خاص - الاتحاد:
هذا الضعف الذي يعيشه العرب مردّه ضعف العالم، وضعف الولايات المتحدة، وحتى ضعف إسرائيل· هل لنا أن نفكر، ولو قليلاً، بهذه المعادلة الفرنسية المثيرة للجدل ؟
الفرنسيون لا يجدون خياراً آخر سوى المؤتمر الدولي ''مع الأسف''، ولكن على شاكلة مؤتمر ''فيينا'' أم على شاكلة مؤتمر ''يالطا'' ؟
في رأيهم أن الشرق الأوسط، بوضعه الراهن، هو عبارة عن شظايا ثقافية، وسياسية، وحتى استراتيجية· يسألون: مَنْ هي الأشباح التي تصنع وتدير أزمات المنطقة ؟ البعض يلقي بالمسؤولية على الولايات المتحدة التي هي بين نيران العراق وثلوج أفغانستان· يسأل وزير دفاع سابق: ''هل تسمح لنا أميركا بإنقاذها من أجل إنقاذ العالم'' ؟، ينقل هذا التقرير ما تقوله باريس عن المنطقة والعالم:
أيد تزرع الفراغ
هل هذا هو حقاً العالم العربي ؟ تسمع هذا السؤال من المفكر الفرنسي البارز ''باسكال بونيفاس'' الذي أقصي عن مهماته الأكاديمية وغيرها لأنه وضع كتاباً، وإبان حكم ''ارييل شارون''، بعنوان: ''هل ممنوع انتقاد سياسة إسرائيل ؟''
كما أي مفكر غربي آخر، يعتبر أن الشرق الأوسط، وامتداداته، هو منطقة الأزمات· هذا لأنه منطقة الأسئلة الكبرى، والديانات الكبرى، والحضارات الكبرى، ولكن ليلاحظ أنّ كل شيء يتفتّت الآن: شظايا ثقافية، وسياسية، وبالتالي استراتيجية، ليستنتج أن ثمّة أشباحاً هي التي تتولى الآن تصنيع، وإدارة، الأزمات في الشرق الأوسط· ليس استنتاجاً ميتافيزيقياً، بل انه يستند إلى حيثيات قاطعة· لا يستسيغ، كما هي حال مثقفين آخرين، نظرية، أو حتى كلمة، المؤامرة· لكنه يرى أن ذاك الذي يحصل لا يمكن أن يكون ناتجاً، بالكامل، عن خلل عضوي في البنية الدينامية للعالم العربي، بل لا بد أن تكون هناك أيد تزرع كل هذا الفراغ، مع ما لذلك من تداعيات دموية هنا وهناك: ''أخشى أن تكون هناك بلدان أخرى عند بوابة الدم ؟''·
قرن الثور وقرن وحيد القرن
تلتقي بديبلوماسيين فرنسيين خارج الإطار الرسمي، وبعضهم أحيلوا إلى التقاعد ويعملون في مؤسسات مختلفة، فيقولون إن العالم، وأثر زوال الاتحاد السوفيتي، يعيش إرهاصات عاصفة لكي تتشكل التوازنات من جديد، فالكرة الأرضية لا يمكن أن تبقى على قرن ثور، كما في الأسطورة القديمة، ولا على قرن وحيد القرن، كما في الأسطورة الحديثة·
لا بد أن تفاجأ حين يقول لك أحدهم، وقد عمل طويلاً في واشنطن، إنّ حالة الضعف التي تجتاح القارة العربية يعود، في وجوه عدّة، إلى ضعف العالم، بالدرجة الأولى، معه ضعف الولايات المتحدة التي إذ طرحت في عهد الرئيس ''جورج بوش الأب''، نظرية ''النظام العالمي الجديد''، أخفقت، كلياً، في تطبيق هذه النظرية، وكان آخر مظهر لهذا الإخفاق الترنّح الاستراتيجي داخل النيران في العراق، وداخل الثلوج في أفغانستان، وضعف إسرائيل التي خاضت أسوأ اختبار في تاريخها في الصيف الماضي، وحيث غابت، كلياً، اسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر''·
وتسأل: ''حين يكون الضعف عاماً، بل ومَرَضياً، إلى ذلك الحد، فما هو الحل عربياً إذا كانت كل الأزمات الراهنة تتمركز داخله: العراق، فلسطين، السودان، الصومال، وحتى لبنان الذي يعيش أزمة خانقة تدفع بالبلاد أكثر فأكثر نحو الهاوية ؟
فيينا أم ''يالطا'' ؟
ويكون الردّ أن زمن الإجابات، أو الحلول، السحرية انقضى منذ عهد بعيد· في المرحلة الأولى يقتضي احتواء هذه الأزمات التي، بحساسياتها المختلفة، قد تفضي إلى تداعيات كارثية، وبعد ذلك يبدأ الكلام عن معالجات موضعية، وإن كان هناك وزير الخارجية الفرنسي الأسبق ''ايرفيه دو شاريت'' الذي يرى، ومع ''أسفي الشخصي''، أن الحل قد يكون بمؤتمر دولي حول الشرق الأوسط برمّته ويعترف بأن مؤتمراً من هذا القبيل لن يكون مثل مؤتمر فيينا (عام 1815) الذي أرسى ضوابط بعيدة المدى للعلاقات داخل القارة العجوز، وعبر أفكار خلاقة طرحها ''مترنيخ'' (النمساوي) و''تاليران'' (الفرنسي) من أجل عدم تكرار التجربة البونابرتية، فالخوف أن يكون مثل مؤتمر يالطا (عام 1945) الذي إذ كرّس لعبة الشطرنج، كإطار فلسفي للاستراتيجيات، فإنه وزع العالم بين الدول المنتصرة
''دو شاريت'' يعتبر أن الشرق الأوسط هو من الهشاشة بحيث لا يتحمّل أي عملية ''توزيع''· وحتى من الناحية الكلاسيكية، فإن الأميركيين يرفضون فكرة المؤتمر الدولي جملة وتفصيلاً، لأنهم يرفضون حتى مفهوم الشراكة الدبلوماسية مع الحلفاء الأوروبيين، فكيف يقبلون بمفهوم الشراكة الاستراتيجية مع آخرين· الروس ما برحوا يطرحون الفكرة، ويعملون على تسويقها، حتى أن رئيس مجلس الأمن القومي ''سيرغي ايفانوف'' يعتقد أنه إذا ما استمر الوضع في الشرق الأوسط، والمحيط، على تدهوره الحالي، فإن انعكاسات ذلك ستكون مريرة حتى على العلاقات الدولية، مستغرباً كيف أن واشنطن ''تستهول'' فكرة المؤتمر، مع أنها هي التي يفترض أن تطلق صيحة الاستغاثة، باعتبار أنها لا تفتح ملفاً إلا وتحرق أصابعها داخله· وقد يكون السبب الرئيسي هو منطق التفرّد الذي ندّد به حتى ''زبغنيو بريجنسكي'' الذي حذر، في حينه، من ترجمة نظرية ''النظام العالمي الجديد'' بـ''الفوضى العالمية الجديدة''· هذا الذي حدث فعلاً· لا شيء جرى، على مستوى دولي، من أجل ''إدارة خلاقة للكرة الأرضية''، كما يلاحظ ''دو شاريت''·
اختراع الفراغ
إنه يسأل عمَّن ''اخترع'' الفراغ في الشرق الأوسط، لكي تستنهض قوى إقليمية كل ترسباتها التاريخية والجغرافية، وتوظفها جيوبوليتيكياً، وسواء عبر القنوات الإيديولوجية، أو حتى النفسية والسياسية، ناهيك عن القنوات المالية المفتوحة على مصراعيها من أجل ملء ذلك الفراغ·
ثمة قناعة في باريس حول التقاطع بين الضعف الأميركي، والضعف الإسرائيلي، ومع الرهان على الرجل الجديد في البنتاجون الذي كان أول عمل قام به هو زيارته للعراق من أجل الاستماع إلى ''القادة''· وهذا ما حذر منه السياسي البارز، ووزير الدفاع السابق، ''جان ـ بيار شوفنمان'' الذي يحذر من التعاطي مع الواقع من خلال الزجاج، أو من خلال فوهات الدبابات، فمنصب وزير الدفاع لا تقتصر مهماته على إدارة العمليات، والفلسفات، العسكرية، بل إن عليه أن يحيط بكل جوانب القضية التي يتعاطى معها· الملف العراقي، كما ان الملف الشرق الأوسطي، متعدّد الأبعاد العقائدي يتقاطع مع التاريخي، مع القبلي، مع السياسي، مع الجغرافي، وحتى مع الشخصي
القطارات الهائلة
''شوفنمان'' يعتبر أن السياسات الأميركية تشبه، عادة، القطارات التي تمضي بسرعة هائلة· لا يمكن إيقافها في الحال، كما لا يمكن تغيير مسارها في الحال· المسألة تحتاج إلى وقت ''لكنني آمل ألا يكون هذا الوقت كافياً لتحطيم عظام روبرت غيتس''، مع أن الرجل بدأ، منذ اللحظة الأولى، أنه جاهز للإصغاء، وهو الذي شارك في وضع تقرير ''بيكر ـ هاملتون''·
''شوفنمان'' الذي استقال من منصب وزير الدفاع لدى مشاركة فرنسا في عملية ''عاصفة الصحراء'' لأسباب تتصل بالعلاقات مع واشنطن وليس بتأييد سياسات الرئيس العراقي السابق ''صدام حسين''، يقول: ''هل تسمح لنا أميركا بإنقاذها من أجل أن ننقذ العالم ؟''· كلهم في باريس يحذرون ويدعون إلى ضرورة تدارك الوضع· الجبهة الأفغانية مفتوحة، وقد سحب الفرنسيون وحداتهم الخاصة من هناك· الجبهة العراقية مفتوحة، وساخنة، وضاغطة، أكثر فأكثر· ثمة جبهات أخرى، وثمة أسئلة من هذا النوع : حين يكون ''افيجدور ليبرمان'' في حكومة ''ايهود اولمرت''، لماذا الاستغراب حين يكون ''خالد مشعل'' على الضفة المقابلة ؟ بالطبع، مع الفارق في الظروف التي أنتجت هذا الرجل وذاك·
سنابل اليأس
لا يبدي الفرنسيون أي حماس لـ''حماس''· على العكس من ذلك، هم مع الاعتدال الفلسطيني، لكنهم يعلمون كيف ينشأ التطرّف، وكيف يترعرع· لقد كتب ''آلان جريش'' ذات يوم عن ''سنابل اليأس''· ينصحون بأن لا يقرأ بعض رجال الإدارة تقرير ''بيكر ـ هاملتون'' بعيون خشبية، وينصحون بألا يلعب أحد لعبة الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني، فالتجربة أثبتت ''أنّ الأشلاء لا تصنع السلام''، كما يكتب ''جاك جوليار''· يسأل دبلوماسيون بارزون، واستناداً إلى مقترحات التقرير الذي أعدته مجموعة دراسة العراق: لماذا لا ينفذ الأميركيون غارات دبلوماسية صاعقة على الملف الإسرائيلي ـ الفلسطيني ؟ غارات من أجل الحل العادل، والشامل بطبيعة الحال· ثم يستدرك الدبلوماسيون: في هذا المشهد الكئيب، ابحثوا عن نقاط الضعف أكثر من البحث عن نقاط القوة!
''أورينت برس''