الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اسطنبول تلامس مفردات العيش وتجمع تناقضات الطبيعة

اسطنبول تلامس مفردات العيش وتجمع تناقضات الطبيعة
4 أكتوبر 2011 21:29
مع زرقة البوسفور في يوم صيفي مشمس يتمايل بنا المركب السياحي ضمن مشهد واحد لا يتغير مع أننا نعبر المضيق بين قارتين. من آسيا إلى أوروبا انسيابية تعكسها المياه عند الجسور المعلقة، وعند معالم هذه المدينة المتصابية التي تتلألأ على صفحات من قصور ومتاحف وقلاع وحصون. واسطنبول التي يتراكم على تلالها التاريخ والحضارات، تكشف من قريب ومن بعيد ذلك القرميد الأحمر المنتشر بغزارة، وتلك المنارات الشاهقة التي تضيء ألف مئذنة. زيارتنا إلى اسطنبول لم تدم لأكثر من يومين، كانت استراحة استثنائية عبرنا من خلالها المحيط إلى محطة أخرى من مطار “أتاتورك” الذي لا تهدأ فيه حركة الطيران من الشرق والغرب وإليهما. ومع أن الرحلة قصيرة، غير أن البرنامج كان غنيا بالمعالم الثقافية التي حولت الوقت إلى قيمة من المعارف لا يكفي أن نقرأ عنها في كتب إنجازات السلاطين وأمجاد حكم الدولة العثمانية. وهذا ما يبرر أعداد الباصات السياحية التي لمحناها بكثرة عند تقاطع الطرق وتفرعات الأزقة، حيث يدخل الازدحام المروري في رسمها في الليل كما في النهار. عقد ماسي هذه المدينة الصاخبة التي تسكنها أكشاك الباعة ودعسات المارة التي لا تفرق بين الأرصفة ومنتصف الشوارع، تلامس مفردات العيش والإقامة المثيرة بجمعها للتناقضات. حيوية تضخ في النفس الفضول للنظر في أكثر من اتجاه لعل العين تسبق الشرح في تظهير ألبوم الانطباعات عن مدينة استلهمت الأدباء لنشر روايات الفكر والفلسفة. هي مدينة لا تشيخ بفضل روحها الضاجة بحب الحياة والإصرار على التجدد بالرغم من تجاعيد الزمن التي تكسبها سر نكهتها، مما يجعلها تتصدر أفضل المقاصد السياحية عند جناحيها الآسيوي والأوروبي. واللذان يحمل كل منهما قائمة من الروائع الجغرافية التي حطت عندها الحقبات الزمنية وحفرت بمزاج عال ملامح طبيعة نضرة تسترخي ما بين “البحر الأسود” وبحر “مرمرة”، وتتفيأ ظلال الأغصان المعمرة. أول مشهد يعلق في بال كل من يزور اسطنبول للمرة الأولى، هي تلك المراكب والسفن السياحية التي تبدو من نافذة الطائرة أثناء الهبوط، وكأنها سرب طيور يرفرف من الفضاء في أكثر من اتجاه. لوحة معبرة عما كان في انتظارنا خلال برنامج اليوم الأول الذي قضينا الجزء الأكبر منه عند واجهة “البوسفور”. وما هي إلا بضع ساعات من وصولنا إلى اليابسة حتى دخلنا ضمن هذا المشهد المائي الذي لولاه لما تمكنّا من الغوص في أعماق المدينة المطرزة بالتصاميم المعمارية، والتي قرأنا عناوينها من مقلبها الآخر. ومع أننا كنا نركض لنلحق بالمركب الذي كان يهم بالرحيل معلنا صفارات الانطلاق، غير أننا لم نقاوم تلك القبعات التي لمحناها على الرصيف. وانتهى بنا الأمر بشراء واحدة واعتمارها مع التقاط أول صورة تذكارية أشبعت بداخلنا شعور السياحة في ربوع اسطنبول. ذاكرة المكان بينما كان الدليل السياحي جوناي جوك يتحدث عن سيرة كل صرح من المباني المطلة على “البوسفور” والتي تشبه بتوهجها حبات من عقد ماسي يلتف حول عنق اسطنبول، كان نظرنا ينجذب ناحية التفاصيل الجمالية. فالبيوت هناك مبنية على حافة المضيق بما يطرح التساؤلات عن القدرة المعمارية التي سهلت الأمر، مع أن بناءها يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر. ومما يذكره جوك أن هذه المساكن التي نسجت علاقة عشق مع ذاكرة المكان وقصص الأثرياء التي ترجمت واقعها المسلسلات التركية، يمتلكها علية القوم في أرجاء البلاد. وهي تشكل بالنسبة لهم مقرا صيفيا يزورونه هربا من ضجيج الشوارع وأبواق سيارات الأجرة التي تتهافت على الركاب من العرب والأجانب. يقول: “إن المشهد الخلفي لمدينة اسطنبول يروي جوانب مثيرة من فنون العمارة فيها والتي صمدت في وجه مختلف الحقبات الزمنية. وأهمها بعض القصور التاريخية والوزارات التي تحولت إلى مرافق سياحية من الطراز الأول، ومازالت حتى يومنا مطلية بالرخام الآسر من الداخل وبالزخارف السابقة لعصرها من الخارج”. عبرنا من الضفة الأوروبية إلى الضفة الآسيوية، ومن هناك أقلنا “الباص” إلى أعلى نقطة فيها يطلق عليها اسم “تل العرائس”. وعلى طول الطريق المكتظ بالوفود السياحية، كان الدليل جوناي جوك يشرح قصة هذا الموقع الذي مازال حتى اليوم يدخل ضمن معتقدات الأتراك بأن زيارته تحقق أحلام المقبلين على الزواج. ومع أننا لسنا من الفئة المذكورة، غير أن الفضول دفعنا أكثر إلى اكتشاف هذه البقعة المطلة على أوسع بساط من طبيعة اسطنبول بتضاريسها التي تجمع بين مائها وسمائها في أجمل لقطة. انتشرنا في الباحة المفتوحة على الهواء الطلق، وذبنا وسط مئات السياح، حيث تذوقنا ألذ “بوظة” تركية “مدقوقة” على اليد بنكهة “القشطة” المغطاة بالفستق الحلبي. ?تحف متناثرة التجهيز لليوم الثاني من الرحلة استدعى ارتداء ثياب خفيفة وانتعال أحذية مريحة ونظارات شمسية وقبعات. فالجولة طويلة كما تشرح مديرة العلاقات العامة في فندق “ريتز كارلتون” اسطنبول ياسمين أويجورمين. ومع أن العنوان المقصود واحد، غير أن التعرف إلى مختلف أجزائه يستغرق أياما. إنها منطقة “السلطان أحمد” التي تضم سلسلة من المواقع التي دخلت بأهميتها ضمن إعجاز فنون العمارة الإنسانية. ولأن غايتنا جمع أكبر قدر من الصور الوجدانية عن كل حجر يخفي وراءه معلقة من الأحداث، كان نظرنا يسبق خطواتنا بالتنقل بين التحف الهندسية المتناثرة في كل اتجاه. المحطة الأولى كانت عند الجامع الذي شيده السطان العثماني أحمد الأول أثناء حكمه ما بين عامي 1609 و1616. وهذا الصرح الديني الذي مازالت الصلوات تؤدى فيه، يعرف كذلك باسم “المسجد الأزرق” المتمثل بزرقة المرمر الذي يطغى على أسقفه وجدرانه. وتخبرنا أويجورمين “أن السياح يتوافدون على زيارة هذا المعلم الحضاري من كافة أنحاء العالم لمشاهدة نماذج فريدة من روعة الهندسة التقليدية وسحر التصاميم التي لم يتمكن العلم الحديث من فك كافة رموزها بعد”. وهنا تقليد شائع يفرضه الموقف بضرورة خلع الحذاء ووضع أغطية الرأس المتوفرة باللون الأزرق عند مدخل المسجد، والتي يلتزم بها الأجانب كما العرب والمسلمون، في مشهد يحوط به الخشوع والانبهار في آن. قاعات تتدلى منها ثريات مازالت على حالها منذ مئات السنين، وتزينها مخطوطات قرآنية أخذنا نراقب علامات العقود الزمنية التي لم تفقدها رونقها ولا وضوحها. ?عشرات الصور التقطناها لمآذن المسجد الست ولقناطره الشامخة خلال عبورنا للحديقة الخارجية التي تتوسطها نافورة غزيرة تحولت مع السنين إلى علامة تقسم المسافة ما بين “المسجد الأزرق” و”متحف آيا صوفيا”. وفي أقل من 5 دقائق من المشي على درب شهد دعسات رجالات الحضارات المتعاقبة، وصلنا إلى البوابة التاريخية التي تبث هالة من الرهبة بمجرد النظر إليها. أسطورة البناء من مدونات التاريخ التركي تروي ياسمين أويجورمين أن بناء “آيا صوفيا” الأسطورة شيد عام 532 ليكون كاتدرائية، حيث استغرق بناؤه 5 سنوات، وبقي على حاله على مدار 916 سنة، تحول بعدها بفعل الفتوحات الإسلامية وعلى يد السلطان محمد الفاتح إلى مسجد لمدة 481 سنة. وذلك بعدما أضيفت إليه 4 مآذن إسطوانية الشكل ذات قمة مخروطية، زادته إبهارا وعظمة. وتتابع أن هذا الصرح التاريخي العريق أعلنه أتاتورك متحفا منذ عام 1935 بعد تصنيفه من أهم التحف المعمارية في التاريخ على الإطلاق. “وهو يعتبر من أبرز الأمثلة على العمارة البيزنطية المبكرة المتأثرة بتقاليد البناء الروماني والزخرفة العثمانية التي تظهر بأبهى لقطاتها مع بصمات شرقية، من على القبة الداخلية لهذا المعلم الإنساني الفريد. شعرنا وسط هذا العالم الهندسي وكأننا نعبر كتاب التاريخ من الباب الواسع. أطلنا النظر إلى أعلى، حيث أعمال النحت والزخارف البارزة، وأمعنا التأمل في حبيبات الفسيفساء التي تسترق خيوط النور من الزجاج المعمر. ولم يأخذنا من متابعة هذه اللقطات الحية، إلا ذلك الدرج الذي يشق طريقه من على جانب الفناء، والذي أخذتنا مستوياته قليلة الارتفاع إلى الطابق العلوي. وتوضح أويجورمين أن هذا الجزء من مركز العبادة سابقا كان مخصصا للسيدات، وقد أضيفت إليه لاحقا مجموعة من الحجرات الخاصة برجال الدين وبخدمة أغراض الصلاة. نتابع جولتنا في هذا المحيط الذي تسيطر عليه رهبة الماضي بعظمة أدائه، ونصل إلى ما لا يمكن تخيله في هذا المكان. قاعة للسينما تعرض مقطعاً من فيلم “1001 inventions” الذي يتكلم عن حضارة المسلمين وإسهامهم في اكتشاف مختلف العلوم. أكثر ما أعجبنا هناك نظرة الشغف التي لمحناها في أعين السياح الأجانب وهم يتابعون أول محاولة للطيران قام بها الرحالة “ابن بطوطة” بعد رسمه لخريطة العالم، وإنجازات أمة الإسلام في وضع مبادئ الساعات وحساب الوقت. ?أروقة مرت ساعات لم ننتبه خلالها إلى الوقت، وكان مازال أمامنا عبور الطرف الآخر من الحديقة لولوج حرم قصر “توب كاي”. هو المعلم الثالث في منطقة “السلطان أحمد” والذي لا تكتمل الرحلة المثيرة من دون التنزه ولو في جزء من أروقته. فالقصر الذي يمتد على مساحة 700 ألف متر مربع ويحاط بـ”سور سلطاني”، تم الانتهاء من بناء المرحلة الأولى منه عام 1479. وقفنا وسط باحته الفسيحة واخترنا الدخول عشوائيا إلى عدد من غرفه التي تحولت إلى صالات عرض تكشف روائع من التحف الإنسانية التي تعود إلى مختلف العصور والحضارات. وما أن انتهينا من الجولة لناحية اليمين، حتى محنا عن اليسار تجمعا غير عادي للسياح. فدفعنا الفضول إلى تجاوز صف الانتظار للتمكن من الدخول. وهناك شاهدنا عرضا لمقتنيات يقال إنها تعود للأنبياء وإن الدولة العثمانية حفظتها بعدما وضعت اليد عليها. ومن هناك قادنا صوت أحد المقرئين يتلو آيات من القرآن، فدخلنا بصعوبة إلى القاعة بسبب شدة الازدحام، حيث يقرأ القرآن من دون توقف وعلى مدار الساعة منذ عهد الدولة العثمانية ويتناوب على التلاوة المباشرة 4 قراء. ?نهاية الجولة العابقة بالأحداث اختتمناها في أقدم مطعم في اسطنبول اسمه”كونيالي” يقع على كتف قصر “توب كاي” ويكشف إطلالة بانورامية على مضيق “البوسفور” من جهة وبحر “مرمرة” من الجهة الأخرى. هناك تذوقنا أصنافا تقليدية تحضرها ربات البيوت التركيات. كان أشهاها طبق “الشاورما” التي تتساقط منه شرائح اللحم الساخن لتذوب داخل لفائف الخبز الأقوى من أن يقاوم. ? إطلالة من فندق “الريتز- كارلتون” اسطنبول الذي يقع على تلة تكشف أجمل إطلالة على البوسفور، من السهل التوجه مشيا على الأقدام إلى شارع التسوق الأشهر في اسطنبول المعروف باسم “التكسيم” والذي يتضمن كل ما يمكن للسائح أن يشتهيه. وعلى الطريق التي تنتهي بساحة عريضة تتفرع منها الأسواق، لابد من تذوق كل ما يباع في الأكشاك المتحركة التي تحضر الكستناء المشوية والذرة المسلوقة وكعك “السميط”. تسوق عشاق التسوق وحتى من لا يستهوون فكرة المشي لساعات بقصد التبضع، ننصحهم بزيارة “لو جراند بازار” الذي يضم أكثر من 200 ألف متجر. وبين جنبات السوق المجموع ضمن أزقة متشعبة، تتوزع “بازارات” التوابل والفضيات والمجوهرات، وكذلك التحف والأثريات المنحوتة يدويا، و”بازارات” الملابس والجلديات. ولحسن حظنا أن هذا السوق التراثي لا يغلق أبوابه إلا بعد منتصف الليل، إذ تمكنا من الانتشار في متاهاته التي تحافظ على نمطها منذ مئات السنين. حتى أنه يصعب على أهل المدينة تحديد الفترة التي شيد فيها. وبدورنا لم نكترس بالتدقيق في الأمر بعدما شارفت المتاجر على إقفال أبوابها.
المصدر: اسطنبول
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©