الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ادعاءاتي مع العنبري ومحفوظ

ادعاءاتي مع العنبري ومحفوظ
22 سبتمبر 2012
كنت ضمن البعثة الرسمية المغادرة أرض «الفريج» إلى «فريج» مجاور على ظهر الدراجات الهوائية. وأعتقد أن عدد لاعبينا لم يكن كافياً، فقرر إخواني مشاركتهم اللعب. ويبدو أن المباراة بين «الفريجين» أقيمت وانتهت من دون أن أشعر بها، فقد كنت طوال الوقت مشغولاً باللعب بالرمال والتمرّغ بها. بعد سنوات كنت قلب الدفاع لفريق «الفريج»، ثم تقدمت بضعة أمتار كلاعب وسط مدافع حاملاً لقب «بلّومي»، تيمناً بالأخضر بلّومي صانع الألعاب في منتخب الجزائر بكأس العالم 1982. ومع اقترابي من سن الشوارب، وجدت نفسي قائداً للفريق بعد اعتزال اللاعبين الكبار، الذين هم صغار في الحقيقة، لكن يترك الأولاد اللعب في «الفرجان» بعد التخرّج من الثانوية. ولوهلة شعرت بأنني أدفن موهبتي في الرمال مع مجموعة من الأغبياء الذين يلعبون الكرة بطريقة ملاحقتها أينما وُجدت، وأن مكاني الطبيعي على الحشيش، وبملابس رياضية، واللعب وفق خطط وتكتيكات، جنباً إلى جنب مع عدنان الطلياني وفهد خميس، فأنا أكثر من يحرز الأهداف، ويراوغ، ويوزّع، ويصنع الفارق، بل ما عدت أفرح بتشبيهي بـ«بلّومي»، وإنما بمارادونا، خصوصاً أنني كنت أشبهه طولاً وعرضاً. وجاءني يوم أحد الأولاد يعرض إقامة مباراة مع أولاد الطرف الآخر من «الفريج»، وقال وهو يفتح فم الذهول ويقطّب حاجبي التحذير: عبدالعزيز العنبري يلعب في صفوفهم، وكان العنبري يلعب آنذاك ضمن فريق الناشئين أو الشباب بنادي الشارقة، وأصبح فيما بعد لاعباً في المنتخب، فقلت وأنا أرفع كندورتي وأربط جزءها السفلي على خاصرتي استعداداً للعب: حتى لو كان الطلياني يلعب معهم فإنني أضمن الفوز عليهم. ولولا هوايتي في تمثيل دور المتواضع لقلت: أنت تقف أمام مارادونا يا ولد! في اليوم الموعود وصل الضيوف يتقدمهم العنبري، ولم أكن أعرفه شخصياً، وأصبح صديقاً حميماً ولا يزال، وقلت في نفسي وأنا أراقبه وهو يؤدي تمارين التسخين وينطط الكرة: الفرق بيني وبينك هو أن أهلي لم يكن لديهم بُعد نظر، فلم يسمحوا لي بالانضمام إلى الأندية، وسترى العجب العجاب عمّا قليل يا عنبري! بعد أقل من عشر دقائق من بداية المباراة، كانت النتيجة تسعة أو عشرة أهداف لصالحهم في مقابل نصف هجمة لصالحنا، وجميع الأهداف انطلقت كراتها من قدمي العنبري أو رأسه، وكان لا بد من التدخّل لنبدأ المباراة، فنحن في الحقيقة لم نلمس الكرة حتى تلك اللحظة، وكل الذي جرى من بين أقدامنا ومن فوق رؤوسنا، أن لاعبهم يمرر الكرة للعنبري، فيلمسها الأخير مرة أو مرتين ثم تهتز الشباك. أوقفت المباراة الوهمــية وقلت لهم: إما أن تستغنوا عن العنــبري أو عليكم مغـادرة ملعبنا فوراً، فلا يمكن أن نلعب ونحن مجرد هواة حفاة ضد فريق يضـم لاعباً «مال نادي». في هذا اليوم عرفت أن لا شيء أسهل من الكلام، وأن بالادعاء يمكن الفوز بالماراثون بخفي حنين، والصعود إلى القمر بزلاجة، وأنني لا أملك الموهبة التي تؤهلني لألعب في الأندية. وكل ما في الأمر أنني ألعب منذ سنوات في ملعب أعرف عدد حبات الرمل فيه، ومع الأولاد أنفسهم، وليس عجيباً أن أكون مميزاً بعض الشيء عليهم. بعد أن اعتزلت المباريات الدولية تحت إلحاح من زيادة وزني واتجاهي نحو الكتب، لأنه يمكن قراءتها مع الاحتفاظ بكل الوجبات، وتزامن ذلك مع بدايات تجاربي مع الكتابة، قررت فجأة كتابة رواية خالدة. كنت أقرأ رواية لنجيب محفوظ، فتوصلت بلا مقدمات إلى حقيقة أنني أستطيع كتابة رواية بالمستوى نفسه على أقل تقدير، ومن استطاع أن يكتب مقالاً، يستطيع إطالته ليصبح رواية. وكل المطلوب هو خلق شخصيات، ووضع بعض العبارات على لسانها، وتحريكها بعد ذلك ببعض الجمل: ارتشف الشاي وقال، فأومأ برأسه وأضاف، فقال بنبرة ساخرة، مع اللجوء إلى «فجأة» كلما تعقّدت الأحداث ولم أجد مخرجاً منطقياً لها: وفجأة سقط على الأرض ومات، وفجأة أخرج مسدسه وأمطره بوابل من الرصاص. والغريب أنني حتى تلك اللحظة كنت أعتقد أن كلمة «وابل» هي «بوابل». حملت قلمي ودفتري متجهاً إلى مقهى «الفيشاوي» مقابل فندق حياة ريجنسي بدبي. طلبت قهوتي من المعلم المصري وقلت في نفسي: لا أحد سيقدّر العمل الذي سأنجزه الآن إلا هذا الرجل، فهو بالتأكيد سمع بمواطنه محفوظ الذي كتب معظم رواياته في مقهى «الفيشاوي» بحي الأزهر، ولا بد أنه سيقول في نفسه وهو يراني منهمكاً في الكتابة: يبدو أنه محفوظ جديد. جاء المعلم بالكوب الأول، ثم الثاني، ثم الثالــث وأنا لا أزال أنظــر إلى البــياض أمامي. بقيت أكثر من ساعة أحدّق في الورقة البيضاء، وفجأة دفعت الحساب وخرجت من المقهى. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©