السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيروت مدينة تتقن لملمة شظاياها

بيروت مدينة تتقن لملمة شظاياها
25 سبتمبر 2013 20:28
بالعادة يقصد المراسل الأجنبي لبنان بحثاً عن موضوعات “مثيرة” سياسياً وأمنياً، إلا أنّ الأميركي إريك ريدي اختار معاينة المشهد اللبناني من باب تحوّلاته الثقافية. حمل عدسته وأوراقه الصحفية وبعض المعطيات الأوّلية منطلقاً صوب بيوت الفن والمؤسسات التي بقيت صامدة على الرغم من التهديد والوعيد اللذين يحيطان بالبلد من جهاته الأربع. وبخياره المستهجن ذاك، كان من الطبيعي أن يجابه بالكثير من علامات السؤال على منوال: أليس هناك جوانب “محتدمة” وأزمات تستأهل الإضاءة عليها أكثر في مدينة تعجّ باللااستقرار مثل بيروت؟. وجاء الرد موثّقاً بعدما ارتأى ريدي تدوين خلاصة تجربته في كتابه الإلكتروني: “المرآة المكسورة: الساحة الثقافية في بيروت والبحث عن الهوية”، الصادر حديثاً باللغة الإنجليزية عن مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية “سكايز”، وبدعم من الاتحاد الأوروبي، إيماناً منه بالدور الذي تؤدّيه، ويمكن أن تؤديه عاصمة الثقافة بيروت، المدينة التي أغنت المنطقة في الستينيات والسبعينيات بنهضة جعلتها أرضاً خصبة للباحثين عن الإبداع والحرية، وملتقى لحوار الحضارات وكل أطراف النزاع غير المتجانسة. ينطلق ريدي في كتابه الذي ينقسم إلى ثلاثة فصول، من قناعة تشكّلت لديه بأنّ بيروت مدينة تتقن دوماً لعبة الولادة من الرماد، وأخرى اكتسبها من جلساته المطوّلة مع نخبة من المثقفين والصحافيين ومن الغيورين على الفن وشجونه وشطحاته، ليخلص إلى دحض فرضية جنوح لبنان صوب التقسيم والحكم الذاتي. برأيه أنّ الذي سيشهد للغد هو ذلك المشهد الثقافي وتجارب الفنانين الذين يعيشون ويبتكرون في بيروت مبرزين الدور المحتمل للحركة الثقافية في تحدي الانقسامات الجغرافية والسياسية والطائفية السائدة في المجتمع اللبناني. أمّا الساحة الفنية في بيروت، فما هي إلا انعكاس لصورة الانقسامات، وفي ذلك إيجابية بحسب المراسل إذ إنّ الراهن المتشعّب والمتداخل يسهم في بلورة هوية مشتركة في حال وجدت الطاقات الفنية الدعم المطلوب. فالعائلة الفنية بما تحاكيه في يومياتها المنتشرة في بيروت، وما تطرحه من موضوعات، إنما تؤسس لأرضية مشتركة يمكن البناء عليها ودعوة اللبنانيين للسمر في رحابها بحيث يصبح الاختلاف مصدرا غنيا وثراء للتجربة اللبنانية التي فيها من كل شيء وتحاكي من حولها بالجملة لا بالمفرّق. أمّا المطلوب في سبيل توظيف الفن في خدمة المدينة، فهو ذلك الدعم الذي بحاجة الى تنشيط من قبل مؤسسات المجتمع المدني والجهات المهتمة بالفنون، خصوصاً في ظل انكفاء الدور الحكومي وغيابه. في تقديمه للكتاب يشرح إريك المشهد العربي بالآتي: ما يحصل في سوريا حرب أهلية قد تجر البلد إلى التقسيم: جزء تسيطر عليه المعارضة “السنّية”، وآخر من قبل مؤيدي بشّار الأسد، والثالث يسيطر عليه الأكراد في منطقة قريبة من الحدود التركية والعراقية. وفي العراق هناك توترات طائفية بين الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة والمعارضة السنّية. وما بين البلدين تؤثّر تلك الضغوط الطائفية سلباً على استقرار لبنان الهش. ويتوقع إريك بأنه من دون حوار جدي بين القادة، فإنّ المجتمعات في الشرق الأوسط آخذة في طريقها إلى التقسيم بحيث تتشكّل سلسلة من دويلات صغيرة بحسب الطائفة. ويثير هذا التحليل القلق على عدة مستويات. يوضح: “الأوّل، أنّ المستشرق متجذّر في ذهنه بأن المجتمعات العربية مناهضة للحداثة. الثاني أنّه في الحديث تاريخيا، ثمة تجاهل بأن تلك الدويلات نتاج الخيال كما الحدود المصطنعة التي أوجدتها اتفاقية سايكس ـ بيكو. ثالثا، والأكثر إثارة للقلق، هو قبول هذه الرواية الجاهزة عن الاختلافات الدينية والعرقية والطائفية كمصدر لا مفر منه لاندلاع الصراعات في الشرق الأوسط. وهي لا تترك مجالا للتفاعل أو استثمار الاختلاف بطريقة مثمرة وإيجابية”. كما يستعيد مقولة للكاتبة حنان الشيخ تسأل فيها: “هل هذه هي بيروت التي لطالما كانت مثل كرة من الألوان تتدحرج باستمرار. التناقضات جعلت من سكان بيروت يبدون أبديون”. يشرح أنه بعد انتقاله الى بيروت بحوالى الشهر انطلق في رحلة للعثور على مركز بيروت للفنون، وهي مؤسسة غير ربحية تقع في سن الفيل. وكانت الشمس تشرف على المغيب حين عبر طريق كورنيش النهر والطرق السريعة المجاورة ومعه خريطة حمّلها من موقع المركز. مشى كثيرا صعودا وهبوطا في محاولة للتعرف إليه، وتوقف عند سوق الأحد للسؤال عن المركز. ولم يكن أحد من المارة، ولا حتى الشرطي المكلف بتنظيم السير هناك قد سمع به. كان كل واحد من المارة يشير الى اتجاه، وفي المحصلة الجميع قدم معلومات خاطئة عن وجهة السير للوصول اليه. وبينما كان لازال يبحث، خطر له أن تكون مقالته المقبلة ليس الحديث عن المركز الفني في بيروت، وإنما في كيفية الوصول إليه وما تخلله من صعوبات ومغامرات للعثور عليه. وعلى الرغم من طغيان الحس الساخر على المقالة، كان السؤال الذي في ذهنه منذ الوصول الى المدينة: إذا كانت بيروت عاصمة للثقافة، أين تقع هذه الثقافة ومراكزها وما هو الدور الذي تلعبه في حياة المدينة؟. وفي تلك المرحلة انضمّ الى مركز “سكايز”. وكان هذا المركز يدعم اللقاءات والمقابلات مع الفنانين في بيروت وتجربة العيش والخلق فيها. ومن تلك اللقاءات ولد الكتاب بعنوان “المرآة المكسورة”. ضمّن ريدي كتابه نحو 20 مقابلة مع فنانين يعملون ويعيشون في بيروت. تحدث مع لبنانيين من مختلف الخلفيات، وسوريين لاجئين من الذين نزحوا إلى بيروت بفعل احتدام الأحداث في بلدهم، وفلسطينيين ممن يقطنون في المخيمات على تخوم المدينة، والعمال المهاجرين الذين يسكنون في شقق مكتظة ومغتربين لبنانيين ممن اختاروا العودة بعد طول اغتراب للمشاركة مجددا في الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في موطنهم. وبالاضافة الى المقابلات، تابع عددا كبيرا من المهرجانات السينمائية الى القراءات الشعرية ومعارض الصور والحفلات الموسيقية وبينها حفلات “الهيب هوب” من أجل فهم أعمق للحياة الثقافية في بيروت. وما خلص اليه من المشهد العام، هو أن بيروت حريصة في أن تبقى مشحونة بتلك الطاقة للحفاظ على المشهد الثقافي الذي يميزها على الرغم من كل الأزمات التي خبرتها وعاشتها. وعلى وجه التحديد، فإنّها مدينة ما زالت تبحث عن هويتها بين الانقسامات الطائفية والتغيرات السريعة الحاصلة فيها. وفي الوقت نفسه، هي حيّة بالابداع والطاقة والتنوّع والحرية النسبية وكلّها عوامل تسهم في جعل أرضها خصبة بالانتاج الفني. وعلى هذا الأساس جاءت أعمال الفنانين في بيروت من صلب الحياة اليومية للمدينة، وهي تشكل مرآة تعكس سردا فيه شمولية حول الحياة الاجتماعية للسكان، ولكن المقدرة على رؤية هذا المشهد، قد يعيقه ذلك التفتت الحاصل في الجانبين المادي والاجتماعي كما في الذهنية، فضلا عن التحديات الأخرى التي تخلق انقساما بين المشهد الثقافي والحياة العامة. ولذلك أجمع عدد كبير من الفنانين على ضرورة وصل شظايا الانقسام من أجل تقديم بديل عن العدسة الطائفية المهيمنة في النظرة الى المجتمع. وهو الأمر الذي يستدعي تنشيط عمل منظمات المجتمع المدني للعب دور في تشكيل مشهد ثقافي لتطوير هوية المدينة بما ينصفها. ولتدعيم هذه النظرية، يوجز الفصل الأوّل نبذة تاريخية عن المراحل التي خبرتها الحياة الثقافية في بيروت ولمحة عامة عن الفنانين والنشاطات. وفي الفصل الثاني بحث عن مضمون الاعمال الفنية باعتبارها مرآة تعكس تجربة جماعية وتشكل نصا وأرضية مشتركين من وحي الحياة اليومية. وتدحض الاعتقاد السائد بأن الانتماءات الطائفية آخذة في تفتيت المجتمع. الفصل الثالث يعرض التحديات التي تواجه المشهد الثقافي في بيروت من خلال تجارب الفنانين مع الرقابة الحكومية والاجتماعية فضلا عن محاولات تهميش وتفتيت المشهد الثقافي في المدينة. وتضيء الخاتمة على سعي الفنانين من أجل إزالة ذلك الحاجز بين المشهد الثقافي والحياة العامة وتؤكد على دور منظمات المجتمع المدني في أن تلعب دورا مؤثرا في إحياء ودعم الأنشطة الثقافية في ظل غياب الدعم الحكومي. وفي المقابلات يستشهد “ريدي” بكلمات لمن حاورهم عن بيروت، إذ يقول الرسام السوري ابن السويداء جيلان صفدي: “بيروت لديها سحرها الخاص، هي مدينة الفنون، تماما كما هو موقع باريس الفني في أوروبا. ذلك أنه بين المدينة والفن اتصال عضوي خارق”. إلّا أنّ الشاعر والأستاذ الجامعي عمر صباغ الذي عاش في لندن قبل خيار العودة له رؤية مغايرة: “بيروت هي ديزني وورلد الشرق الأوسط. فإذا أراد أحدهم السفر الى مكان، ولاسيما من أبناء الخليج بحثا عن الترفيه والشرب والنساء، سيختار لبنان، هي مدينة للترفيه”. وهذا الاحتدام بين الرأيين مبرر على حد قول “ريدي” في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية. يعلّق بأنّ سمير قصير كتب في العام 2003 عن المدينة مبدياً استياءه من فقدانها لموقعها الذي تربعت على عرشه في الستينيات والسبعينيات لتصبح مجرد مدينة للتسلية والترفيه. يختم: “تستحق بيروت مساندة صادقة وبنّاءة خدمة للفن ولها”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©