الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصة القصيرة.. الممتعة والممتنعة

القصة القصيرة.. الممتعة والممتنعة
20 سبتمبر 2012
بداية، عليَّ أن أعترف بأن هذا الملف الذي أعددته عن القصة القصيرة في الإمارات، ليس سوى محاولة لقراءة مشهدها في عموميته، خصوصاً وأن الدراسات كثيرة حول تفاصيله. وعليَّ، أيضاً، أن أعترف بأن الأسئلة التي تفكرت فيها لم تحمل ولو للحظة قناعتي الشخصية بأن القصة القصيرة فناً سهلاً أو يمكن لمن شاء أن يكتبه، بل على العكس تماماً. أعتقد، شخصياً، أن فن القصة القصيرة، القصة التي تستحق أن تسمى قصة وليس الخاطرة ولا الحكاية ولا الحدوتة، هي من أصعب أنواع الكتابة الإبداعية إن لم تكن أصعبها، ولها شروط قاسية، ودقيقة، ومحكمة، تجعل منها “السهلة الممتنعة”، فمن يقرؤها يظن أن بإمكانه أن يكتبها أو ينسج على منوالها لكنه عند الممارسة سيكتشف كم هي صعبة، وتحتاج إلى قدرات وتقنيات لغوية وأسلوبية وإلمام ومعرفة وأشياء أخرى كثيرة لكي تأتي قصة بحق.. لكن ما يحدث عملياً يختلف، بهذه النسبة أو تلك، عن هذا التوصيف. من هنا، جاء السؤال عما إذا كان (الاعتقاد) بسهولة كتابتها وليس كونها سهلة هو السبب في شيوعها؟ وهل هناك أسباب تجعل القصة كفن إبداعي مقبولاً أكثر أو مطروقاً بالنسبة للكتاب الشباب (من الجنسين). هل القصة أكثر ملاءمة للتعبير عن التحولات المجتمعية مثلاً؟ هل يمكن للكاتب التعبير من خلالها بحرية أكثر لا يشترطها الشعر، فالسرد يتيح فرصة أكبر للبوح وحرية في الوصف والقول والتفاصيل من دون أن يقلل ذلك بالطبع من أهمية أي فن والسؤال هنا له علاقة بخصوصية القصة كفن أدبي وطبيعتها؟ أم ربما لأنها أكثر ملاءمة لإيقاع العصر السريع سواء لمن يكتبها أو للقارئ الذي ربما لم يعد يميل لقراءة الروايات الطويلة؟ وهل يمكن للقول بأن القصة أقرب الى المرأة بوصفها حكاءة وساردة قديمة يفسر سرّ هذه الحظوة التي نالتها القصة عند الكاتبات؟ ثم جاء السؤال الأخير عن الأسباب التي جعلت القصة خياراً أدبياً للقاص والقاصة ليعكس علاقة الكاتب بنصه، ويلقي الضوء على الطريقة التي ينظر بها إلى كتابة القصة. سيادة تاريخية تعتقد القاصة والكاتبة الدكتورة سعاد زايد العريمي “أن القصة القصيرة باعتبارها فنا إبداعيا متسيّدة على الدوام، عبر التاريخ وفي كل الثقافات وليس فقط على مستوى الساحة المحلية في مجتمع الإمارات. لقد عرف الإنسان السرد، كالحكاية والحدوتة و(الخروفة) في المجتمعات الخليجية، لتوصيل بعض الخبرات والعبر والمآثر والحكم وتمرير ما يقره المجتمع من قيم ومعايير. أي إن المجتمعات الإنسانية استخدمت فن الحكي كوسيلة للتواصل والتخاطب والتثاقف والتعالق على المستوى اليومي والمعاش. ثم تطور هذا السرد إلى فن قصصي له معاييره ومواضيعه وصوره الخاصة وارتقى بعد ذلك إلى مستوى الإبداع. ومن هنا أصبحت القصة، كأحد الفنون الإبداعية، مألوفة من قبل شريحة واسعة من الناس وذلك لما لها من جذور ضاربة في التاريخ. وكونها منتشرة بين الكتاب الشباب في العصر الحاضر، فهذا لأنها حالة مختزنة في اللاوعي، محفوظة في الذاكرة. وأمر استدعائها هو استمرار لحالة الوعي بها كوسيلة تعبير مدركة من قبل السواد الأعظم من الناس. إضافة إلى ذلك، فالقصة تعكس حالة آنية، وتكون دوما قريبة من الحدث وتبرز وتكشف جوانب اجتماعية ـ إنسانية لا ترتبط بزمان أو بمكان محدد”. وترى الدكتورة العريمي أن القصة “هي الفن الأقدر على رصد التحولات الاجتماعية ومجاراة الأحداث. وهذا ما نلاحظه في منطقة الخليج العربي وكيفية مواكبة القصة لهذا التحول ورصده والتعبير عنه. نعم القصة هي فن متطور من الحكي، وكما استخدمت سابقا في عملية التواصل الاجتماعي كأداة لتنظيم العلاقات والصلات الاجتماعية. في الزمن الحاضر، تستخدم القصة كأسلوب تعبيري توصيفي يتيح للكاتب أن يظهر ما يبطنه من رؤى بكل حرية وإمكانية عالية لإيصال الرسالة. والقصة كفن إبداعي تتميز بالتكثيف والاختزال في رصد الأحداث السريعة والمتواترة و لديها القدرة على تطويع أدواتها كي تتلاءم مع الحدث دون أن يخل ذلك بفنيتها. والقصة لها عدة وجوه متغيرة، وهي بذلك أصبحت أداة تعبيرية “ممكنة” لعدة فئات عمرية”. وحول ما إذا كانت القصة القصيرة وجدت حضوراً لها على الساحة المحلية بسبب ملاءمتها لمرحلة التغير الاجتماعي وقدرتها على رصد مظاهره تقول الدكتورة سعاد زايد العريمي: “لقد فرض التغير الاجتماعي ظروفه وأدواته التعبيرية الخاصة به وأتت القصة ملائمة لهذا التحول السريع، بالأخص في مجتمع الإمارات. هذه التحولات الاجتماعية المكثفة، جعلت القصة هي الأقدر على التعبير عن الحالة المترجرجة التي يعيشها شباب هذه المرحلة. والقصة تتناسب مع هذا الزمن، عصر السرعة والتكنولوجيا وذلك لقصرها وكثافة طرحها؛ فالإيقاع الاجتماعي المتسارع لم يتح للقارئ مزيدا من الوقت. وأتت القصة لتلبي حاجة المجتمع الحديث المعقد الذي يقتات على المعطيات السريعة المتحولة. كما أن القصة أصبحت في متناول الجميع؛ ليس لأنها سهلة بطبيعتها، بل لأنها استسهلت. وهناك الاعتراف الاجتماعي والثقافي الذي عزز هذا الاستسهال؛ حيث يوجد تشجيع كبير من بعض المؤسسات الثقافية للشباب من كتاب القصة حتى ولو كان مستوى إنتاجهم غثاً”. مع ذلك، ترفض الدكتورة سعاد العريمي القول بأن انتشار القصة يتعلق بسهولتها، وتوضح نظرتها إلى الأمر قائلة: “إذ حصرنا الإنتاج الفني في زاوية الإبداع، فلا أعتقد أن هناك فنون سهلة ويتم تداولها من قبل شريحة واسعة من الكتاب وأخرى صعبة ويتم الإحجام عنها. لا أعتقد أن انتشار القصة يتعلق بسهولتها، بل ربما يتعلق بإرثها التاريخي باعتبارها حاضرة في الذاكرة ومعاشة. وقد يتعلق الأمر بشروط الكتابة الإبداعية وبالحالة الذهنية للكاتب ومدى تمكنه من أدوات الفنون الأخرى. أعني أن القصة حاضرة في ذهنية كل واحد منا؛ وأمر استدعائها من قبل المبدع يدخل في سياق الفعل الممكن والمألوف. فالمسألة هنا، ربما، تعود إلى الموهبة ونضج التجربة؛ وهناك تفاوت في فن الإبداع القصصي”. أما لماذا تتربع المرأة على عرش القصة، بالأخص في الإمارات؟ فتورد الدكتورة العريمي عدداً من الاحتمالات، تقول: “ربما لأن المرأة أُعدت كي تختزل كل الصور والأحداث الاجتماعية في الحكي! أو لأن المرأة لا تستطيع البوح عما في داخلها بشكل مباشر لموانع اجتماعية معينة، فتستعيض عن التفاعل اليومي بالقص. وعلى المستوى الاجتماعي، فالمرأة قد تكون مغيبة عن الفعل المجتمعي بشكل تستطيع أن تحقق فيه ذاتها على مستوى يتناغم مع الإيقاع المحيط بها. كما أن حركة المرأة محدودة في عملية التفاعل اليومي في المجال العام، وهي أيضاً مُقيدة على مستوى التفاعل اليومي في المجال الخاص (المنزل). وفي بعض المجتمعات العربية، قد تكون المرأة أصلاً غير حاضرة بشكل كامل، ولا تعطىَ فرصة للتعبير والمشاركة؛ وأحياناً لا يؤخذ بقولها. وأعتقد من هذا المنطلق يأتي انخراط المرأة في الفنون التعبيرية بشكل عام، والقصة بشكل خاص، كتعويض عن أمور حياتية عديدة. ويقال علمياً إن مخيلة المرأة الجزئية أكثر قدرة من الرجل على سرد التفاصيل!”. وبخصوص القصة القصيرة كخيار فني بالنسبة إليها تؤكد: “أنا لم أختر القصة، وجدت نفسي هكذا أكتبها دون سبق النية. فهي موهبة، إذن، وليست اختيارا. بالنسبة لي، الموضوع هو الذي يفرض نفسه علي، ولست أنا من تختار ماذا تكتب. في بعض الأحيان هناك مواضيع لا تحتملها القصة، فتأتي في صورة أخرى من صور الإبداع. فأنا كتبت القصة منذ البداية وعُرفت بها وأحببتها. ولكن الآن وجدت نفسي أكتب شعر النثر عندما لا يمكنني الموضوع من نفسه كي أصهره في فن القص. كما أنني كتبت الرواية، لذا لا استطيع أن أقول القصة هي اختيار. بل الحدث والموضوع يفرضان على المبدع شكل الفن الكتابي المعبر عن حالة ما. أنا الآن لدي كتاب نثري ورواية تحت الطبع وأحببت هذه التجربة، ولكن هذا لا يعني أنني قد انتحيت بعيدا عن القصة”. 42 سنة مع القصة منذ زمن بعيد والقصة القصيرة تشق طريقها في إصرار وثبات لتكوين عالمها الذي تنشده دونماً تلكؤ أو توقف من قبل روادها ومخلصيها، سواء على مستوى الساحة الثقافية الإماراتية أو غير ذلك، هكذا بدأ القاص عبد الرضا السجواني حديثه حول القصة القصيرة، ليؤكد أنها “تمكنت من أن تتبوأ مكانتها اللائقة بها كفن له معطياته وأهدافه، لذلك كله نجدها في تطور دائم وذات مستجدات وإثارة.. ويرى السجواني أن “القصة القصيرة حاضرة وإيجابية إلى حد أنها باتت تناقش أهم القضايا والمعاضل التي تؤزّم المجتمعات وتقض مضجع شعوبها، وتعالج قضايا الوطن العربي الشائكة، والقضايا الاقتصادية والعولمة مروراً بمشكلة التلوث عالمياً، ولقد كنت أول من ناقش قضية التلوث في الإمارات وذلك في قصة “سكون” في مجموعتي القصصية “الرفض”، والقصة القصيرة محلياً لها أبعاد موغلة في عمق الماضي ثم هي لا تنفك تدلو بدلوها في قضايا الساعة”. ويلفت السجواني إلى أن “رواج القصة القصيرة لا يشكل طغياناً على الشعر، بل هما يسيران عبر خط واحد متوازٍ، وكل منهما يحاول أن يستخدم أدواته الفنية بغية التعبير عن هموم الوطن وتكالب الأعداء عليه. والمتتبع لهذين اللونين من الأدب يجد أن الشعر آخذ في الترنم بصوت شجي، كثيراً ما هز مشاعرنا بتلك القصائد المتتابعة، وعبر الأمسيات الشعرية، تماماً بمثل ما تقوم به القصة من أدوار تتلو أدوار في بلورة الواقع المعاش عربياً - إسلامياً ثم التعبير عن معاناة تلك الشعوب المسحوقة من العرب والمسلمين والتي تحرك مشاعر القاص، فيعبر عما يدور بداخله من خلال نص إبداعي”. وينبه السجواني إلى أن القصة القصيرة “لم تكن لها يوماً تلك السيادة المطلقة، كي تكون مثار اهتمام الأدباء دون الالتفات إلى الشعر وغيره من الفنون الأدبية. وأن ما يحكم العملية الإبداعية قبل تفتقها وبروزها إلى الوجود هو “الملكة” أو الموهبة التي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على هذا الشخص دون غيره، تماماً كأي موهبة أخرى وفي أي مجال آخر غير الأدب. فاتجاه المرأة في الإمارات إلى كتابة القصة يأتي لاعتبارات معينة أهمها هذا الميل الواضح للقصة والبراعة في الولوج في عوالمها والإتيان بما هو جديد وحديث، يتناسب وقضايا الساعة”. وينفي السجواني أن يكون اتجاه المرأة نحو الخوض في إبداع النص القصصي ناجم عن سهولة كتابتها، بل لهذا التعاطي الإبداعي محدداته وعوامله الفنية ولم يكن يوماً لسهولة هذا الفن بحد ذاته، أو أن لا معايير له، أو أن اللغة المستخدمة لغة اعتيادية، وما إلى ذلك، فهذا الفن بالذات له شرائطه ولغته ومدى تناسبها مع المضمون المطروح. والأمر الآخر والذي يخص المرأة الكاتبة هو أن هناك مضامين كثيرة تتناسب مع طبيعة المرأة، فالمرأة تمكنت من سبر أغوار قريناتها وتوغلت كثيراً في ذاتها، وتلمست الكثير مما يقلقها ويشتتها، عارفة ببواطن همومها وما يؤزمها.. وغيره. وبديهي للمتابع والمتقصي لمجمل الفنون الأخرى كالسينما والمسرح تحديداً أن تألق فيلم ما أو مسرحية ما كثيراً ما كان أساسه قصة قصيرة ليرتقي إلى سيناريو رائع ومسرحية جميلة يذيع صيتها وتشتهر وتلقى الاهتمام الزائد من وسائل الإعلام والجمهور المتابع لهكذا فن يلامس الوجدان ويوقظ الفكر من سبات طال أمده، ويحرك مشاعر ويغير حياة من أساسها. وهكذا هو الفن الإيجابي المعطاء الذي يضيف جديداً ويخلق قلقاً ووعياً، حاملاً علامات استفهام من شأنها إضفاء المزيد من التفكر في الحياة الراهنة اقتصادياً، مصيرياً ومعيشة”. ويلفت السجواني إلى الحضور الخاص للقصة القصيرة في حياتنا، مرجعاً أثرها الحالي إلى مرحلة الطفولة “فالقصة هي اللون المحبب للطفل منذ الطفولة، سواء من خلال قراءتها مطبوعة أو معروضة في التلفاز، وإن كان النموذج التلفزيوني لها (كفيلم سينمائي أو كرتوني) يُشاهد مرة تلو مرة. وربما تعشق الأذن قصة فتتوق لسماعها دائماً عبر الأثير - كما كنا سابقاً قبل ظهور المحطات التلفازية - فحضور القصة المتكرر وعشق الأفلام كفن راقٍ حديث لمعطيات قد تطور كثيراً جراء اطلاع وتأثر كتاب القصة لبقية الفنون الأخرى مثل: السينما، المسرح، الفنون التشكيلية، النحت.. وغيرها. كما أن القاص البارع هو الذي يخلق قارئاً جاداً متابعاً للفنيات التي يدرجها في نصوصه الإبداعية والمستجدات التي يأتي بها. ولا ريب في أن وجود القارئ المتابع لهذا الفن هو الذي يحفز الكاتب على المضي قدماً في براعة وابتكار وخلق جديد في هذا المضمار”. وحول مسوغات كتابته للقصة القصيرة يقول السجواني: “اخترت هذا الفن - كتابة القصة القصيرة - كونه عالمي الذي لا أعيش مطلقاً من دونه، فأنا مخلص له حتى آخر رمق، لأنه حياتي ومتنفسي، بل ملاذي عند ملماتي في حلي وترحالي، وهو رسالتي التي عاهدت نفسي على أن أوصلها سليمة وبكل أمانة لا تملق فيها ولا زيف نحو إنارة عتمة الدروب التي يمضي فيها الماضون. إنها عشقي منذ أن كنت في الرابعة عشرة من العمر. القصة تدور معي كيفما تدور بي الحياة اليومية. ولا أعرف التفكير إلا بها.. ولها.. نحو المزيد من تطويرها وتطوير نفسي بها.. ولأرتقي بأدواتي الفنية باستمرار. أراها في كل موقف وكل خطوة وفي كل تعامل مع من في محيطي، حتى إنني بت أسلك سلوك شخصياتي أو أجسد نفسي في تعاملي كما لو كنت مشروع قصة متفاعلة مع من يلازمني أو ألتقي به أو أقص معه.. ففنيات القصة وملامحها هي التي تسيطر على مسلكي.. وكثيراً ما جعلت نهاية مواقفي هي نهاية قصة بها عناصر الشد والتشويق والمفاجأة وهكذا... كيف لا وأنا أصاحبها أكثر من أية واحدة أخرى. (اثنتان وأربعون) سنة من العشرة الصادقة والنقية.. والملازمة الصريحة التي تخلو من الكذب أو النفاق أو التزلف. تتشرب روحي وقلبي بها.. وبودي أن أقول: فلتكن دنيتي قصة.. بعد أن كانت حياتي!!”. بسبب الشغف تختزن القاصة مريم الساعدي أسباباً كثيرة تجعل القصة حاضرة بشكل مكثف في المشهد الثقافي المحلي. وهي تؤكد أن “الأدب تعبير عن المجتمعات الإنسانية. لكن يجب أن تكون هذه المجتمعات قائمة قبل أن يقوم لها أدب. الإمارات دولة حديثة النشأة عمرها يتجاوز الأربعين بقليل. انشغلت بالتعمير والبناء، والطبيعي بعد أن يستقر البناء أن يأتي دور الفكر والفلسفة والأدب. وهذا لا يأتي فجأة، لأنه لا يُشترى بالمال وحسن الإدارة بل يتطور بشكل تدريجي مع تراكم الخبرات الحياتية والمعرفة و الاحتكاك بآداب الشعوب الأخرى والانغماس في هموم الوجود الإنساني والاشتغال الذاتي على تطوير الموهبة في بيئة مهيأة لاستقبال الإبداع وتداول الأفكار في مناخ من الحرية. صحيح أنه يمكن أن يبرز كاتب متفوق ومتجاوز ولكن سيظل هذا تجربة فردية استثنائية لا تشمل المشهد الأدبي المحلي بشكل عام. والطبيعي أن يبتدئ الأمر بالقصة القصيرة. ليست قضية استسهال. إنما كمرحلة أولية طبيعية في التجربة الأدبية التراكمية. ينتقل بعدها المبدع لأفق الرواية الأرحب والأكثر تشابكا وتطورا. صحيح أن القصة القصيرة يمكن أن تظل بذاتها مرحلة نهائية لدى بعض الكتاب، إلا أنها لتكون كذلك يجب أن تنضج لتكون على درجة كافية من الإحكام يؤهلها لأن تشكل بحد ذاتها مرحلة نهائية، وهذا يستلزم من الكاتب الاستمرارية ودوام الاشتغال على تطوير موهبته والانتباه الدقيق لمواقع القصور فيها”. وتضيف الساعدي: “بخصوص كون الأصوات القصصية نسائية في الغالب، فهذا أيضا أمر طبيعي. مع الأخذ في الاعتبار أنك لكي تكتب يجب أن “تجلس” لتقرأ باستمرار وتثقف نفسك، وتجلس لتكتب نص ما وتشتغل عليه. ولكي “تجلس” تحتاج وقت. الشباب غالبا في حالة حركة، البنات جالسات بحكم طبيعة المجتمع أكثر من الرجل، والبعض يقرر أن يكتب أثناء هذا الجلوس، لا أقصد أنهن يكتبن من فراغ، فلو كانت القضية فقط لتزجية الوقت كان يمكنهن مشاهدة التلفزيون أو قضاء الوقت في الثرثرة في الجلسات النسائية. لكن من تختار الكتابة فحتما لديها همّ ولديها شغف ولديها فكر، وحصل أن لديها بعض الوقت لإفراغ كل ذلك على الورق. قد يحتج البعض على هذه النقطة قائلا أن المبدع الحقيقي يستطيع دوما أن يخلق وقته للكتابة ولا يتحجج بضيق الوقت. وهذا صحيح في بيئة مختلفة، بيئة “حاضنة” للأدب وتحتفي بالفعل الأدبي كفعل مهم مؤثر وجدير بالاهتمام، حيث تدور في الأجواء أخبار الأدب ومناقشة شؤونه وآخر الإصدارات والأفكار تتشابك وتتلاقح في منتديات وملتقيات تتداول الكلمة وأثرها ونبضها وعمقها ومعناها ومغزاها والصحاب يتحدثون عن الكتابة ويتداولون أخبار الروايات ودواوين الشعر وكتب الفكر والفلسفة ويتفق البعض أن هذا كاتب جيد وذلك كاتب سيء، وذلك كتاب مهم وآخر لم يضف جديد، دون حرج ومجاملات وتصفيق في الهواء، وتزدهر الصحافة الثقافية بحيث لا تقل أهمية عن الصحافة الرياضية. موضوع “الكتابة” بهذه الشاكلة غير مطروح هنا، لدرجة ينسى المبدع، في خضم انشغالات الحياة، أنه كاتب. وحين يتذكر ذلك يحاول اقتناص الوقت ليكتب نصا يكون بالضرورة قصيراً”. وتلمح الساعدي إلى أنه “لا يجب تداول التجربة الإماراتية الأدبية وكأن كتاب القصة الإماراتيون فريق واحد يمسك الجيل القديم بالشعلة فيهديها للجيل الجديد. الحقيقة أن أغلب الكتاب لا يعرفون بعضهم ولم يقرؤوا شيء من نتاجات بعض، إلا فيما ندر. نحن ككتاب إماراتيون نعمل بشكل فردي منعزل دون أن يخضع نتاجنا للتداول الفعلي والموضوعي، ومن يستمر منا يكون مدفوعاً بشغفه الشخصي فقط. وهذا لغياب البيئة الحاضنة والمناخ الثقافي كما قلت من قبل. لكننا في العموم نتلمس الطريق نحو الولوج لعالم الأدب الشاسع. ولا يعيبنا في شيء أننا في المراحل الأولى لأن إدراكنا هذا يعني أننا قابلون للتطور، ويعني أننا نعرف أين نقف والى أين نحن ذاهبون. الوعي بالذات أولى الخطوات الواثقة في سلم الإبداع الحقيقي القائم في جوهره على الصدق مع النفس. تبرز القصة القصيرة في الإمارات لأن هذا ما يتيحه المناخ والتجربة الحياتية. لأن نفس القصة قصير فلا تتطلب وقتا طويلا. الكتابة الأدبية ذات الزخم الثري الغزير المحبوك المحكم طويل النفس مثل الرواية “الجيدة” تحتاج، بالإضافة لتوفر الوقت، إلى مناخ وبيئة مهيأة، تحتاج أن تكون في خضم حركة أدبية تثريك وتفتح لك آفاق وتستقبل صوتك بحيادية وموضوعية وتوازن دون مديح يرفعك للعالمية أو ذم ينفي عنك صفة الإبداع، ويمكن أن نقول أننا في بدايات تهيئة هذا المناخ، بعد أن ارتفع سقف البيت وعُّبّد الشارع”. مثل غيرها من المبدعين لم تتعمد أو تتقصد مريم الساعدي كتابة القصة القصيرة، “لم أقصد كتابة القصة القصيرة، أنا أردت فقط الكتابة. كنت مسكونة بهاجس الكتابة دوما، وبدأت في المدرسة كتابة روايات لا زلت أذكر أسماءها كانت واحده باسم “أسطورة القصر” عن قصة شاب يعاني صراع نفسي مرير بين الشر والخير فينحاز للشر بكل أشكاله حتى في النهاية يسقط في هوّة فراغ روحي موحش ويرغب فقط لو يعود الزمن ليكون إنسانا طيبا بعد أن يدرك أن قيمة الإنسان الحقيقة هي في كونه خيّرا فقط. طبعا هي روايات غير ناضجة ولكن كان يمكن أن تتطور لو تهيأت الأسباب. وفي فترة لاحقة حاولت كتابة الشعر، فكتبت أبياتا كثيرة، وكنا نتداولها في المدرسة مع بعضنا، توقفت عن ذلك بعد أن أدركت أني لا أمتلك موهبة الشعر، ورحم الله امرءٍ عرف قدر نفسه. بالطبع لو كنت أكثر اطلاعا على تجربة القصيدة النثرية الحديثة لوجدت هذا ممكنا. وحرصا مني على التمسك بحلم الكتابة صرت أكتب كل تلك الأفكار التي تدور برأسي فتأتي على شكل نصوص قصيرة، لم يتوفر لي الوقت الكافي ولا الدراية الكافية بعد لكتابة رواية”. على صعيد آخر، تشير الساعدي إلى أنها غير معنية بكل السجال الدائر التصنيفات الأدبية. هي تريد - فقط - أن تكتب لأن “هذا يجعلني أتنفس جيدا وأكثر قدرة على التعامل مع وجودي الخاص. أكتب لأن الله وهبني نعمة البصر والسمع والعقل، أريد أن أقول بأني أرى وأني أسمع وأني أفهم وأتفهم، أكتب لأن الكتابة تسجيل لمرور الإنسان على هذه الأرض، والحياة قصيرة، فأنا أكتب لأني أريد مكافحة الإحساس بالاندثار و بحزن الرحيل وللتعامل مع الإحساس الثقيل بوطأة الزمن. أنا أكتب لأتعامل مع نفسي ومع وجودي الشخصي، وأيضا لأني يهمني الإنسان بشكل شخصي وتهمني معاناته، لا أعتبر نفسي غير معنية بإنسان يموت من الجوع في مجاهل الأرض، أو يموت من القهر في وطنه، أو يعيش مشردا بلا وطن، أو يموت برصاصة في حرب حمقاء، أشعر دوما باني معنية بمعاناة الإنسان وهذا شيء لم أختره لنفسي، هكذا خلقني الله، ولا أمتلك إزاء ذلك أي شيء، لا أمتلك ثروة أساهم بها في محاربة الفقر، ولا أمتلك سلطة أعمل بها على محاربة القهر وإيقاف الحرب، لكني لا أمتلك إلا إحساس وقلب ينبض بالحزن والغضب، ولكي لا أموت بالسكتة القلبية فأنا أكتب. وهذا كل ما أستطيعه، أو آمل أني أستطيعه”. القصة مشاعة لا تجزم القاصة والشاعرة فاطمة المزروعي بصحة هذه المقولات التي تتداولها الساحة الثقافية ويكتب عنها الباحثون، لكنها تستدرك قائلة: “لو صحت مثل هذه الآراء، فإنني أعتقد أن السبب يعود لطبيعة القصة نفسها من جانبين: طريقة كتابتها والتي تعتبر غير مسيجة بأطر أو اشتراطات، وإن كان هناك من يضع لها ضوابط ومتطلبات إلا أنها تبقى أسهل في الطرق والتوجه من الشعر على سبيل المثال، أما الجانب الثاني، فيتعلق بطبيعة القصة القصيرة نفسها وهي قصرها، وبالتالي سهولة كتابتها - كما يعتقد البعض – وأيضا في ملائمتها في طرح عدد من القضايا المجتمعي التي قد يكون طرحها بشكل مباشر موجعا فيأتي قالب القصة الذي يحمل همومنا وآمالنا ولكن بشكل غير مباشر في قالب قصصي، فيحقق الهدف والقصد”. ولا ترى فاطمة المزروعي القصة كفن أكثر ملاءمة لإيقاع العصر، فهي في نظرها “قالب أدبي يؤدي دوره في رصد مثل هذه التحولات المجتمعية تماما كأي نوع أدبي آخر، لكنها قد تكون ملائمة ومفيدة لدى شريحة أخرى من الكتاب والمؤلفين، ولكن في ظني أنها تبقى وسيلة من وسائل التعبير الإنساني. وتعتقد المزروعي أن منشأ هذه النظرة إلى القصة القصيرة ربما يعود إلى تحررها من اشتراطات الشعر، وقد يكون قصرها أحيانا متناسبا مع طبيعة العصر المتسارع. لكن هناك قصص قصيرة طويلة نسبيا وفلسفية – معقدة – في تناولها وفي عمقها، لذلك اعتبر ان لا قاعدة ثابته في هذا السياق. وبحزم واضح تجيب فاطمة المزروعي على السؤال المتعلق بمدى استسهال الشباب للقصة القصيرة حيث تقول: “نعم، هذا واضح ولا يحتاج إلى دراسة أو حتى ملاحظة متعمقة، فالموضوع مشاع، وأكاد أجزم بأن كل من يبدأ الكتابة في الحقيقية تكون بدايته مع كتابة القصة القصيرة، لكنني لا أعده عيبا أو نقصا في فن كتابة القصة القصيرة، أو أن سورها قصير ويستطيع أيا كان أن يتجاوزه، بل أعتبرها فضيلة وميزة لهذا الفن العريق، والسبب أنني أرى أن الكتابة والتأليف في مجملها حقا مشاعا للجميع دون استثناء، وللجميع حق ممارسة الكتابة، ويبقى الحكم لجمهور القراء ومدى تقبل الناس”. أما عن البروز القوي للمرأة في المشهد القصصي وما إذا كانت طبيعة الحكي أقرب للمرأة التي تمتلك قدرة على السرد فتؤكد المزروعي أن هذا صحيح، وأن “الفن القصصي قديم، ورافق البشرية منذ الأزل، واليوم نشاهد رسوما على جدران الكهوف، يؤكد علماء الآثار أنها سرد عن رحلات الصيد وفيها نقل لحياتهم اليومية، وقد وصلتنا على قدر ما كانوا يتمتعون به من إمكانيات معرفية في ذلك الزمن، وتباعا لهذه الحالة فإن المرأة كانت متواجدة ولها دورها، لكنني لا أحب أن توصف بأنها هي الوحيدة التي مارست هذا الفن القصصي، بينما الرجل كان في معزل عنه، لكنني أؤكد أنه كان لها دور كبير وعظيم في هذا السياق”. وتختم فاطمة المزروعي شهادتها بالقول: “القصة قريبة من النفس الإنسانية وتتوق لها الروح، فهي تغذي ما ينقصنا وخلالها نشكل العوالم التي نحلم بها، وبواسطتها يمكننا أن نغير واقعنا القاتم ونجعله أكثر جمالا، لذا فإن القصة منشد ومطلب كل إنسان. إن القصة عالم يمكنك تشكيلة وتلوينه كيفما يريد المؤلف، صحيح أنها تكون أيضا واسطة إذا صح التعبير لنقل الوقائع وفق قالب قصصي، إلا أنها أيضا وسيلة لرؤية المستقبل بالشكل الذي نتطلع له، وهي بالنسبة لي ملاذ مناسب للهروب من الهموم والآلام، وهي الفن الذي اعتبره الأقدم بالنسبة لي وهي الأكثر طرقا وكتابة وتأليف وكانت بدايتي من عتباتها، وهي مرافقة معي دوما”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©