الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

رائحة الشتاء

9 يناير 2007 01:55
الكتابة وجماليات السود علي بن تميم (1) هل الكتابة تقوم على مسألة اللون ؟ وهل يمكن قراءة السواد في التعبيرات الثقافية؟ وهل الثقافة المحلية بريئة من لعبة الألوان؟ هذه الأسئلة مبررة عند قراءة شعر سعد جمعة، الذي يدوّن جسده ليخترع جماليات نصيّة تقاوم البياض الأسطوري المتحيّز، يفعل ذلك بالرغم من شعوره بأن الثقافة السائدة تأتي على النقيض منه، ويلمّح إلى ذلك قائلاً: كم أريد أن أكتب فقط/ ولا أجد سوى القلم/ قوياً بين أصابعي، وعلى الورق/ حيث هذا البياض مدعاة للقول· لماذا يتمنى قلماً قوياً وورقة بيضاء محفزة على القول؟ ألأن البياض والقلم مشتركان تاريخياً في إقصاء السواد عن جماليات الكتابة؟ يريد الشاعر قلماً يشعر معه بالقوة لا بالضعف، خاصة أن القلم نتاج ثقافة فحولية بيضاء، ولذلك يلمّح إلى أن البياض لا يمكن أن يكون محفزاً على القول، ولابد من مخاتلته من أجل دمجه في الجماليات السود· ويفعل ذلك عن طريق استخدام القلم ضد نفسه والورقة البيضاء ضد بياضها، فيجعل النص يقول أكثر مما ينوي أن يقوله؛ لأنه صمّم وابتكر ليعبر عن الثقافة البيضاء لا السوداء، وهذا ما يتحقق عن طريق استعمال القلم ليكتب حتى يظهر ما يحاول إخفاءه، ويخفي ما يحاول إظهاره، ويؤكد ذلك في عودته إلى لعبة الألوان هذه من جديد: ومازلت تكتب في الورق الأبيض حقيقة موتك/ ···/ لن أخبيء الجريمة في جيبي···/ وسأبقى أحمل أطناناً من الرماد· كيف تستطيع الورقة البيضاء الحيّة أن تحفظ شهادة الأسود الميّت؟ أو بمعنى آخر كيف يستطيع القاتل الأبيض أن ينقل شهادة المقتول؟ ويتجسّد اللون الأسود - في شعر جمعة - في الأشياء المادية ليقاوم بها شراسة الثقافة ووحشيتها، ويجسدها في الذئب: ··· الكرسي الأسود المحدّق دائماً في الذئب/ الذي مازال يطاردني··· وتتكرر هذه الميزة، فالسواد مجسد دائماً في الخارج، ليهمس بأن قارئه في صدد جماليات تعبرعن وضعية الأسود في السياق المحلي، ويقبض الشاعر على هذه الجماليات السود - أو كما يسميها رائحة العنبر - حينما يتخلى عن القلم: وبالمحار يكتب قصيدة لها رائحة العنبر· (2) تشير الأساطير إلى أن الأبيض خلق من طين مسّته النار على عجل، ولما طبخ الطين واسودّ خلق الزنجي· ويقاوم جمعة الأسطورة هذه بأسطورة أخرى، لينقل النار من كونها سبباً في مأساته إلى رمز للفداء والتضحية، فيستخدم الأسطورة ضد نفسها، تماماً مثلما يستعمل القلم ضد نفسه، وكأنه يلمّح إلى أن الطين الأسود أكسب الأبيض إنسانيته وجعل وجوده مبرراً، ولذلك فهو ضحّى من أجل الإنسان· والأسود في شعره باستمرار يرقص في النار، مشبّهاً نفسه بإبراهيم - عليه السلام -: وحيد أنا إبراهيم النار/ فاشعلي وجهك الزنجي/ دقي الطبول وانفلتي··· ويشير شعره إلى أسطورة خلق الأسود والأبيض، ويربط بين مترادفين، النار بوصفها ربيبة له، وسواده الذي يصير مثل رائحة العنبر أوحتى مثل نسيم الليل: النار ربيبتي/ وسوادي يصير نسيم الليل··· ويبدو أن التضحية مرتبطة بالزنجي في قصيدة ''حديقة في الروح''، ووحده يشعر بكلّ الأشياء في حين لا يشعر به أحد، ووحده يشعر بكل الأقليات المضطهدة عن طريق الأبوة مثل النساء والأطفال، وهو لامتناه كالشارع يسير إلى ما لانهاية، فتتحول الأرض كلها إلى سواد· وأعتقد أن قصيدة ''حتى لو قتل نفسه···'' من أهم القصائد التي تعتمد على لعبة الألوان، وتحكي القصيدة - بشيء من التأويل - حكاية راو يحلم وهو يجلس أمام المرآة، ليكتشف أن وجوده تمثيل متخيل لا أكثر، فيهشّم المرآة مصدر التمثيلات، ثم يكتشف أن النتاجات في البيت من صنع التمثيلات المضلّلة هذه، فيهشمها كلّها، والأشياء هنا رمز للتاريخ المصطنع المتحيّز للبياض، فيدمّرها الراوي للوصول إلى وجود بريء من السرد التاريخي المضلل، ولهذا الغرض يلجأ إلى سفر التكوين في العهد القديم حتى يدعم هذه الحكاية؛ لأن البدء كان سواداً وظلمة، ولم يكن للبياض وجود· ويتخيل علاقة بريئة تربطه بالمرأة، لكنه عندما يفتح عينيه ينتهي كل شيء، فيعود إلى واقعه· والمرأة ترد في مجمل شعره وقد نجت من لعبة الألوان هذه، وكأنها وجدت قبل التمثيلات المتحيّزة· على قارئ سعد جمعة أن يدخل إلى شعره من منظور دراسات السود، وشعره يسعى إلى تخليص الألوان من ثقافتها المتحيزة عن طريق تحويل الأسود إلى جوهر ثمين، وردّ الأبيض إلى وجوده اللاتاريخي، محرراً من السردية اللاإنسانية: هناك/ في المكان الذي لا يمسّه إلا الأنبياء/ نسجنا قماشاً أبيض··· ستحررينه/ وتدثرين به البلاد وتقفزين· ü النصوص الواردة في النص من ديوانيه: الراقص ودون مرآة ولا قفص ali@althaker.net
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©