الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا أريد أن أكون أمي!

لا أريد أن أكون أمي!
25 سبتمبر 2013 20:30
يقول المثل الشعبي: “اكفي الجرة على فمها تخرج البنت لأمها” لكن الإبنة في مسرحية “ترنيمة الحوت المهجور” المقتبسة عن المسرحي الفرنسي إيف لوبو ترفض أن تكون صورة طبق الأصل عن والدتها، والابن مشغول عن تحمل جزء من مسؤوليته تجاه أمه الوحيدة والأرملة التي وصلت سن الشيخوخة. المسرحية التي أعدها محمد المعايطة وأخرجتها أريج الجبور وعلى مدى أربعين دقيقة تناقش بهدوء قضية معاشة ومن واقعنا وملموسة لدى الكثير من الأسر الأردنية والعربية على حد سواء، فعندما يشيخ الأبوان ننسى ما بذلاه من جهد وتعب من أجل أن نكون ونتجاهل في زحمة الحياة واجبنا تجاه هؤلاء الذين ما بخلا وربما جاعا من أجل أن نشبع وننام بهدوء وأمان. ومن هنا ركز العمل المسرحي الذي حاز الجائزة الذهبية مناصفة مع مسرحية “تضاد القمامة” في مهرجان عمون لمسرح الشباب بالأردن مؤخرا على عقوق الأبناء والفوضى الاجتماعية التي تتفشى في مجتمعاتنا العربية وانعدام التواصل بين الأسر في محاولة للفت الأنظار مجدداً نحو حقوق الآباء علينا واستعادة جنة التراحم والتضامن المفقودة، حيث لا يعرف الجار جاره. إسقاطات اجتماعية ويكمن القول: إن “ترنيمة الحوت المهجور” التي تنتمي للمدرسة الواقعية مشحونة بكثير من الرمزية والإسقاطات الاجتماعية، فالأم ضحت بنجوميتها وشهرتها كممثلة مسرح لكي تربي أبناءها وتعتني بهم، فهل هي الوطن بمفهومه المصغر.. “الأسرة كلبنة أساسية لمجتمعاتنا التي تفقد دورها” أم الموروث الشعبي الذي تربينا عليه. وبعد أن يتجول في أعماق النفس البشرية يبرز العرض الكثير من المعاني الإنسانية، فالأم هي الحوت المهجور الذي يتخلى عنه القطيع “الأسرة”، وأية مجموعة بشرية تنتمي لها، رغم أننا مخلوقون للعيش في جماعات أبينا أم رضينا وخاصة في هذا الزمن، حيث ينعدم الإحساس بالأمان سيما في الأماكن الكبيرة التي أصبحت مرعبة لعدم قدرتنا على فرض نفوذنا وسيطرتنا. كما يبرز عواطف الابنة التي من المفروض أن تكون قريبة من أمها نفسيا وعاطفياً، لكنها ترفض “لا أريد أن أكون أمي” ففي هذه العبارة نغمة التمرد والاستقلالية إذا جاز التعبير، لكنها من ناحية ثانية انفصال جيل الوجبات السريعة ومواقع التواصل الاجتماعي الذي يرى في الآباء والأجداد “موضة قديمة”. ويمكن أن نفهم أن الثلاثية “الأم والابن والبنت” على صواب، ويمكن في الوقت ذاته أن يكونوا على خطأ، فالبنت عاقة والابن مشغول دائما دون أن يلتفتا إلى أن دورة الزمن قادمة، والأم تريد رد الجميل فقد حملت وتعبت وسهرت وضحت فهل يكون هذا جزاؤها؟ وهل يجوز تركها وحيدة تصارع الحياة بعد أن عجزت كالحوت في أعماق البحر؟. أسرار البيوت تقول المخرجة أريج الجبور في بوستر المسرحية “عندما تغلق الأبواب يفتح الكثير من الكلام” وهذا الطرح يتضمن دعوة مبطنة لمراجعة تصرفاتنا وسلوكنا تجاه الآخرين المحيطين بنا وتصحيحها، وأن ما يقال داخل الجدران المغلقة غير الذي يقال خارجها: “البيوت أسرار” في إشارة واضحة من المخرجة لأن يتناغم كلامنا ومواقفنا داخل وخارج الأبواب ويكون منسجماً مع التزاماتنا تجاه الآخرين وخاصة الأم والأب عندما يتقدم العمر بهما وينشدان العون والمساعدة. وفي حديث مع “الاتحاد الثقافي” أشارت الجبور للرسائل غير المباشرة التي حاولت الإيحاء بها معتمدة على المتلقي وخلفيته الثقافية والفكرية واستفزازه، وكيف يمكن أن يحلل هذا الرمز أو ذاك كمفردة المفتاح القديم جداً في آخر العرض المسرحي حين يأخذوا الأم للبيت الجديد. فالبعض فهم “المفتاح” على أنه إشارة للعودة، حيث ما يزال كبار السن الذين هجروا من فلسطين بالقوة يحتفظون بمفاتيح بيوتهم، وآخرون فسروه بالفرج عن أم تشكو الإهمال وعدم الرعاية الكافية من ابنيها بعد صبر طويل، في حين رآه مشاهدون على أنه “افتح عقلك” ودعوة صريحة لتفكير جديد معاصر “كل واحد ووجعه”. أيضا هناك من فسره على أنه ثورة، والأمر كله متروك للمتلقي ليرى طريقه نحو هذه الرمزية. ومن وجهة نظري ـ والحديث للجبور ـ إن العمل المسرحي الناجح هو الذي يثير الأسئلة ويستفز المشاهد ويمتحن ثقافته وقدرته على التحليل ويجبره على مراجعة قناعاته. ولم تكن الرمزية في مضمون “ترنيمة الحوت المهجور” فحسب، بل انسحبت على الديكور البسيط وهو عبارة عن كرسي وظهره باب، وبمجرد الجلوس تستند على باب أيضاً في محاولة أخرى لمداعبة عقل المشاهد ليفكر فيما يرى وإلى أين نحن ذاهبون في مرحلة لا يحس الناس فيها بالأمان إلا إذا كانوا مستندين على ظهر قوي في إشارة للأم التي كان ظهرها الباب. عصف ذهني وفي هذا الشأن تقول أريج الجبور: لست معلمة للجمهور بل مستفزة لعقله ومشاعره، حيث يفجر العرض المسرحي حالة من التفكير والعصف الذهني وليس الإرباك الفكري.. كل مشاهد معني بشكل شخصي بما يشاهده على خشبة المسرح.. استثرت العقل والمشاعر فقط وكل ما أريده هو إعادة القيم الجمالية والأخلاقية والتماسك الأسري لحياتنا وكان همي كمخرجة أن يشعر المشاهد بما يراه ويستوعبه ويفكر بما قدمته من مشاغبة ومناكفة بصرية وفكرية. الممثلون في فرقة “الفن الحديث” وهم مرام أبو الهيجا وزيد خليل مصطفى ونهى سمارة كانوا في مبارزة مسرحية حقيقية أطلقوا خلالها طاقاتهم الكامنة وأثبتوا حضورهم فاستحقوا تصفيق الجمهور والنقاد بجدارة، ونالوا الجائزة الذهبية باقتدار، وهذا بطبيعة الحال يعود لمخرجة استوعبت النص وتجولت في مفاصله وتجملت برؤية واضحة وعرفت ما تريد وسارت نحوه بخط مستقيم. وفي هذا المقام يربط ناقدون نجاح أي عمل مسرحي بقدرة المخرج على فهم النص وتفجير طاقات الممثلين وخلق حالة من الانسجام بينهم والعكس صحيح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©