الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العيش على الحافة

العيش على الحافة
30 سبتمبر 2011 21:56
كان شعر رأسي يبيّض بسرعة وازداد ترنّحاً كل يوم بسبب الأثقال التي أحملها على ظهري، فأنا أب لأطفال يحتاجون إلى صدر يضمهم ويدٍ تضربهم، وزوج لامرأة تعتبرني فارس أحلامها، وابن لوالدين يتوقعان البر بهما كما ربياني صغيراً، وأخ لإخوان وأخوات يؤمنون بأن الظفر لا يخرج من اللحم، وصديق لعشرات الأشخاص الذين يرفعون شعار العيش والملح. وفوق هذا، أهوى الكتابة، والقرّاء أذكياء والخيارات أمامهم لا حصر لها، وقارئ لكتب لا يمكن أن أستغني عنها ما دمت قررت أن أكتب، وأدير موقعاً إلكترونياً ينبغي تحديثه وتجديده، ولي صفحة في أكثر من موقع للتواصل الاجتماعي. ولا يمكن تجاهل من أقاموا لك وزناً وأضافوك في قوائمهم، وموظف صباحاً لدى جهة تؤمّن لي رزقي، وطالب مساء لأجل الحصول على رخصة مهنية تفتح آفاق المستقبل أمامي، ومطلوب مني أن أحافظ على صحتي وأمارس الرياضة يومياً. ولا يمكن أن تكون مثالياً في جميع الأدوار، ولا شخصاً نموذجياً مع الجميع، فالزوج المثالي لا يمكن أن يعطي هوايته حقها، والذي يعامل هوايته باعتبارها شريكة حياته فإنه سيعامل شريكة حياته الحقيقية كأنها هواية، والموظف الذي يعتمد عليه المدير لا يمكن أن يكون طالباً مجتهداً في المساء، والذي يلبي الدعوة ولا يرد أحداً، لا يمكن أن يمارس الرياضة باستمرار. لكن ما العمل وأنا مطالب بأخذ أدوار جديدة في الحياة على حساب أدواري السابقة؟ وما الذي يمكن فعله إزاء علاقات جديدة أجد نفسي أقيمها ولا يكون ذلك إلا بقطع حبال العلاقات القديمة واستعمال أجزاء الحبل في توصيل تلك العلاقات الجديدة؟ بالطبع سأفشل في بعض الأدوار لأنجح في الأدوار الأخرى، وسأخيّب ظن الآخرين بي، وأعرّض نفسي للوم والتقريع، وربما الاحتقار. كان الحل الوحيد هو أن أنجح مع الجميع لكن «على الحافة»، أي بمعدل مقبول في جميع الأدوار، ولا أحقق توقعات أياً منهم، وبذلك أضمن أن أكون موجوداً عند الجميع، وأؤدي الحد الأدنى مما هو مطلوب مني فعله. كنت أقضي ثلاث ساعات مع أولادي يومياً، فأجريت تخفيضات في دوري كأب بأن جعلت ساعاتي معهم لا تزيد على الساعتين، وبدلاً من أمسح على رأس كل واحد منهم عشر مرات في اليوم، صرت أمسح ثلاث مرات، وأقبّلهم أقل بمعدل النصف. فالساعات التي وفّرتها ذهبت لقراءة الكتب مثلاً. وكنت أقرأ ساعة إلى ساعتين في اليوم، وبعض الجمل أعيد قراءتها وأنا أحرك لساني في فمي لأتلذّذ حلاوتها، وأعطي الكتاب الفرصة ليبرهن لي تميزه إلى الصفحة الأخيرة، فخفّضت ساعات القراءة إلى ساعة أو أقل، وربما تمر علي صفحات كاملة ثم أتوقف فجأة لأنني لم أستوعب شيئاً. وصرت أعطي الكتاب بضع صفحات من الفرصة، فإن لم أجد فيها ما ينفع أو يسر رميته على رف المكتبة. وكنت أكتب الفقرة الواحدة وأعيد كتابتها ألف مرة، ثم أطبعها على ورقة، وأكشط وأزيل وأعيد وأنظف، وأصبحت أفعل ذلك مرتين لا أكثر، وليغفر لي القرّاء. وكنت أزور والدي أربع مرات في الأسبوع، وصرت أزورهما مرتين فقط، وكان مجموع ساعاتي معهما في الأسبوع تتجاوز العشرين ساعة، فخفّضتها إلى النصف، وبذلك أضمن ألا أكون ابناً عاقاً، وفي الوقت نفسه لم أعد الابن البار. وكنت أزور إخواني وأخواتي كثيراً، وفكّرت: يا أخي ستكون بيننا جلسات طويلة لا تنتهي في الجنة إن شاء الله، فلم الاستعجال وحرق المراحل؟ وفي عملي كنت دائماً من الموظفين المجتهدين والمميزين: شهادات تكريم بين الحين والآخر، وترقيات لم أطالب بها، وكنت في كثير من الأيام أدخل المبنى والشمس لا تزال نائمة خلف الأفق، وأخرج بعد أن تأوي إلى فراشها من جديد، أي أنني كنت أعمل أكثر من الشمس. وأصبحت مثل الهلال، لا تثبت رؤيتي في العمل إلا في بداية ونهاية الشهر، ومن الذين يفكّر المدير في التخلّص منهم لكنه يبحث عن حجة، كما أنني أجهّز سبابتي قبل انتهاء موعد الدوام الرسمي بنصف ساعة، وأكون أول من يضع إصبعه على جهاز مراقبة الدوام. وفي الدراسة المسائية، وبدلاً من أكون أول الطلبة الحاضرين، صرت آخرهم، ورحت أسأل الإدارة: كم يوم غياب تبقت لي قبل منعي من دخول الامتحان؟ أما أصدقائي، وبسبب قلة لقاءاتي بهم، وتباعد فتراتها، فإنهم يلاحظون تغير ملامح وجهي ومقاسات جسدي كلما التقينا، كما ألاحظ ذلك فيهـم، بينمـــا كنا في الأيام الخوالي لا نلاحظ شيئاً، إذ شكل الإنسان لا يتغير بين يوم وآخر. وكنت أمشي يومياً مسافة 3 كيلومترات، فصارت 2,5 كلم، وكلما ازدادت مشاغلي وأعبائي، قلّصت المسافة، وأخشى أن يأتي يوم أمشي فيه مسافة خطوة واحدة. لكن برغم كل هذا التقليص والتخفيض، فإن أحداً لا يجرؤ أن يقول إنني أب مهمل، أو زوج لا مبالٍ، أو ابن عاق، أو أخ متكبّر على إخوانه، أو صديق نسي العيش والملح، أو موظف زائد عن الحاجة، أو طالب لا أمل له بالنجاح، أو قارئ غير أمين، أو كاتب متغيّب عن الساحة، أو صاحب موقع متجمّد في الفضاء لا جديد فيه، فأنا موجود لكن على الحافة. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©