الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عودة إنانا

عودة إنانا
20 سبتمبر 2012
“عائشة تنزل إلى العالم السفلي” الرواية الخامسة للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، والتي حققت أعلى نسبة مبيعات في معرضي الكتاب في الرياض والكويت، هي رواية فلسفية سعت فيها الكاتبة للإشارة إلى علاقة التلازم بين الحياة والموت، والعالم الدنيوي والأُخروي، في نظرة مختلفة للزمن. تحكي الرواية قصة أم فقدت ابنها بشكل مأساوي، وكرد فعل صادمة ترفض العيش من بعده، تقرر البقاء حية في ذكراه، من خلال الكتابة، وفى طريقها إلى ذاك العالم الذي تسميه العالم السفلي عليها المرور عبر سبع بوابات، وعند البوابة السابعة ثمة أحداث مشوقة وفلسفية تربطها بشرط وحيد لدخول ذلك العالم، وهو أن تنفض عنها جرحها (ذكرى طفلها) كي تتمكن من الدخول.. وهناك تستكمل الرواية تفاصيلها التي فيها ملامسة للأسطورة الفلسفية القديمة “إنانا”. هنا قراءة نقدية على الطريقة اللولبية للرواية. واللولب، هو الخط الحلزوني المتجه إلى الداخل. يستخدم في التشكيل شرقا وغربا، من أسمائه الين واليانق والنفس الكلية والكتاب المبين والأوروبوروس والأرابسك. استخدمه كمال أبو ديب في قراءة الشعر الجاهلي، وسأستخدمه في قراءة “عائشة تنزل إلى العالم السفلي”. لا يتضح الكتاب المبين كما يتضح في قراءة اللوحة: 1 ـ إرسال العين إلى مركز اللوحة (بؤرة اللوحة). 2 ـ الانتقال إلى الأعلى وإلى الأسفل. 3 ـ الانتقال من يمين اللوحة إلى يسارها. 4 ـ العودة إلى المركز لنجد أن البؤرة قد انتقلت من مكانها لتصير أكثر ايحاء. بؤرة الرواية وفي بؤرة رواية “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” الخطاب الآتي: “لقد مات ولدي أيها العالم”، منه تتناسل الخطابات في الرواية، ويلف بنا اللولب الذي يبين لنا بؤرة جديدة تظهر شيئا فشيئا اسمها “إنانا”، لكن العودة إلى البؤرة لم تنعقد وإنانا ربة الحياة لم تحضر، الذي انعقد هو الموت والذي حضر هو ربة الموت “ارشيكيجال”. وحتى يتبين الكتاب لابد من كبش فداء، الهدف من وجود كبش الفداء هو إثارة المفاجأة أو الدهشة أو الألم أو المتعة أو الانتباه أو الإعجاب التي يكون القصد منها هو تهيئة القارئ للصورة النهائية للعمل، وكبش الفداء في هذه الرواية هو انانا. كم يشبهك الأمر أيها الشعر الزهيري، ففيك أيضا تغيب المفردة التي كانت في نهاية الأشطر الأولى لتعود في نهاية الأشطر الأخيرة وقد امتلأت ايحاء ويسمونها شعرية، على أي حال الزهيري جاء من الزهراء، والزهراء الكوكب السماوي هي انانا في الثقافة السومرية. “مات ولدي أيها العالم” يلف السرد حول هذه الجملة، بها تبدأ المحاور التعاقبية والزمان وبها تنتهي، بها تبدأ المحاور التجاورية والمكان وبها تنتهي، وبذلك تجتمع أطياف انانا مبشرة بمجيئها، ويعقد القارئ أمره على أن الرواية ما هي إلا تبيان صورة انانا وتذويتها في زمان ومكان خاصين، لكن المؤلفة تخالف التوقع وتحضر ربة الموت. لقد زحزحت المؤلفة البؤرة عن مكانها وصارت أكثر ايحاءً، وفي هذا الإيحاء عالم الرواية كله. هذا التبديل الذي صنعته المؤلفة ما بين ربة الحياة وربة الموت جعل الرواية رحلة من موت إلى موت أفظع، وتلعب انانا في هذه الرحلة دور الإغواء بالنسبة للبطلة والقارئ. وثيقة نفسية إن هذه النهاية مع ربة الموت جعلت عائشة تعيش الألم كله الذي كبتته نتيجة وفاة ابنها وحانت لحظة التفريغ حتى تعيش، وبهذا تندرج هذه الرواية ضمن الأدب النفسي، حيث علاج المريض يتم بمساعدته على استعادة الذاكرة الأولى للحدث والخبرة الأولى للألم، وهذه الصفة النفسية للرواية تبرر الهذر في كثير من صفحاتها والذي يقابل الهذيان عند المصاب أو عائشة نفسها. كانت “ارشيكيجال” إلهة الموت تقودها بكآبتها إلى العالم السفلي، “ارشيكيجال” هي الكاتب الضمني، وانانا هي القارئ الضمني، ألا يتجرد القارئ الداخل إلى الرواية من كل مفاهيمه السابقة قبل المباشرة بالقراءة كما تجردت انانا من كل شي قبل أن تدخل إلى العالم السفلي. انانا/ ارشيكيجال.. الحياة/ الموت، في تبادلية قصدية تنشئ لنا عائشة التي استوعبت التجربة، بل وصارت التبادلية بحد ذاتها أداة لها تستخدمها في كل مرحلة تجدد. وثيقة اجتماعية الموت/ الحياة.. أغرب تشبيه لهذه التجربة هي طلق المرأة، أنها تموت وتحيا ولكن تصير أما، لقد استعادت عائشة أمومتها من جديد، نتذكر هنا الرواية السابقة للمؤلفة “تحت أقدام الأمهات”، وهي رواية تتكلم عن امرأة مسيطرة على العائلة ككل، يأتينا واقع اجتماعي في الكويت هو سيطرة المرأة على المرأة، سيطرة الأم على الابنة وجعلها صورة منها، وهذا يعني إعادة إنتاج نفس الصورة الثابتة مما يعني توقف المجتمع عن النمو، يقول أحد تلامذة العالم النفسي كارل يونغ: في وعي الفرد المتطور تكون صورة البطل هي الوسيلة الرمزية التي تتغلبها الأنا الناشئة عن عطالة العقل الباطن وتخلص الإنسان البالغ من توقه للنكوص إلى حالة الطفولة الرغيدة حين تهيمن أمه على العالم. على الفتاة حتى تتحرر من أمها التي في داخلها أن تستعين بصورة بطلة، أما الأم في الخارج فدورها هو الرعاية والحنان لتحقق هذه الشخصية كما هي أم عائشة في الرواية، وبالتالي فإن المؤلفة وإلى حد كبير تتكلم عن تحرر المرأة والذي استجد بعد تحرر الكويت من الغزو والذي كان وعدا من السلطة السياسية في مؤتمر جدة. وأيضا هناك رواية أخرى لبثينة وهي “عروس المطر” تظهر فيه الجانب المذكر من المرأة (أنيموس) طبقا للعالم النفسي كارل يونغ، والانيموس أيضا موجود في رواية عائشة، فالانيموس هو وراء الكآبة التي تصيب المرأة والعصبية والنفور من الرجال ومن الزوج خصوصا بهذا التشرب لمذهب يونغ تصير بثينة العيسى رائدة الأدب النسوي في الكويت وليس النسائي، فالنسائي ممثلاته كثيرات في كثرة نساء سوق الحريم اللواتي يبعن اليقط والصابون وإلى آخره. بيئة انانا/ ارشيكيجال.. الموت/ الحياة.. انسلاخ الأفعى عن جلدها، هذا يذكرنا بالأفعى المقيمة في بيئة الكويت، فهي ذات راسين (المقصود قرنين)، والأفعى أيضا رمز من رموز الأمومة فهي تعطي الغذاء وتعطي السم في نفس الوقت، في أعلى قبة الفلك توجد كويكبات سمتها البشرية بالأفعى ومن حركة الفلك خرج اللولب الذي ليس سوى تقليد لدورته. تغير عالم عائشة، وتغير العالم يستلزم تغير في اللغة لكن لغة عائشة لم تتغير، هذه الواقعة تسحب على صدق الرواية شحوبا لا يستهان به. الرواية صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ـ منشورات الاختلاف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©