرة قادر. «الشريشة»، مكان في الجغرافيا أشبه بجزيرة معزولة، يؤمها فراغ مريع، أشبه بطائر غريب لا شبيه له، حط من علٍ، ولم يزل يبحث عن جناحيه ولا يجد سوى مساحة فارغة تحت الإبط ورمل كثيف يزمل أحلام الذين غابوا ولم يحضروا.. «الشريشة» العجيبة الأولى في العالم، لأن نخلها لم يمت واقفاً، بل انعكف واعتكف وتوقف عن النمو، بعد أن غادرت حلم الحياة، وبعد ما رشف من الملح حتى ناءت جذوعه.. «الشريشة»، هي الزمن بدون حركة ولا صوت، ولا طاقة سوى طاقة الموت وأزيز الحناجر المنهكة تحت سياط العلة الملعونة.. «الشريشة»، نقطة الالتقاء ما بين زمنين وربما تكون هي الزمن كله الذي تخلى عن كتابة التاريخ، لأنه لا تاريخ للموت مهما بلغت فلسفة هوميروس، حول كتابة التاريخ وتسجيل الأحداث.. «الشريشة» مكان بلا زمن وزمن لفظ المكان بازدراء مخيف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©