الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العقل والتجربة وما بينهما

العقل والتجربة وما بينهما
20 سبتمبر 2012
كتاب جديد بعنوان :فلسفة العلم من العقلانية إلى اللاعقلانية” للمؤلف د. كريم موسى، استاذ الفلسفة في كلية الآداب ـ جامعة بغداد، وعضو الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، يتناول فيه فلسفة العلم التي هي أحد فروع الفلسفة حينما يكون البحث الفلسفي ومادته الأساسية العلم، ولكن عمومية هذه النظرة يختفي وراءها الكثير من التفاصيل التي تفرض الوقوف عندها، بدءاً من عمومية مفهوم العلم وبعده التاريخي الملاصق لمفهوم الفلسفة، وانتهاءً بتنوع المباحث التي تنطوي عليها العلم وتعدد الزوايا والرؤيات الفلسفية التي ينظر من خلالها إلى العلم على أنه نشاط معرفي وعملي واجتماعي وإنساني له تاريخ يقارب تاريخ الإنسان. يقول د. موسى: من العبث أن نضع تعريفاً جامعاً ومحدداً، إلا أننا نستطيع أن نوظف بعده الممتد تاريخ الفكر الفلسفي بالقيام بهذه المهمة ليعطينا حدوداً لخريطته الفكرية وليس تعريفاً محدداً عن العلم، إذ كان العلم يشكّل الجزء الذي تميز باسم الفلسفة الطبيعية في عموم تاريخ الفكر الفلسفي، من هنا ينظر إلى العلم على أنه مجموعة الفلسفات الطبيعية التي استقلت عن الفروع الفلسفية واتخذت اسم science والعلم قبل استقلاله كان يعبّر عن جزء من الفكر الفلسفي. ويذكر المؤلف أنه لم يجد في هذا الوقت فلسفة علم بمعناها التخصصي الشامل لمفهوم العلم، واقتصر النشاط الفلسفي المهتم بالعلم في ذلك الوقت، على بعض المحاولات الفلسفية لمناقشة مناهج العلم، والبحث عن المنهج المفضل، وبرزت سيادة جلية للنزعة الاستقرائية في ذلك الوقت، وقصر اهتمام أوغست كونت بتصنيف العلوم وترتيبها على شكل درجات حسب ما تملك من التعميم والتجريد والتعقيد. ويرجع السبب بحسب د. موسى إلى تأخر انبثاق فلسفة العلم على طرازها المعاصر إلى النزعة الوضعية ذاتها أمام سطوة العلم، فالتقييم الفكري الصائب على وفق هذه النظرة سيكون لصالح العلم وليس لصالح الفلسفة، إذ يذكر مؤسس المذهب الوضعي أوغست كونت أن الفلسفة كالميتافيزيقا بإمكانها أن تؤثر إيجاباً في العلم بمرحلة الطفولة فقط، ولذلك أوكلت مهمة قيام فلسفة للعلوم أو فلسفة علمية ليس للفلاسفة بل للعلماء الذين سيتعرفون بشكل جيد إلى ناهية العلوم وتسلسلها والعلاقات القائمة فيما بينها، ومن ثم العمل على إيجاد نظرة موحدة تركيبية للعلوم جميعاً. ويشير د. موسى الى أن هناك سبباً آخر وراء تأخر انبثاق فلسفة العلم بنحو نصف قرن بعد استقلاله عن الفلسفة تماماً، وهو الازدهار والنجاح المتزايدان اللذان نعم بهما العلم في هذه المرحلة، ورسوخ وثبات حالة التفوق التي حالت من دون حاجة العلم إلى أي نوع من المراجعة والتقويم من أي نشاط فكري كان، حتى لوكان هذا النشاط متمثلاً بالفلسفة، وعلى هذا الأساس نرى العاصفة التي حلّت بالعلم على مستوى الأسس الفكرية التي يستند إليها في مطلع القرن العشرين، والتي أفضت إلى الرسوخ المطلق للمبادئ العلمية لا يصمد إِلى الأبد، وأن العلم في نهاية الأمر نشاط معرفي عملي تبقى عائديته إنسانية الملمح، وقابل للمراجعة والتقويم بشكل شامل، الأمر الذي فتح الباب ومهد الطريق لولوج فلسفة تقوم بهذه المهمة التخصصية للعلم. أما في ما يتعلق بتفاصيل المهمة الملقاة على عاتق فلسفة العلم، وإن كانت تعبّر بشكل عام عن حديث فلسفي شامل عن العلم لكنها في الوقت نفسه غير معنية باكتشاف منجزات علمية لأن هذا الأمر من شأن العلماء وليس من شأن الفلاسفة، وتبقى مهمة فلسفة العلم مقررة بأن فلسفة العلم حديث عن العلم، وليست حديث في العلم، إذ تتحدد الصلة بين فلسفة العلم والعلم بأن لا تنصبّ الفلسفة نفسها وصية على العلم، وفي الوقت نفسه لا تتحول إلى وصيفة له. واذا كانت فلسفة العلم تهدف إلى بناء حديث فلسفي شامل عن العلم، فيبدو أنها عازمة على جعل العلم موضوعاً تضيفه جميع مباحثها الأساسية بل تتجاوز ذلك إلى مجالات أخرى مثل سوسيولوجية العلم فضلاً عن تاريخ العلم، كما وتسعى فلسفة العلم إلى الحصول على نظرية فلسفية في الوجود معتمدة بالأساس على الأنتولوجية التي يفرضها العلم عبر التصورات والمفاهيم الوجودية العلمية، مثل المادة والطاقة، والموجة والمجالات الكهربائية والمغناطيسية والذرة ومكوناتها... ومن ثم تقويم ونقد هذه الأنتولوجية الشاملة. تناول المؤلف في كتابه هذا أهم المهمات الملقاة على عاتق مبحث العقلانية في فلسفة العلم، مع وجهات نظر مختلفة لشأن هذا المبحث العقلاني وتطورات صور العقلانية في فلسفة العلم من حال إلى حال، وخاصة أهم ركنين تستند إليهما: الأول موضوعية وجود الحقائق العلمية وثبوتيتها أما تغيّر الظروف الاجتماعية والحضارية التي تخص العوامل الإنسانية وجميع العوامل الإنسانية وجميع العوامل التي تجعل الحقائق العلمية تبدو نسبية الطابع، والركن الثاني المنهج الصحيح للوصول إلى هذه الحقائق والنزعة إلى وحدانية هذا المنهج وتقرير ملامح العقلانية فيه، لذا نرى بعد أن هدم هذين الركنين في بعض اتجاهات فلسفة العلم صنفت هذه الاتجاهات بصنف اللاعقلانية في فلسفة العلم. كما تناول المؤلف العقلانية العلمية في شكلها العقلاني الخالص متمثلاً بالعقلانية التجريبية التي تبنتها الوضعية المنطقية، إذ بدت هذه العقلانية عبارة عن عقلانية تحصيل الحاصل، تتماهى مع عقلانية وصورية المنطق الذي تستند إليه، وتظهر فيه أن المدعي بامتلاكه الحقيقة العلمية متمثلاً بالعالم التجريبي هو ذاته من يصدر الحكم على صدق الشكل التجريدي لهذه الحقيقة العلمية، بعد أن المدعي بامتلاكه الحقيقة العلمية في العودة إلى التجربة لتصدر حكمها على هذا التجريد العقلي. الواقع التجريبي، وتستخلص هذه المادة الخام عن طريق منهج الاستقراء الذي عدّته المنهج الصائب الوحيد المناسب للعلم، يأتي بعد ذلك دور تشكيل الحقيقة العلمية على شكل تجريد رياضي ومنطقي على شكل قانون ونظرية عن طريق العقل، ثم العودة إلى التجربة لتصدر حكمها على هذا التجريد العقلي. ويرصد المؤلف أول محاولة لفهم عقلانية المعرفة العلمية، وقام بها الفيلسوفان جاستون باشلار وكارل بوبر، إذ رأى كلاهما أن ليس هناك حقيقة علمية ومبادئ أساسية قارة وراسخة في التجربة يستطيع العقل اكتشافها، وإنما المشروع المعرفي العلمي مؤسس على أن الحقائق العلمية تأتي من عملية تساهمية يساهم فيها العقل والتجربة، فالعقل يشّرع الفرضيات والنظريات، أما التجربة فعليها أن تحكم، ولكن الحكم ليس بصدق هذه النظريات والفرضيات لأن التجربة لا تنتمي ولا تعرف عالم النظريات والفرضيات، بل تنتمي إلى عالم الوقائع والأحداث، وبهذه الوقائع أو الأحداث تستطيع أن تكذب النظريات والفرضيات، لذا فإن العلم يسير وفق عقلانية أسماها باشلار العقلانية التطبيقية وأسماها بوبر العقلانية النقدية. وتناول المؤلف الانعطاف الكبير الذي حصل في رؤية فلسفة العلم تجاه عقلانية العلم على يد فيلسوف العلم توماس كون، حينما اعتبر تاريخ العلم هو المرجعية الأولى في تأسيس فلسفة العلم، وبعد أن طرح مفهوم اللامقايسة الذي من خلاله كشف توماس كون، بأنه عند حصول الثورات العلمية على مدى تاريخ العلم لا تتغير فيه الحقيقة العلمية الجديدة لا يمكن مقايستها مع الحقيقة العلمية القديمة، أي لا يمكن تعيين من منهما أفضل من الأخرى لاختلاف مرجعية العقلانية في كليهما بعد أن تبدلت أسس العقلانية العلمية، إذ تبدلت التجربة والنظرة إلى العالم، وتبدل كذلك العقل الباحث في هذا العالم، وتبدلت المعايير والمناهج، ولكن في خضم هذا التبدل الكبير يزرع توماس كون نوعاً من العقلانية الثابتة ثبوتاً متعلقاً بسيادة النموذج الإرشادي الذي يسود مرحلة ما من مراحل العلم أطلق عليها العقلانية المؤسساتية التي تأخذ كل مستلزماتها من مؤسسة المجتمع العلمي الذي يقود البحث العلمي. كما وتناول ما جاء به فيبراند، فيلسوف العلم الأميركي النمساوي الأصل الذي نادى صراحة أن المحرك الفعلي للبحث العلمي هو اللاعقلانية، والعلم مشروع قائم ويتطور على أساس انتهاك مبادئ العقلانية السائدة، ورأى في مؤلفه “ضد المنهج” أن المناهج العلمية هي مناهج نسبية ومتعددة ولا وجود لمنهج واحد للعلم، لذا سيكون المشروع العلمي ذو صبغة فوضوية لا يعترف بوجود سلطة منهج معين أو قواعد معينة تحدد نشاطه، وبهذه الصورة الفوضوية للعلم يفقد الأخير بنظر فيبراند كل مميزاته عن باقي النشاطات المعرفية الأخرى ويضحى تقليداً معرفياً كباقي التقاليد التي تتغلف بجميع المناحي الإنسانية والحضارية والاجتماعية، إذ نحن وصل الحال بنا مع فيبرابند إلى الرؤية اللاعقلانية الخالصة للعلم. وعلى أية حال، لا بد أخيراً، ان نرى في هذا البحث وبفصوله الأربعة كانت المحطات التي حصلت فيها نقطة انقلاب بمنحى العقلانية في فلسفة العلم. كما ونصل إلى النتيجة المتوقعة حينما يكتمل مشروع فلسفة العلم، ويصبح نشاطاً فلسفياً مستقلاً عن ضوابط الموضوع الذي يبحث فيه متمثلاً بالعلم، نقول: لا بد أن تجاري فلسفة العلم باقي النشاطات الفلسفية والفكرية الأخرى في النزوع إلى النسبية واللاعقلانية، لأن اتجاه بوصلة عموم الفكر الإنساني المعاصر يشير الى هذا الاتجاه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©