هذه هي المرّةُ الثالثةُ خلال هذا الأسبوع أتّصلُ فيها بالبقّال ليحضر لي ولاّعة.
يا لي من شرّير..!!
كم من الحرائق أقفُ أنا وراءها..!!
***
القرصان، حان وقت نومه..
خلع عينه (كرة الزجاج).
خلع يده (خطّاف الحديد).
خلع ساقه (عصا الخشب).
خلع طقم أسنانه.
خلع شعره المستعار.
خلع أشياءه..
هكذا..
قطعةً
قطعةً..
......
كان ثمّة قرصانٌ هنا..
لكنّه خرج إلى النوم..
***
أستيقظُ في الثامنة صباحاً. يستيقظُ نصفي في الحقيقة. أمّا النصف الآخر فلا أعرف عنه شيئاً.
تقترح عليّ وفاء كوباً من القهوة السوداء الثقيلة. طيّب. فكرةٌ حسنة. سأكون نصف كائن بيقظةٍ مضاعفة..
***
أنت أيّها الكائن المنحطّ السافل اللئيم الذي يسكنني. آن لك أن ترحل بعيداً. أنت وجميع أفراد عائلتك. الشجار الذي لا ينتهي بينك وبين زوجتك سمّم لي حياتي. قلْ لأطفالك أن يجدوا مكاناً آخر غير جمجمتي ليدقّوا مساميرهم، ويعلّقوا لوحاتهم السخيفة عليها. أخبرتُكَ مراراً أن تجعل الاغتسال مرّةً واحدةً في الأسبوع، فأنا أعاني فقر دمٍ مزمناً. ليس لديّ ما يكفي من الدم كي تشبع هوسك بالنظافة. لا تكسر الجوز هنا أرجوك. وإذا أردت إغلاق النافذة فبهدوء. أطفالك يدخّنون نوعاً رديئاً من السجائر. أكاد أختنق. آن لك أن ترحل الآن. روحي بالكاد تتّسع لي.
***
جدّتي مولعةٌ بالذهب. تلمع دائماً. في قدميها، ويديها، وأذنيها، وأنفها، وعلى صدرها، وأصابعها، وأسنانها..
والغريب أنّ اسمها (فتخة).. والفتخة في اللهجة البوكماليّة (وربّما الديريّة أيضاً) هي محبس الزواج..
فتخة (ذات الاسم الذهب) توفّيت منذ أكثر من ثلاثين عاماً..
أراها في أحلامي أحياناً.. ولكن ببريقٍ أبيض يشبه بريق الفضّة..
***
في السبعين من عمركِ.. أو أكثر.. ظهركِ المقوّس. رأسكِ الصغير الغائص بين كتفيك. ما تبقّى من خصلات شعركِ. حاجباكِ الكثيفان المقرونان. الشعيرات الخشنة النابتة وسط غضون وجهكِ. عيناكِ المفتوحتان كجرحين صغيرين. شفتاكِ المزمومتان. ارتجافة يديكِ. العروق النافرة. الرائحة القديمة. الهواء الجافّ...
كلّ هذا ليس مهمّاً..
تنامين يا جدّتي..
سريركِ واسع.. وبارد..
هنا الشيخوخة.. هنا الألم..
***
أكلّمكم الآن من المقبرة، حيث أحتفل مع أحد الأصدقاء بعيد موته الخامس والأربعين..
الخامسة والأربعون في الموت تعني طفولةً مبكّرة.
صديقي ما زال يحبو في موته. لم يتعلّم الكلام بعد. يتأتئ فقط... يا لبراءة الموتى!!..
***
أعلمُ أنّني لست أنا.. أنا الحقيقيّ هو في هذا الهيكل العظميّ الذي يسكنُني.. الجمجمة الصلعاء، والأسنان الكبيرة، والأصابع المدبّبة..
لا أدري إذا كان مناسباً أن أوصي عائلتي بأن تنزع عنّي لحمي عند الموت، وتتركني لهيكل العظام هذا.. الهيكل النحيل. الخفيف. الحقيقيّ. الصلب. لا أتفسّخ. ولا تفوح منّي رائحة اللحم الفاسد. الهيكل النظيف. بالابتسامة الصافية. والنظرة العميقة.. أتقلّبُ في قبري، فأقرقعُ فقط.. لا أصرخُ ولا أتأوّه..
تبّاً لكِ أيّتها الديدان.. سأدعُكِ تموتين جوعاً..
***
الموتُ على فراشه يتمطّى. فنجانُ قهوته إلى جانبه. عينا الموت حمراوان، فسهرة الأمس كانت طويلة. سهرة ماجنة. أجسادٌ من حوله كانت تتلوّى. رؤوسٌ تتدحرج. صرخاتٌ. وكؤوسُ دم. وفي الخارج مسيرةُ دبّابات حاشدةٌ تجوب الشوارع. ترفعُ أعلام الوطن. تنادي بالخلود للإله الهالك. وبالهلاك للشعب الخالد.
الموت متأهّب للخروج. يرتدي بزّته العسكريّة، ويقفُ أمام الباب. عملٌ شاقّ بانتظاره. قائمة الضحايا في جيبه طويلةٌ اليوم. مدنٌ جديدة تفتحُ ذراعيها لاستقباله. أطفالٌ جدد. أراملُ وثكالى وأيتامٌ ينتظرون.
يودّعُ الموتُ زوجتَه الحسناء الشابّة. يطبعُ على شفتيها قبلةً صغيرة. يعدُها بالعودة باكراً هذا المساء. (...). تبتسم. تذكّره أن ينتبه إلى نفسه. وقبل أن يخرج تصلحُ له ياقة قميصه. تسأله عمّا إذا كان قد اصطحب عُدّته كلّها. خُطّافَه، وقنابلَه المسماريّة، وأنشوطةَ المشنقة.
يخرج الموتُ سعيداً.. يخرج.. وعلى فمه ظلّ ابتسامة..
***
على مائدة الدم نلتقي..
جثّتي التي أحبّها كثيراً. جثّتي التي تشبهني. عمرها من عمري. عشنا لحظة الولادة سويّاً. وعلى سرير التراب نفسه متنا سويّاً.
أُجلس جثّتي قبالتي. أنظر إلى الثقوب التي أحدثتْها الرصاصات فيها.. أحد عشر ثقباً. أنصت إلى الهواء يصفر وهو يمرّ عبرها.
العينان اقتلعهما القاتل بالملعقة. فراغ عميق مظلم.
رائحة الحذاء العسكريّ للقاتل لا تزال عالقةً عند حافة الأنف المهشّم.
شفتا جثّتي منفرجتان قليلاً.
الأسنان اللبنيّة المتداعية داخل الفم تحتجزان كلماتٍ لم يتح لجثّتي أن تقذف بهما في وجه القاتل. كلمات بلون دمي قبل أن يتخثّر..
جثّتي لم تكن تشبهني في الحقيقة. فيداها باردتان على غير العادة. والبطن منفوخ كبالون.
ومع ذلك، فأنا أحبّها. ما زلت أحبّها.
جثّتي الجميلة. الهامدة. ذات الرائحة الواخزة.
أجيل نظري في المكان. وعندما أطمئنّ إلى أنّ عين الكاميرا ليست مسلّطةً علينا، أرتديها (جثّتي)، وأخرج.
المقبرة ليست بعيدةً على أيّ حال..
***
متنكّراً بزيّ رصاصةٍ أدخل بلادي.
أجالس جنوداً متنكّرين بزيّ بنادق يتحلّقون حول شمسٍ متنكّرةٍ بزيّ مدفأة.
تخطفني إحدى البنادق، لتدسّني في فمها. ثمّ سرعان ما تبصقني لأسقط في قلب شهيدٍ متنكّرٍ بزيّ فراشة.
أثقلُ من الفراشة أنا.
وهكذا تغوص معي في قلب هذه الأرض الموحلة التي لم تعرف كيف تتنكّر أبداً..
***
قاسيون..
برأسه الأصلع، ووجهه المجدور..
ومن تحته بردى خيطُ دموعه الناحل..
***
بندقيّةٌ بفوهةٍ واحدة. ولا تقذف أكثر من رصاصةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحد. والرصاصة الواحدة لا تتسبّب بأكثر من موتٍ واحدٍ للضحيّة الواحدة..
أسلحةٌ خفيفة جدّاً..