21 سبتمبر 2012
(القاهرة) ـ ما حدث لم يخطر لي يوما على بال ولا حتى في الخيال أو أحلام اليقظة سواء كانت جميلة أو سيئة فقد وجدت نفسي وحيدا في هذه الدنيا بعد أن تزوج كل أبنائي وبناتي واستقلوا بحياتهم وفقدت زوجتي التي انتقلت لجوار ربها.
سبع سنوات مضت على رحيلها وأنا أعيش وحيدا اسهر الليالي الطوال، وأتذكر الأيام الخوالي بطولها وعرضها واشتاق للجميع وأبكي، وأنا في هذه السن بدموع غزيرة تجود بها عيناي. كل ليلة تتداعى الذكريات بكل تفاصيلها وتتزاحم وتتكرر أحيانا سعيدة واحيانا بائسة لكنها جميعا في طي الماضي.
كنت موظفا بسيطا لا أملك شيئا من حطام الدنيا، واضطررت للعمل في وقت إضافي لكن العملين لم يحققا تقدما في حياتي كما احلم وكما تتطلب الحياة وإن كنت قد استطعت أن أتزوج في شقة مستأجرة بمنطقة شعبية، وواصلت العمل في الوظيفة صباحا والعمل الخاص الإضافي مساء وقد كان العائد بالكاد يكفي أسرتي الصغيرة، رغم أن متطلباتنا كانت قليلة ومحدودة فهي الضروريات فقط لذا كنت احمل هموم احتياجات طفلنا القادم، ولا خيار إلا البحث عن مخرج خاصة وأنا لا استطيع أن أعمل لفترة ثالثة في اليوم فهذا ضرب من المستحيل.
فكرت كثيرا أنا وزوجتي في وسيلة لتحسين أوضاعنا المالية وبعد وقت طويل وعدة أيام اهتدينا إلى أن تساعدني زوجتي في تجارة المفروشات والقطع المنزلية الصغيرة لأنها تناسب ظروفنا وإمكاناتنا وقد تعرفت على تاجر كبير وافق على أن يمدني بالبضاعة لحين ميسرة، وكنت ملتزما معه في السداد فزادت الثقة بيننا وتولت زوجتي إدارة تجارتنا التي اتسعت ونمت بسرعة حيث أصبح الجيران وكل من حولنا من زبائننا يطلبون المزيد ونحن نلبي مطالبهم، وراجت أعمالنا حتى أصبحت صعبة على زوجتي ولم تستطع ملاحقتها وحدها فتوقفت عن العمل الإضافي، واكتفيت بالوظيفة لما فيها من مميزات وضمان للمستقبل رغم الراتب الضعيف الذي كنت أتقاضاه.
للمرة الأولى في حياتنا نعرف الادخار ويكون لدينا فائض معقول من الربح، وفرشت زوجتي جزءا من المساحة الموجودة أمام مسكني لتضع البضاعة الكثيرة فيها، وزادت مكاسبنا أكثر فاستأجرت محلا في منطقة تجارية، ونقلت نشاطي إليه واضطررت للحصول على إجازة من دون مرتب من عملي للتفرغ تماما للتجارة وزوجتي بجانبي تؤازرني وتساندني حتى وهي في أشد أحوال الحمل بأطفالنا الخمسة الذين رزقنا بهم تباعا تبقى بجانبي وأنا أستبشر بها خيرا وبتواجدها بجواري، وعندما شب الصغار وزادت مسؤولياتهم ومطالبهم استعنت ببعض العمال كي تعود زوجتي إلى البيت لترعى مصالحهم بعدما التحقوا بالمدارس.
تحولت من تاجر صغير إلى تاجر جملة وعرفت الآلاف والملايين من الدولارات والاستيراد، وأصبحت من ملاك البنايات وانتفخ حسابي في البنك من مختلف العملات وكبر أبنائي بين يدي وأمهم تحملت العبء الأكبر في تربيتهم ومتابعتهم في التعليم وكانت على قدر المهمة.
خلال تلك الرحلة الطويلة انتهى الأبناء والبنات من دراستهم وتوج الله جهودنا وتخرجوا في الجامعات وحصلوا على شهادات عالية وتزوجوا واستقل كل منهم بحياته ومسكنه، وتنفست زوجتي الصعداء واصبح لديها بعض الوقت لتقضيه بجانبي في العمل ليس من أجل مساعدتي هذه المرة ولكن لنكون معا كل الوقت خاصة وأنها أصبحت تشعر بالوحدة في البيت إذ لا نتجمع نحن وأبناؤنا وأحفادنا إلا مرة كل أسبوع نقضي اليوم معا، ونتناول الغداء ونلعب مع الصغار ونستعيد أيام طفولتنا المفقودة التي لم نعشها، ولا استطيع أن اعبر عن حجم سعاتي بهذا اليوم الذي أدمنته وكنت أنتظره على أحر من الجمر.
شعرت شريكة الحياة والكفاح ببعض الآلام في معدتها وأصبحت لا تستطيع تناول الطعام عرفنا طريق الأطباء والمشافي، ولم يكن ينقصنا المال وشاءت إرادة الله أن تنتقل إلى جوار ربها بعد رحلة ليست طويلة مع المرض، وبقيت وحدي في عملي غير قادر على مواصلته لأنني أراها في كل ركن من المكان وفي كل موقع ومعاملة فقررت تصفية تجارتي خاصة وأنني صحيا لم أعد قادرا على أعبائها وقد بلغت الستين من عمري، ولم يرغب أي من أبنائي في تولي هذه المهمة واحترمت اختيارهم لأعمالهم.
ندمت بعد هذا القرار لأنني لم أشعر بتداعياته وتوابعه إلا بعد أن عدت إلى البيت وبقيت به وحيدا بين الجدران الكثيرة والغرف الخالية أدور فيها حول نفسي عرفت آلام الوحدة في هذه الأجواء القاتلة نفسيا خاصة وأنني بيتوتي لم أعتد الجلوس على المقاهي أو الخروج، ولم أعرف ذلك في حياتي كلها مع انغماسي في العمل بشكل مستمر كل ما استطيع فعله أنني اجلس أمام مسكني لعدة ساعات متواصلة صباحا ومساء مثل حارس العقار ربما أتواجد اكثر منه لأنه يقوم ببعض الأعمال، بينما أظل قابعا في مكاني والمشهد يتكرر كل يوم.
وفي الجانب المواجه للبيت كان هناك السوبر ماركت الذي تعمل فيه فتاة شابة جميلة في الثلاثين من عمرها أتعامل معها مثل بناتي لأنها في سن إحداهن وهي تعاملني مثل أبيها أعطف عليها وتحنو علي خاصة بعدما عرفت ظروفي، وعلمت أنها مطلقة وكانت بالنسبة لي مثل يد امتدت من خلال الموج لتنقذني من الغرق وأنا أعيش بمفردي انتظر الموت.
استيقظ كل يوم وأجد هذه الشابة تنظر لي بشكل غير طبيعي ولا يناسب سني ولفت نظري ذلك مما جعلني انجذب إليها لتكرار نظرتها الرقيقة، ومع مرور الوقت تعرفت عليها أكثر وراحت تروي لي حكايتها دون أن تعرف عني شيئاً أو تعلم أنني غني فهمت أنها بحاجة إلى رجل في سن والدها لافتقادها الحنان والعطف بعد مرورها بتجربة مرة وقاسية.
وفي أحد اللقاءات جلست تروي لي مأساتها بدموعها أخبرتني إنها فتحت عينيها علي الدنيا لتجد هذا الولد أمامها كان يكبرها بعامين وهو جارها وصديق شقيقها أعجبت به وتبادلا المشاعر البريئة، وارتبطا بلا كلام أو وعد أو التزام وبعد أن انتهت من دراستها في مرحلة التعليم الفني المتوسط لم يستطع التقدم لها رسميا لظروفه المادية الصعبة ،فأصرت على أن يتخذ هذه الخطوة محاولة إقناعه بأن أسرتها قد تقبله عريسا لها، ومع اقتناعه بوجهة نظره وعدم قدرته على تحمل نفقات الزواج انصاع لطلبها واستجاب لرغبتها لعل وعسى أن تتحقق المعجزة، وهو يتمنى أن يفوز بها لكن كان الأمر الطبيعي والتصرف الذي سيفعله كل أب أن رفضه والدها وبشدة ولم يقبل الحديث في الموضوع من الأصل ولكنها أصرت علي الارتباط به حتى أقنعته وتزوجته بدون موافقة أهلها أو بالأحرى من وراء ظهورهم، مما جعلهم يستشيطون غيظا وغضبا وفي كل الأحوال جنت ما زرعت يداها فقد صدمت صدمة عمرها فذاقت معه الذل والهوان، فلم يقدر تضحياتها من أجله ووقوفها بجانبه، ولم تجد منه غير الصد والنكران بل أصبح يعيرها بموقفها وحوله إلى نقيصة حتى كرهت حياتها، وطلبت منه الطلاق وبعده وجدت نفسها بلا مأوى، أهلها رفضوا عودتها اليهم فأصبحت مشردة اضطرت للبحث عن عمل بعد أن خسرت كل شيء، وتأكدت أنها راهنت بشكل خاطئ وان كل حساباتها لم تكن عقلانية وانساقت وراء عواطفها.
بمرور الوقت شعرت بالراحة نحوها وتحدثت إليها وأخبرتها بظروفي ومحطات حياتي والوحدة القاتلة التي أعيش فيها الآن وعلمت بأني ثري، وامتلك الكثير من المال والعقارات، وبدأت ترمي شباكها حولي دون أن ادري فأنا بحاجة لمن يحتويني مثل الطفل الصغير، واستطاعت أن تقرأ كل ما في عيني حتى وقعت بالفعل في براثنها وشعرت هي بدهاء المرأة بأنني رغم الكبر وقعت في غرامها كنت مثل شاب تفضحني عيوني ولهفتي على رؤيتها كل يوم والحديث إليها واحيانا ألوم نفسي، وأنني يجب أن يمنعني الحياء والمشيب من هذه التصرفات، لكن عجزت ولم استطع المقاومة وغرقت في عشقها وعشت ما لم أعشه من تجارب في شبابي وطلبت منها الزواج فترددت متعللة بفارق المستوى الاجتماعي بيننا وأنا الذي كنت أتوهم أنها ربما ترفض لفارق السن، إلا أنها لم تعر ذلك اهتماما وفوجئت بموافقتها بلا تردد.
توالت مفاجآتها وأثبتت أنها تحبني لشخصي لا لمالي فقد رفضت أن أكتب لها مؤخرا كبيرا وأقنعتني بأنها في احتياج إلى حناني وقلبي لا إلى ثروتي وتزوجتها بعد أن وقف أبنائي كلهم ضد تلك الزيجة وحاولوا منعها بكل ما أوتوا من قوة لكن تقصيرهم نحوي كان يضعف موقفهم وإصراري كان أقوى من رفضهم.
عشت معها أجمل أيام حياتي ورغم ما قدمته لي زوجتي الراحلة ووقوفها بجانبي فإنني وجدت في هذه المرأة ما لم أجده عندها فتأكدت أن النساء مثل الزهور والفواكه لكل منها مذاق ولون ورائحة مختلفة لا تتشابه.
كانت رقيقة مثل النسمة حنونا مثل الأم كل ذلك ولا أدري أنها تعد شباكها وتلف خيوطها حول رقبتي لكي تستولي على أموالي التي كانت هي هدفها ولجأت إلى الدلال الأنثوي، واستخدمت كل الحيل لتجعلني أسيرا لها، وتحاول أن تقنعني بأنها لا تطمع في أموالي وتحبني لذاتي لذلك عندما طلبت مني أن أكتب لها إحدى البنايات باسمها لكي تقيم مشروعا، استجبت بلا تردد فهي تستحق أكثر من ذلك ونظرا لأنها نشيطة وذكية نجح مشروعها وسعدت بذلك فقد أعادتني إلى الماضي الذي وجدت نفسي فيه لكن هي التي تتحمل مسؤولية الإدارة واكتشفت أن لديها قدرة فائقة في هذا المجال.
طلبت زوجتي الصغيرة أن أحرر وكالة عامة مني لها لكي تستطيع أن تباشر مشروعها وتتعامل مع البنوك بسهولة من دون اللجوء إلى بحجة عدم إزعاجي بالإجراءات وأنا بحاجة إلى الراحة، وتحاول أن تقنعني بأن نجاحها في حياتها يرجع فضله لي، ولولا عطفي وحبي لها ما كان لها ذلك الذي تعيش فيه وهو يشبه الحلم الجميل توقفت أفكر فيما ترمي إليه حتى لو كانت نواياها حسنة فانه لا يجوز أن تطلب مثل هذا المطلب وقلبت الأمر على كل جوانبه فوجدته مرفوضا فأنهت الحوار وأظهرت كل أسلحة الأنثى الفتاكة لكنها لم تجد معي فمازال عندي بقية من عقل تمنعني من الانهيار أمامها فلست مراهقا كما تظن وواجهتها بالرفض التام. ظهرت على حقيقتها وطلبت الطلاق وعندما رفضت فوجئت بها تقيم دعوى لتخلعني وكان لها ما أرادت بالقانون وعدت إلى وحدتي ودموعي.