الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البريطاني «الغامض» أنقذ رقبة الزعيم ورفاقه

البريطاني «الغامض» أنقذ رقبة الزعيم ورفاقه
25 سبتمبر 2013 20:28
في مثل هذا الشهر، وهذه الأيام، قبل 132 عاماً، عاشت الديار المصرية حالة من الوَلْس، أي الخديعة والخيانة، أجهضت ثورة، كسرت زعيمها، قضت على جيشها، وأدت إلى احتلال إنجليزي، دام أكثر من 70 عاماً. وهذه قراءة جديدة في كتاب قديم ـ جديد بعنوان «تاريخ سري للاحتلال الإنجليزي لمصر»، وهو كتاب وثائقي نشر لأول مرة في عام 1907، وآخر طبعاته صدرت في العام الماضي (2012)، ويعد إلى اليوم من المراجع التي يعود إليها كل باحث عن إجابة لسؤال: كيف كسر الولْسُ ثورة عرابي، واحتلت بريطانيا “العظمى” مصر. واللافت أن صاحب الكتاب ويلفريد بلنت عادة ما يوصف في الأدبيات العربية بـ «الرجل البريطاني الغامض». ونلمح في الوصف مبالغة غير مبررة عن حقيقة رجل ساهم بدور دعائي ملحوظ للثورة ورجالها ومطالبها، وتحمل عبء الدفاع عن عرابي ورفاقه، والحفاظ على حياتهم، بعد أن كسرهم الوَلْس. وقفة المجد والفرح كان ويلفريد شاهد عيان، غير مصري، على الوَلْس الذي كان، أو الاتفاقات التآمرية التي قضت على الثورة، وهددت زعيمها بالإعدام رمياً بالرصاص، ربما في ساحة قصر الحكم في “عابدين”، الساحة نفسها التي كانت مسرحاً، قبل عام واحد من انتصار “الولْس”، لمشهد مجد وفرح، في سبتمبر 1881، وعرابي باشا فوق حصانه شاهراً سيفه يعنف الخديو: «لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً. والله الذي لا إله إلا هو إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم». بعد عام واحد من وقفة العز، وفي مشهد يجسد انتصار الولْس، في سبتمبر 1882، راحت “العربات المذهبة تجرها خيول مطهمة تتهادى واحدة بعد أخرى إلى الميدان الفسيح، تقل كبار رجال البلد، البشوات والبكوات... لينضموا إلى الخديو في منصته، وهو يستعرض جيش الاحتلال، وعلى يمينه جلس الأدميرال سيمور الذي دمرت مدافع أسطوله الإسكندرية، وعلى يساره الجنرال ولسلي الذي أباد بمعونة الخونة جيشنا في التل الكبير”(1). لم يكن «صاحب التاريخ السري» غامضاً، بل كان كاتباً وشاعراً له العديد من الدواوين والمؤلفات، والمعلوم عنه أنه خدم في السلك الديبلوماسي البريطاني 10 سنوات، من 1858 إلى 1868، وترك الديبلوماسية وأصبح رحالة، في أرجاء المستعمرات البريطانية حول العالم، وإن كان الترحال قاده إلى الإقامة في مصر معظم الوقت، فعاش الثورة العرابية التي انتهت بوضع البلاد تحت الحماية البريطانية. كان ويلفريد بلنت، العاشق لتربية الخيول العربية، ناشطاً سياسياً يجالس ويناصر أحمد عرابي باشا، ويعرف طريقه إلى الصحف البريطانية لنشر التقارير والآراء التي تخاطب الرأي العام، كما يعرف طريقه إلى تسجيل المواقف في حوارات مع، أو رسائل إلى، المعنيين بالأمر في دوائر السياسة والحكم في لندن، وممثليهم في القاهرة “المحروسة”. وفي روايته، كشاهد عيان، يضع كل تلك الحوارات والأحداث والمراسلات والوثائق، في كتاب «تاريخ سري لاحتلال الإنجليز لمصر»، ويستكمل الرواية نفسها في كتاب مكمل بعنوان «غاردون في الخرطوم»، عن الاحتلال الإنجليزي للسودان. نقطتان حول الغموض بعد عام، وأربعة أيام، من الوقفة الشهيرة أمام الخديو توفيق في ساحة قصر عابدين، وفي الثالث عشر من سبتمبر عام 1882، تمكنت القوات البريطانية من هزيمة عرابي والجيش المصري في “معركة التل الكبير”، وواصلت زحفها إلى ثكنات العباسية في القاهرة، واحتلت مصر. بعد أسبوعين، تلقى وزير خارجية بريطانيا، لورد غرانفيل، برقية من سير إدوارد ماليت، المندوب البريطاني في مصر، عن نتيجة استجواب عرابي باشا، في محبسه، حول فحوى رسالة نفى عرابي أن يكون قد وجهها، قبل قصف الإسكندرية، إلى وليام جلادستون، رئيس وزراء بريطانيا. كان استجواب عرابي حول هذه الرسالة قد تم بناء على توجيهات من الجنرال تشارلز ويلسون، مسؤول الاستخبارات في الحملة البرية البريطانية على مصر(2). كانت الرسالة باللغة الإنجليزية، ولم يكن عرابي قد تعلمها وقتها، ولم تكن تحمل توقيعه، وقد أنكرها، وتبين أن ويلفريد بلنت هو الذي نشرها في صحيفة الـ”تايمز” البريطانية. في كتابه يعترف بلنت بالرسالة موضحاً أن عرابي هو الذي أملاها بالعربية على مساعده، وطلب منه أن ينقلها إلى جلادستون ولم تكن موقعة، ولهذا السبب أنكرها عندما اتهم بكتابتها، ضمن اتهامات أخرى. تحمل الرسالة تاريخ الثاني من يوليو عام 1882، قبل 8 أيام من قصف الإسكندرية. وجاء في بداية نصها باللغة الإنجليزية، كما أورده بلنت في كتابه، ما يلي: “سيدي، أمرنا رسولنا من وحي قرآنه ألا نسعى لبدء الحرب، وأمرنا أيضاً بأنه إذا شنت الحرب علينا أن نقاوم وأن نقاتل من قاتلنا بكل ما أوتينا من سلاح ومن قوة، وأن نقاتل من دون شفقة، ومن ثم فإنه ينبغي على بريطانيا أن تعلم جيداً، أن أول طلقة ستطلقها على مصر سوف تحل كل المصريين من كل عهودهم ومواثيقهم واتفاقاتهم معها، وأنه لن يكون هناك ارتباط ولا مديونية، وأن ممتلكات المدنيين سوف يتم مصادرتها، وأننا سوف نقوم بتدمير القنوات، وسوف نقطع خطوط الاتصالات، ونشن حرباً مقدسة تمتد إلى سوريا والجزيرة العربية والهند». في موضع آخر من كتابه، وفي معرض حديثه عن لقاء له في مارس عام 1882، مع وولسيلي، قائد القوات الغازية لمصر يقول إن الأخير سأله عن رأيه في فرص المقاومة في حالة التدخل العسكري وأنه أجابه بأن عليه أن يكون مستعداً، وأن يأخذ معه 60 ألف مقاتل على الأقل، ويضيف بأنه بالغ بهدف أن يصعّب أمام القائد الإنجليزي الوضع بشكل كبير «حتى تفكر الحكومة البريطانية مرتين قبل أن تحاول عمل شيء»(!). وفي ظننا أن مثل هذا القول يكشف، ربما عن قدر ما من السذاجة جعلت بلنت يظن أن تقديرات «الجنرالات» يمكن أن تبنى على معلومات من غير عسكري أو كلام مرسل من ناشط سياسي. لكن يبدو أن معلومات أخرى، غير عسكرية، وغير مبالغ فيها، قدمها بلنت وساهمت، وربما من حيث لا يدري، في أفعال ألوَلْس متعدد الأطراف والأهداف، وأدت إلى تغلب القوات البريطانية على قوات عرابي في التل الكبير. يعترف بلنت في كتابه بتقديم أسماء لبعض زعماء البدو إلى لورد نورثبروك، نائب الملك في الهند البريطانية ومن السياسيين البريطانيين المخططين لسياسات بريطانيا الاستعمارية، ويقول إن الأخير استخدم اسمه في تحفيز وإقناع هؤلاء الزعماء للعمل ضد عرابي. وباستثناء مثل هذه المعلومات، التي لا ينكرها بلنت، وكذلك باستثناء الرسالة التي أنكرها عرابي، لم يكن صاحب التاريخ السري، سوى لسان حال عرابي وثورته، في دوائر صناعة الرأي والقرار في لندن. ولم يكن غامضاً. إضاءات لما جرى في كتابه “التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر” يسرد ويلفريد بلنت ما جرى من أحداث تصاعدت في صيف عام 1881، عندما غادر الخديو إسماعيل البلاد مخلوعاً، بفرمان من الباب العالي في الآستانة. وينقل بلنت عن ديبلوماسيين بريطانيين يعملون في مصر وقتها أن الخديو إسماعيل كان يعتزم رفض سداد ديونه، وأن يحصن نفسه من خلال إعلان حكومة دستورية في مصر، وقد تنبهت مجموعة روتشيلدز، المالية العالمية، لما يجري وبدأت في ممارسة ضغوطها باتجاه لندن وباريس وبرلين، انتهت بفرمان الإطاحة بإسماعيل وإحلال الخديو توفيق محله. تصاعدت الأحداث، داخلياً، في سياق مطالبات وطنية للإصلاح وإقرار الدستور. ثم كانت الوقفة الشهيرة في ساحة قصر عابدين، وما تلاها من وقائع مسجلة في المراجع التاريخية. وخلال الأسابيع التالية لـ«وقفة عابدين» أظهر الناشط السياسي البريطاني المقيم في مصر نشاطاً ملحوظاً، فراح يلتقي مراراً مع إدوارد ماليت (القنصل العام البريطاني) بشكل يومي تقريباً ويسجل في أوراقه أن الأخير تلقى، في الرابع من نوفمبر 1881، برقية من لورد غرانفيل، وزير الخارجية، تفيد بتعاطف حكومته مع المطالب الإصلاحية في مصر. يلتقي بلنت، عرابي باشا في السادس من ديسمبر 1881، ويدور الحوار بينهما عن علاقة مصر بالحكومتين البريطانية والفرنسية، وبعد لقاء له في اليوم نفسه مع الشيخ محمد عبده، يكتب بلنت رسالة إلى جلادستون تحمل ما قاله عرابي، وتشرح له الموقف برمته، وتدعوه إلى ضرورة إبداء تعاطفه مع الحركة التي تتمشى مع مبادئه التي يجاهر بها. وحتى لا تهمل رسالته، في مقر رئاسة الحكومة البريطانية، وجد بلنت أن من الأفضل إرسالها أولاً للنشر في جريدة “التايمز”. نشرت «التايمز»، رسالة بلنت في اليوم الأول من عام 1882 باعتبارها “برنامج الحزب الوطني” الذي يتزعمه عرابي. توقع الجميع حينها أن تكون، رسالة سلام. لكن، ومثل البرق في سماء صافية، هبطت على مصر «المذكرة المشتركة» البريطانية ـ الفرنسية المؤرخة في السابع من يناير، والتي تفيد بأن الدولتين اجتمعتا على تأييد سلطة الخديو، وتنظران بعين الاستياء إلى تأليف مجلس النواب وقيام نظام برلماني في مصر. وفي كتابه يقول بلنت إنه نصح عرابي وصحبه بالاعتدال في موقفهم من الأزمة التي صنعتها المذكرة المشتركة، وأن الشيخ محمد عبده أيده في نصيحته وروي عنه أنه قال في هذا الصدد: “لقد لبثنا عدة قرون في انتظار حريتنا، فلا يشق علينا أن ننتظر الآن بضعة أشهر”. أساطيل الحرب لا الحرية ولم تأت الأشهر بالحرية المرتقبة، بل جاءت بالأساطيل البريطانية ـ الفرنسية إلى بحر الإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية. وكان بلنت في لندن عندما تلقى رسالة، يوم 21 مايو، من عرابي يقول له فيها إن كل الناس في مصر يستشعرون الحزن بإرسال السفن البريطانية والفرنسية، ويعتبرون هذا نذر شر لنوايا شريرة من جانب القوتين ضد المصريين. ويوم 25 مايو جاءت تعليمات الحكومتين الإنجليزية والفرنسية إلى قنصليهما لتقديم بلاغ نهائي يطالب باستقالة حكومة البارودي، حكومة الثورة العرابية، وإبعاد عرابي باشا عن القطر المصري، واتخاذ إجراءات مماثلة مع رفاقه، زعماء الثورة. في السادس عشر من يونيو أعلن عن تعيين راغب باشا رئيساً للوزراء. يومها ذهب ويلفريد بلنت للقاء عرابي الذي قرأ له برقية تسلمها لحظتها من الخديو يطلب منه التعاون مع راغب باشا كوزير للحربية. وفي الساعة السابعة من صباح يوم الحادي عشر من يوليو بدأ قصف الإسكندرية. ويوم 22 من الشهر نفسه، صدرت الأوامر الإنجليزية إلى الأدميرال سيمور كي يستعد لاحتلال بورسعيد والإسماعيلية. يقول شاهد العيان البريطاني ويلفريد بلنت، إن الإعداد لهذا الهجوم كان يتضمن رشوة البدو المقيمين في المناطق الشرقية في مصر، وأن عرابي أخطأ عندما لم يتخذ القرار بإغلاق قناة السويس من ناحيتها الشمالية، لكن بلنت يعود ويشير إلى خطابات ما بين ديليسبس، رئيس شركة القناة، وعرابي، الذي استجاب فيها لرجاء ديليسيبس احترام حيادية القناة. بعد أن وضعت الحرب أوزارها، يقول بلنت: «وعندما كنت أقوم بالدفاع عن عرابي، كتبت إلى السيد ديليسيبس، وقد بعث لي نسخ الخطابات التي تلقاها من عرابي والمتعلقة بهذا الأمر، وأتضح لي من تلك الخطابات إلى أي مدى تم تضليل عرابي». مع بداية أغسطس 1882، كانت الاستعدادات قد اكتملت على الجانب البريطاني للمضي قدماً في خطة احتلال مصر ووضعها تحت الحماية البريطانية. وتلقى الجنرال ووليسلي خطاب تعيينه قائداً على الجيش «المكلف الخدمة في مصر لمساندة سلطة صاحب السمو الخديو، ولقمع الثورة العسكرية في هذا البلد”(4). في الخامس عشر من سبتمبر (عام 1882)، بعث مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في القاهرة بتقرير نشر في اليوم التالي بعناوين رئيسية منها: «نهاية تمرد عرابي.. القائد المصري سجين في أيدي البريطانيين». كان عرابي قد عاد إلى القاهرة ظهر يوم الأربعاء 13 سبتمبر، وتوجه مباشرة وزارة الحربية في قصر النيل، حيث كان المجلس العرفي العسكري مجتمعاً منذ ساعات طويلة، وبحضور عرابي، وشرحه لأسباب الهزيمة، استقر رأي المجلس على التسليم وكتابة عريضة إلى الخديو لالتماس العفو والاعتذار عن الأفعال. وفي حوالي التاسعة مساء تأهب عرابي، ومعه رفيقه علي فهمي، بالزي الرسمي وركبا عربة توجها إلى ثكنة العباسية، حيث التقيا الجنرال دروري الذي أمر باعتقالهما، بعد تسليمهما سيفيهما. ما بعد الانكسار «الآن وقد وضعت الحرب أوزارها، آمل أن أوضح لك أن صداقتنا ليست مجرد كلمات فقط. من الوارد أنك ستقدم إلى المحاكمة سواء بتهمة التمرد أو بتهم أخرى يصعب عليّ الآن معرفة طبيعتها. مخاطر الإدانة العاجلة قائمة ما لم يتوافر لك دفاع ماهر وقوي. لهذا قررت، وبعد موافقتكم، الحضور إلى القاهرة لمعاونتك بكل ما أستطيع تقديمه من أدلة، أحضر معي محامياً إنجليزياً متمرساً وأميناً، يتولى الدفاع عنك. لقد قمت بإبلاغ الحكومة الإنجليزية بما أعتزمه. لذا أرجوك أن تفوضني، وعلى وجه السرعة، كي أتصرف نيابة عنك في هذا الأمر. موافقتك الرسمية ضرورية ومن المفضل أن ترسل إليّ ببرقية بهذا الشأن، وأيضاً رسالة مكتوبة تفوضني تشكيل هيئة دفاع عنك. سوف ينضم إليّ العديد من البريطانيين الأحرار من أصحاب العقول المتفتحة والمناصب الرفيعة في تحمل كل نفقات القضية. بإمكانك أيضاً الاعتماد عليّ، شخصياً، كي تطمئن إلى تلبية أحتياجات أسرتك خلال فترة أسرك. وأسأل الله أن يلهمك الشجاعة في مواجهة هذا الشر». ما بين الأقواس هو النص الكامل لرسالة بعث بها ويلفريد بلنت، يوم 23 سبتمبر إلى أحمد عرابي باشا، في محبسه. كان بلنت في بريطانيا وقتها، وبعد 5 أيام من استسلام عرابي، بعث برسالة إلى لورد جلادستون يقول فيها: «الآن، وقد وصلت المقاومة العسكرية للمصريين إلى نقطة النهاية، واستسلم عرابي وقادتها الرئيسيين إلى قوات جلالتها (القوات البريطانية)، أغامر مرة أخرى وأخاطبك من أجل ضمان محاكمة عادلة لهؤلاء الذين ألقت بهم الحرب فجأة بين يديك». ولضمان مثل هذه المحاكمة، يلفت بلنت نظر رئيس وزراء بريطانيا إلى أن من الوارد إجهاض العدالة لأن أعضاء المحكمة العسكرية المقترحة «سيتم اختيارهم من بين قلة من الضباط المؤيدة والمناصرة للخديو»، وأن من الوارد جلب شهود زور وتلفيق أدلة إدانة ووثائق المحاكمة. بريطانيا تفضل النفي بذل بلنت جهداً ملحوظاً في تجميع كل الأرواق التي من شأنها، ليس إثبات براءة عرابي ورفاقه فحسب، بل إثبات حجم الولس والخديعة والمداهنة التي أحاطت بزعيم الثورة، والثورة ذاتها. وكانت تلك الأوراق، وثائق ذات قيمة بالغة، حيث تضمنت الخطابات التي كان الخديو أرسلها إلى عرابي باشا وآخرين. وتسبب الكشف عنها في شيوع حالة من الخوف داخل القصر الخديوي، وساد الرأي أن هذه المحاكمة قد تلغى. يقول بلنت إن «ماليت» القنصل العام البريطاني، وكولفين، المراقب المالي الإنجليزي في مصر، «أصبحا غير قادرين على وقف هذا السيل من الأنباء التي كشفت أسرار النظرية المدمرة التي صاغاها للحكومة ومفادها بأن المعارضة للمطالب الإنجليزية تقتصر على عرابي والجيش، وأن الحركة الوطنية لم تكن قومية (تشمل كل مصر)». وبدا واضحاً أن النية البريطانية تتجه إلى أن تنتهي المحاكمة بالنفي لعرابي ورفاقه. وفي كتابه ينشر بلنت رسالة تلقاها من المحامي برودلي، المكلف الدفاع عن عرابي، يطمئنه أن الأمور تسير بشكل جيد، ويطلب منه أن يبدأ التفاوض بشأن مكان النفي. ويوم صدرت الأحكام بالإعدام، ومعها فرمان خديوي بتخفيفها إلى النفي مدى الحياة، لم يكن بلنت راضياً عن ثبوت تهمة التمرد، ويبدو أن محاولات نفيها كانت ستطيل المحاكمة، ولم يكن بلنت جاهزا لذلك ويقول: «كان عليّ أيضاً أن أضع في الاعتبار مسألة التكلفة»، مشيراً في هذا السياق إلى اكتتاب عام شارك فيه الكثير من ذوي الحيثية من البريطانيين، ويبدو أن القرار بشأنه اتخذ في وقت لاحق للمحاكمة، ويقول: «إن المبالغ التي تم جمعها بالفعل لم تزد عن الـ 200 جنيه استرليني بينما تعدت التكلفة التي وضعها برودلي الـ ثلاثة ألاف جنيه، واستمرار المحاكمة لشهر آخر كانت تعني مصروفات ضخمة تتعدى ما كنت أضعه في حسباني». عند منتصف نهار 27 ديسمبر (1882) وصل إلى ميناء السويس قطار قادم من القاهرة، وعلى متنه عرابي ورفاقه، زعماء الثورة، الذين انتقلوا، ومن معهم، من القطار إلى السفينة الإنجليزية ماريوتيس، التي أبحرت، ظهر اليوم نفسه، مغادرة المياه المصرية في طريقها إلى جزيرة سيلان، المستعمرة التي رأت الحكومة البريطانية أن تكون مقر الإقامة النهائي لمن كسرهم الولس. الدور الأخير لـ«بلنت» خلال وجوده في كولومبو، في زيارة إلى عرابي وصحبه، بعث ويلفريد بلنت، برسالة إلى صحيفة «التايمز» البريطانية نشرتها في عددها الصادر يوم 13 ديسمبر عام 1883. قدم بلنت لرسالته بأنها «كشف حساب من مصدر موثوق عن حياة عرابي باشا وآرائه الحالية، هو ورفاقه المنفيون في محل الإقامة الذي اختارته لهم الحكومة البريطانية”. يقول بلنت إنه أقام مع عرابي وصحبه مدة تفوق الثلاثة أسابيع، كضيف عليهم، و«لذا يمكنني التحدث بقدر من الثقة عن أفكارهم، وأظن أن الوقت قد حان لإفادة الجمهور العام من هذه الأفكار، وربما أيضاً، إذا جاز لي أن أقترح، إفادة تلك السلطات المتعالمة في دواننج ستريت (مقر رئاسة الوزراء في بريطانيا) التي لم تزل تسعى لابتعاث مصر عن طريق وضع الرجال المستديرين في ثقوب مربعة والمربعين في ثقوب مستديرة». ويقصد وضع غير المناسب في المكان غير المناسب. كانت الرسالة طويلة جداً، وفيها يشير بلنت إلى حالة المعاناة الصحية والمعيشية للمنفيين، والمرارة الحتمية، التي يتجرعها كل منفيّ مع خبزه اليومي. يتحدث بإسهاب عن قدر الاحترام الذي تبديه «الجالية المسلمة في سيلان» لضيوفها المصريين، خاصة عرابي، الذي لا يزال يحدوه الأمل في العودة إلى مصر، كما يسهب في عرض خطة إصلاح مصرية وضعها عرابي، ويحددها بلنت في نقاط تشمل مصر والسودان، منها: إلغاء المحاكم المختلطة، وضع قانون شامل في مصر لكل المقيمين على أرضها على قدم المساواة في القضايا المدنية والجنائية، وضع ضمانات ضد الاعتقال والحبس التعسفي، انتخاب القرى لشيوخها، لا تعيينهم من قبل مديري المديريات، إصلاح الانتهاكات المرتبطة بالسخرة، تعليم البنات كما الصبية في مصر، حماية استقلال المعينين في المناصب العامة من نزوات الوزراء، وتحصيل الضرائب بالتساوي من الجميع، أجانب ومصريين. ويختم بلنت رسالته إلى «التايمز» قائلاً: «ها هي أفكار عرابي... لكنني أخشى أن تنفيذها سيحتاج إلى ظهور سياسة أكثر استنارة من تلك المتبعة الآن في القاهرة». انتهت رواية شاهد العيان البريطاني عن الثورة العرابية، الوَلْسُ، واحتلال مصر، لكن «الخشية» تظل قائمة كلما جرى الحديث عن «الوَلْس» والثورات. هوامش: (1) من سرد على الشخصية الرئيسية في رواية بهاء طاهر ـ واحة الغروب ـ دار الشروق، القاهرة 2007. (2) وثيقة بريطانية بتاريخ 27 سبتمبر 1981. (3) د. لطيفة الزيات ـ عرابي ورفاقه في جنة آدم ـ دراسة وثائقية ـ دار الشروق، القاهرة 2009. (4) وثيقة بريطانية بتاريخ 4 أغسطس 1882.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©