السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اسكتلندا.. والديمقراطية وقطع الرؤوس

اسكتلندا.. والديمقراطية وقطع الرؤوس
16 أكتوبر 2014 00:14
بول كينيدي أستاذ التاريخ ومدير «دراسات الأمن الدولي» بجامعة «يل» الأميركية من بين المقالات العديدة التي قرأتها مؤخراً عن تصويت أغلبية الاسكتلنديين ضد الانفصال عن المملكة المتحدة هناك واحد بصحيفة «وول ستريت جورنال» يعبّر فيه كاتبه عن ارتياحه للنتيجة بعد بضعة أيام قليلة على الاستحقاق. لا أتذكر اسم ذلك الكاتب الآن، ولكنه كان يشعر بالارتياح ليس فقط لأنه كان يعتقد أن التصويت بـ«نعم للانفصال» فكرة سيئة، ولكن أيضاً نظراً للطريقة التي أجري بها الاستفتاء. كان الموضوع مثار نقاش وتداول عبر البلاد على مدى أشهر قبل الاستفتاء، في الصحف وعلى التلفزيون وفي اجتماعات المدن؛ وكانت المشاعر قوية جداً وجياشة؛ غير أنه لم تكن ثمة أعمال شغب، ولا تمزيق للملصقات، ولا تزوير لبطاقات التصويت، ولعل الأهم من ذلك أنه لم يكن ثمة رفض لنتيجة الاستفتاء. و صورة بعض الشبان المحبَطين من أنصار التصويت بـ«نعم»، وهم جالسون على مقعد مع ملصقاتهم المطوية بعد الإعلان عن النتائج، كانت دالة ومعبرة في هذا الصدد. فقد قالت الديمقراطية كلمتها، وقد قبلوها. ولا غرو أن كاتب المقال بصحيفة «وول ستريت جورنال» كان يشعر بالارتياح، مثلما شعرتُ أنا نفسي في الواقع. فالنظام نجح، أقصد أن النظام الديمقراطي الذي كان الأثينيون أول من مارسه قد نجح. فقد كانت ثمة وجهات نظر مختلفة، وأفكار ومعتقدات مختلفة ومترسخة. فقدّم الجانبان ما في جعبتهما من حجج للإقناع. واستمع الجميع وحظي كل واحد بفرصة الإدلاء بصوته في ذلك اليوم المشهود (العبارة المفضلة لدي هي تلك صدرت عن رجل جبلي ذي لحية بنية لدى خروجه من مكتب اقتراع حيث قال: «لقد انتظرتُ هذا اليوم طيلة 60 عاما!»؛ ومن الواضح أنه لم يصوت لمصلحة كامرون). ولكن لماذا الربط بين هذه القصة والشاعر الانجليزي الكبير «ويليام وردزورث »؟ في عام 1789 كان الكاتب الشاب في كليته في كامبريدج عندما علم بشأن الثورة في فرنسا المجاورة، التي كان تهدف إلى التخلص من النظام الملكي الاستبدادي الممقوت في فرنسا الذي كان يحكم بقوانين ظالمة، ويزج بالمحتجين في غياهب السجون، ويفتقر للمحاكمات العادلة، وتنعدم فيه الانتخابات البرلمانية. ولكن كل ذلك انتهى الآن، حيث صار النظام القديم في مزبلة التاريخ. وقد مثّل ذلك نبأ ساراً ورائعاً بالنسبة لعشاق الحرية في كل مكان، وليس في فرنسا فقط. وبتلك المناسبة، كتب «وردزورث» ضمن قصيدته «التوطئة»: «في ذلك الفجر أهلّت السعادة». وبعد أن تخلى عن دراسته، شد الرحال إلى مدينة «دوفر»، ومنها عبر بوساطة السفينة إلى مدينة «كالي» الفرنسية، فباريس، ليكون شاهداً على التغيرات، وعلى قدوم النظام العالمي الجديد. وبعد مدة، غادر «وردزورث» باريس متوجهاً إلى وادي «لوار»، حيث مكث لأشهر ولكنه ظل تواقاً إلى أخبار العاصمة الفرنسية، وإلى معرفة كيف سيكون حال الديمقراطية في بقية أرجاء فرنسا. غير أن الأشياء سرعان ما بدأت تنحو منحى سيئا في البلاد. إذ بدلاً من حكم صندوق الاقتراع، كان ثمة حكم العصابات. وبدلاً من أي محاولة لتحقيق السلام والمصالحة (على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا عقب انتهاء نظام الأبارتايد)، كانت ثمة أعمال انتقام دموية، ومحاكمات صورية، وإعدامات عامة بالجملة لمسؤولين سابقين ونبلاء بل وحتى لأفراد العائلة الملكية نفسها. وكانت ثمة عمليات وحشية لقطع الرؤوس حيث كانت المقاصل تعمل عملها عبر أرجاء فرنسا، والجلادون المبتسمون يرفعون رؤوس ضحايا الرعب مضرجة بالدماء. وسط هذه الأجواء، قرر «وردزورث»، الذي كان مذعوراً ومصدوماً، مغادرة فرنسا بعد أن رأى آماله تخيب. فبالنسبة له، كان كل شيء قد آل مآلاً سيئاً؛ فهذه ليست الديمقراطية قطعاً، بل جنون وكراهية وقمع للخصوم السياسيين. والحق أن بريطانيا الملك جورج الثالث لم تكن الديمقراطية البرلمانية التي نعرفها اليوم: فحق التصويت في الانتخابات كان محدودا للغاية، والقوانين كانت قاسية، والجلد العلني كان شائعا، والعبودية كانت منتشرة في المستعمرات (وإن ليس لوقت طويل، في الحقيقة). كما أن الكاثوليك واليهود كانوا محرومين من حقوق المواطنة. ولكن حرية التعبير عن الرأي، وانتقاد السلطات، والرسوم الكرتونية الساخرة من الملك، ومعرفة أن المرء يمكن أن ينام ليلا من دون أن يقرع أحد باب منزله، والضمانة ضد الاعتقال المخالف للقانون... كل ذلك كان من الأمور الذي كان يعتبرها «وردزورث» من المسلّمات، حتى ذلك الحين. وعندما ترجل من القارب في «دوفر»، سقط على العشب الأخضر لمدينة «كَنت» وتنفس الصعداء. فهو في أمان الآن؛ وكل شيء على ما يرام. فلا أحد سيزج به في السجن ظلماً؛ ولا أحد سيعذبه في السجون المعتمة؛ ولا أحد سيقطع رأسه. لا شك أنه بات بوسع القارئ الآن أن يدرك الاتجاه الذي يسير فيه هذا المقال. فعبر عالم اليوم، تُحطَّم آمال الناس في الحرية وفي الإنصاف وفي العدالة بسبب الكراهية واعتقادات دينية وإيديولوجية متطرفة ومنحرفة، وعدم الرغبة في الاستماع إلى وجهة نظر الخصوم، وعدم الرغبة في قبول نتيجة التصويت في صندوق الاقتراع – بسبب كراهية صندوق الاقتراع في كثير من البلدان. والواقع أن الهجوم الذي تتعرض له حقوق الإنسان في مناطق كثيرة من العالم مروع وخطير. فحقوق النساء، وحقوق المثليين، وحقوق اليهود في عدم التعرض للتهديد وسوء المعاملة، وحقوق الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط في ألا يلحق بها أذى، وحقوق المنتقدين السياسيين في موسكو وبكين في السخرية من النظام في بلديهم... كل هذه الحقوق، التي تم تعدادها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، الذي وقعت عليه كل حكومة في العالم والذي تخرقه الكثير منها بشكل سافر اليوم – كل هذه الحقوق يجب التشديد عليها والانتصار لها والمنافحة عنها. فالنظام الديمقراطي لا يمكن اعتباره من المسلّمات، بل ينبغي العمل من أجله وبشكل مستمر. ولكن ينبغي ألا نكون سذجا: فإنهاء نظام غير متسامح وغير عادل لا يعني بشكل أوتوماتيكي قدوم العدالة والتسامح. «التسامح»، يالها من كلمة رائعة! عندما مرر البرلمان الإنجليزي «قوانين التسامح» لأول مرة عام 1689، بغض النظر عن محدوديتها في ذلك الوقت، كان ذلك يعني شيئا عظيما: ضرورة التسامح مع وجهات النظر السياسية والدينية للأشخاص – أي أنه ينبغي أن نحترمها حتى عندما نكون مختلفين معها لأننا، من خلال السماح بحدوث ذلك، نطالب أيضا باحترام الآخرين لآرائنا. وهذا، ومثلما أشار إلى ذلك لاحقاً «جون ستيوارت ميل» في كتابه «عن الحرية» (الصادر في 1859)، هو الفرح الحقيقي الديمقراطية متسامحة – ذلك أنه من خلال المنافحة عن حق شخص آخر في التعبير عن رأيه، فإنك تدافع أيضاً عن حقك في التعبير عن رأيك. ومن خلال مطالبتك بحقك بالتصويت، فإنك تطالب بنفس الحق للآخرين؛ وعندما تؤول نتيجة التصويت الانتخابي لصالحك وتطالب باحترامها، فإنك تقول أيضا إنك ستحترم النتيجة في حال كانت ضدك. فالجميع يتمتعون بنفس الحقوق، وليس أنت وحزبك فقط. وهذا ما يفسر، على ما أظن، لماذا كان كاتب المقال بصحيفة «وول ستريت جورنال» يشعر بالارتياح لنتيجة الاستفتاء الاسكتلندي قبل بضعة أسابيع؛ ولماذا صرخ «وردزورث» وتنفس الصعداء عندما سقط على عشب «كَنت». ولماذا كانت الصورة التي نشرتها عدة صحف لناخبين اسكتلنديين شباب يشعرون بالحزن جد مؤثرةً ومطَمئِنةً، فالديمقراطية فازت؛ وأصوات الأغلبية يجب أن تحترم. فلن تكون ثمة أعمال شغب عنيفة، ولا إسقاط للحكومة المنتخبة، ولا استيلاء على السلطة، ولا حكم بقوة السلاح، ولا رجال مقنعين يجوبون الشوارع، ولا متعصبين يطلقون النار في الهواء وهم يقتادون أشخاصاً عزلاً ومذعورين من منازلهم نحو المجهول. كما أنه لن يكون ثمة تعد على الخصوم، ولا جرائم قتل سياسية، ولا قطع للرؤوس. لا شك أن عنوان هذا المقال بدا سخيفا للوهلة الأولى بالنسبة للقارئ. إذ ما الذي يمكن أن يربط بين الاستفتاء الأخير في اسكتلندا، وخيبة آمال «وردزورث» الشاب، ومفهوم الديمقراطية، والفظاعة المتمثلة في قطع رؤوس بشر آخرين، في الوقت الراهن ووقتئذ خلال العقد الأخير من القرن الثامن عشر؟ الواقع أن الرابط بين الكلمات الأربع واضح وبين. فهذه الكلمات مترابطة عندما يقيم الكاتب – والقارئ – علاقة الربط. غير أن الديمقراطية نفسها، تلك الفكرة البسيطة جداً («حكم الشعب»)، لا تصبح ذات معنى إلا إذا سعينا إلى ضمان احترام وحماية كل أجزائها. والواقع أنه يبدو من السهل الحديث عن الحريات الديمقراطية لبلد ما؛ غير أن الأمر تطلب كفاحاً شاقاً وطويلاً، قبل أن تتحقق على أيدي رجال ونساء ضحوا من أجلها؛ كما أنها تتعرض لانتهاكات كثيرة ومتكررة عبر الكوكب. ولنا أن نتخيل كم ينبغي أن يكونوا ممتنين أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بها اليوم. إننا لسنا مضطرين للسقوط على عشب مدينة كَنت الانجليزية على غرار «وردزورث» غير أنه بوسعنا أن نتوقف لنتنفس بعمق ارتياحاً قبل أن نواصل أعمالنا اليومية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©