السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن الخطيب يدافع عن قاتله

ابن الخطيب يدافع عن قاتله
25 سبتمبر 2013 20:29
لا نستطيع أن نمر على الشاعر الأندلسي ابن زمرك دون أن نستكمل الصورة التي حاولنا اختصارها في الحلقة الماضية، فرغم كل ما سجل وما قيل عنه بأنه غدر بأستاذه ومعلمه لسان الدين الخطيب ولاحقه من غرناطة إلى المغرب ليقتله وينهي حياته بصورة بشعة، إلا أن هذا الشاعر كما يرى بعض الباحثين استطاع أن يترك للأجيال تراثاً شعرياً لا يتمثل بتلك القصائد المنقوشة على جدران قصور الحمراء في غرناطة، بل يتجاوز ذلك ليقوم السلطان ابن الأحمر بجمع شعره وموشحاته في مجلد ضخم سماه “البقية والمدرك من كلام ابن زمرك”.. رآه المقري في المغرب ونقل منه الكثير في كتابه “نفح الطيب وأزهار الرياض”. وإذا كان ابن زمرك قد قام بقتل أستاذه لسان الدين الخطيب أو شارك في قتله والتمثيل بجثته وحرقها، إلا أن نهايته هو نفسه كانت أكثر فظاعة ووحشية. يقول المقري في كتابه نفح الطيب: “اعلم أن تلامذة لسان الدين الخطيب رحمه الله كثيرون، إلا أنه لم يرزق السعادة في كثيرٍ منهم، بل بارزوه بالعداوة واجتهدوا في إيصال المكروه إليه”. لماذا فعل ابن زمرك ذلك.. وهل كان فعلاً بهذا السوء؟ كان ابن زمرك عاشقاً للسلطة، ويريد الوصول إلى أعلى المناصب، هذا صحيح. ولكن هل يكون الطريق هو الفتك بالأستاذ والمريد؟ يقولون: الباحث عن السلطة لا يتورع عن أي عمل، المهم أن يصل حتى ولو على أشلاء أصدقائه. ولكن دراسة قام بها الباحث محمد عبدالله عنان خلص فيها إلى أن لسان الدين الخطيب كان فيه بعض الصلف والاعتداد بالنفس، ويميل إلى الاستبداد المطلق والعناد، وتلك حالة من لا ينام الليل، فابن الخطيب يسمونه أيضاً المعترك السياسي العجيب، وربما تكون العداوة بين لسان الدين وابن زمرك بسبب حاجة تأخر ابن الخطيب في قضائها له. ولا ننسى أن ملوك بني نصر أنفسهم كانوا يعيشون حالة الصراع السياسي فجميع ملوكهم انتهوا إما بالعزل أو بالقتل. ولكن ابن زمرك استطاع أن يصل إلى أعلى المراتب، وأن يكون الوزير الأول لدى الغني بالله محمد، والذي كان يميل في البداية إلى لسان الدين بن الخطيب وجعله وزيره المطلق الصلاحية والسلطة، ولكن الحاسدين والحاقدين وفي مقدمتهم ابن زمرك استطاعوا تبديل مشاعر الملك، وزرعوا الشك وعدم الارتياح بين الرجلين، فما كاد يحس ابن الخطيب بهذا التغير حتى لجأ إلى الملك المريني في المغرب وقد أكرمه وأحسن إليه، ولكن وبعد وفاته وتولي ابنه أبي العباس تغير الحال.. وأصبح ابن الخطيب في وضع صعب، وتحول فيه السلطان الجديد إلى معادٍ له فطالب مع الآخرين بمحاكمته. وما كاد الغني بالله يعرف بأمر هذا التغير حتى أرسل إلى السلطان المغربي وزيره الجديد ابن زمرك ليطلب منه التخلص من ذلك الخارج على الدين. سارع ابن زمرك إلى فاس، ونجحت وفادته بقتل لسان الدين الخطيب.. هكذا قالت معظم المراجع التي أرّخت للرجلين ولكن.. ماذا قال لسان الدين الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة”؟ ـ ابن زمرك، أصله من شرق الأندلس، خفيف الروح، عظيم الانطباع، شره مع حياء وحشمة، جواد بما في يده، مشارك لإخوانه، نشأ عفاً فاشتهر فضله وذاع أرجه، وفشا خبره، ترقى في درج المعرفة والاضطلاع وبعد شأوه في البيان واللغة والنظم والنثر. إذن كان لسان الدين الخطيب يقدّر تلميذه ابن زمرك ويعطيه من صفات العالم والشاعر ما يجعلنا نشك بالحكايات التي تناقلها المؤرخون عن قيام ابن زمرك بالتحرك للقضاء عليه وعن طريق الاغتيال. وإذا كان ابن زمرك قد غضب من انحيازي للسان الدين ابن الخطيب وتركني حائراً في أمره، فلماذا لا أستحضر لسان الدين ابن الخطيب نفسه ليخلصنا من الحيرة. ? سيدي لسان الدين بن الخطيب.. لماذا أعطيت ابن زمرك أكثر من حقه في كتابك “الإحاطة بأخبار غرناطة” مع أنك كنت تشعر أن التلميذ خرج عن طوعك وبات يعاديك ويتآمر عليك؟ ابتسم لسان الخطيب ابتسامة حزينة وقال: ـ إنها الأمانة العلمية يا ولدي.. كان ابن زمرك شاعراً كبيراً، ولا يمكنني أن أقول عكس ذلك.. ? وما الذي أعجبك في شعره؟ ـ سجلت ما أعجبني في كتاب الإحاطة ولكنني لا أنسى القصيدة التي وجهها إليّ مادحاً متقرباً، عندما كنت وزير مملكة بني نصر في غرناطة.. وفيها يقول: لك الحسب الوضّاحُ والسؤدد الذي يضيق نطاق الوصف فيه عن الحصرِ تشرَّفَ أفقٌ أنت بدر كماله فغرناطة تختال تيهاً على مصرِ فلا زلت للعلياء تحمي ذمارها وتسحب أذيال الفخار على النسر وللعلم فخر الدين والفتك بالعدا شأوت به يا ابن الخطيب على الفخرِ جبرت مهيضاً في جناحي ورشته سهلت لي من جانب الزمن الوعر وبوأتني من ذروة العز معتلي وشرّفتني من حيث أدرى ولا أدري فأصبحت مغبوطاً على خير نعمةٍ يقلُّ لأدناها الكثير من الشكرِ ? إنه يعترف بجميلك ويقدر ما صنعته من أجله.. ـ ولكنه مع الأسف تنكر حتى كلامه، وساهم في مأساتي. ? أهو الذي قتلك يا ابن الخطيب؟ ـ القتل أحياناً لا يكون بمجرد سفك الدم.. بل إن الجحود وإنكار الجميل أشد من القتل.. وهذا ما فعله ابن زمرك منذ خلفني في الوزارة وخشي من عودتي.. ? ولكن يقال: إنه هو الذي أوقع بينك وبين الغني بالله محمد ـ كان يريد مكاني وكان عليّ أن أحذره. ? يقال: عدو المرء من يعمل عمله.. وابن زمرك مارس الشعر والأدب مثلك.. ـ هذا ليس صحيحاً، وإلا ما كنت أمدحه في كتابي “الإحاطة في أخبار غرناطة”. ? كما مدحك هو في تلك القصيدة التي رويتها لي ـ هو الذي تغير.. أما أنا.. فلم أفعل له شيئاً مؤذياً.. ? لعله اختلاف الرأي؟ ـ خلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. ? لعلها المنافسة؟ ـ بل هي روح الغدر والخيانة التي كانت تسكنه.. تصور أنه أوغر صدر الملك الغني بالله فقام بإحراق كتبي ومحو أشعاري عن جدران قصور الحمراء.. ? يكفي أنه حضر إلى المغرب للتخلص منك. ـ لا يستطيع شاعر مثله أن يقوم بمثل ما قام به إلا ويقع فريسة لعذاب الضمير. ? وهل لديه ضمير فعلاً؟ ـ نعم.. ولكن إغراء السلطة يلغي حتى المبادئ والمثل.. ولا تنسى أن ابن زمرك لقي مصرعه بشكل أبشع كثيراً من مصرعي.. قتلوه وهو يحمل المصحف في يديه.. ? وماذا يعني ذلك؟ ـ أراد أن يقول إنه ندم وتاب لله سبحانه.. ولكن في الوقت الضائع. ? حدثني يا ابن الخطيب عن شعر ابن زمرك.. أهو جميعه في مدح ملوك بني نصر.. ـ معظمه.. وخاصة تلك القصائد التي نقشها على جدران القصور في غرناطة ?ألم يقل في أغراض أخرى.. الغزل مثل؟اً ـ بل كان مبدعاً في غزله.. وخاصة تلك الموشحات التي تغنى بها مطربو ذلك الزمن الجميل. ? أتذكر أحد هذه الموشحات؟ ـ أذكر ذلك الموشح الذي يقول: أبلغ لغرناطة السلام وصف لها عهدي السليم فلو رعى طيفها ذمام ما بت في ليلة السليم كم بت فيها على اقتراح أعلُّ من خمرة الرضابْ أدير فيها كؤوس راح قد زانها الثغر بالحبابْ أختال كالمهر في الجماح نشوان في روضة الشبابْ أضاحك الزهر في الغمام مباهياً روضة الوسيم وأفضح الغصن بالقوم إن هب من جوها النسيم بينا أنا والشباب ضافِ وظلُّه فوقنا مديدْ ومورد الأنس فيه صاف ومرده رائق جديدْ إذ لاح في الغود غير خافِ صبحٌ به نبِّه الوليد أيقظ من كان ذاق منام لما انجلى ليلة البهيم وأرسل الدمع كالغمام في كل وادٍ به أهيم يا جيرة عهدهم كريم وفعلُهم كلُّه جميلْ لا تعذلوا الصبَّ إذ يهيم فقلبه قد صبا يميلْ القرب من ربعكم نعيم وبعدكم خطبُه جليلْ أعندكم أنني بفاسِ أكابد الشوق والحنين أذكر أهلي بها وناسي واليومُ في الطول كالسنين اللهُ حسبي فكم أقاسي في وحشة الصب والبنين مطارحاً ساجع الحمام شوقاً إلى الإلف والحميم والدمع قد لجّ في انسجام وقد وهى عقده النظيم يا ساكني جنة العريف اسكنتم جنة الخلود كم تمّ من منظر شريف قد حف باليمن والسعود ورب طودٍ به نيف أدواحه الخضر كالبنود والنهر قد سلَّ كالحسام لراحة الشرب مستديم والزهر قد راق بابتسام مقبلاً راحة النديم المراجع: 1 - الإحاطة في أخبار غرناطة/ لسان الدين ابن الخطيب 2 - ديوان ابن زمرك/ محمد توفيق النيفر 3 - شعر النقوش عند ابن زمرك/ سعد محمد العزايزة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©