الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تلفزيون الواقع بين سلطة الابتذال والمعاني الإنسانية والحضارية

تلفزيون الواقع بين سلطة الابتذال والمعاني الإنسانية والحضارية
24 سبتمبر 2012
عندما بدأت أفكاره الأولى رفضت القنوات «تلفزيون الواقع»، ولم يأخذه أحد على محمل الجد، حتى بعدما استقطب الملايين بقيت الشكوك حوله تتزايد، ومع ذلك فإن برامج مثل «ستار أكاديمي» أو «الشقيق الأكبر» ما زالت تسجل نجاحات تتمناها معظم المسلسلات الرومانسية والخيالية والمغامرات التقليدية. وبمناسبة مرور 12 عاما على بداية تلفزيون الواقع كتب جيوم فريسار في صحيفة «لوموند» أن هذا النوع من البرامج طبع المشهد المرئي- المسموع العالمي، ولم يعد هناك ولا شبكة واحدة بما فيها المملوكة للدولة أو الحكومية إلا وتعرض تلفزيون الواقع، سواء تعلق الأمر بفئة المغامرات أو مسابقات الأغاني أو الطبخ. أبوظبي (الاتحاد)-استطاع تلفزيون الواقع، الذي منح المشاهدين سلطة التصويت لتحويل مجهولين إلى نجوم، تغيير طريقة صناعة المحتويات التلفزيونية بشكل عميق. كما أنه راح يغذي بشكل أو آخر معظم البرامج التلفزيونية التي نستهلكها يوميا بما في ذلك الخيالي والوثائقي. لعبة الحمقى في مجلة «سبيشال انفستيجايشن» (الاستقصاء المميز) قام جريجوري هيرود برسم قصة ولادة تلفزيون الواقع الذي نال شعبية واسعة وانتقادا كذلك. ومن خلال تحقيق مبني على شهادات المسؤولين والمديرين الرئيسيين للشبكات التلفزيونية الفرنسية، وأعاد هذا الكاتب إلى الأذهان لحظات نشوء وتداعيات هذا النوع المرئي-المسموع، متوقفا بفرح عند الجزء الخاص من «طريقة غش البوكر»، التي انغمست فيها اثنتان من أهم القنوات هما قناة فرنسا الأولى (تي أف 1)، و»أم 6» خلال العام 2000 حتى تكونا في مقدمة مستوردي تلفزيون الواقع إلى فرنسا. قبيل ذلك بقليل كان كل شيء بدأ في بريطانيا العظمى في منتصف تسعينيات القرن الماضي حين تخيل المنتج شارلي بارسونس لعبة «البقاء» (سورفايف)، حيث المرشحون يتواجدون على جزيرة مهجورة لبضعة أسابيع بحضرة الكاميرات. ولكن تم رفض المسلسل من قبل العديد من المحطات فاتجه أصحابه أخيرا إلى التلفزيون السويدي العمومي في العام 1997 قبل أن يتم تبني البرنامج في كل الدول بعد بضعة سنوات لاحقاً. وفي الوقت نفسه، قامت شركة الإنتاج الهولندية «انديمول» باستلهام رواية «1984» لمؤلفها جورج أورويل لابتكار برنامج»بيج براذير» (الشقيق الأكبر)، الذي يضع المشاركين في منزل مقفل ويدعو المشاهد لمتابعة حياتهم وسهراتهم. وانطلق هذا البرنامج عام 1999 في عدة دول. صادفت «اللعبة» في البداية حظا سيئاً. في فرنسا وصفت بأنها «نفايات تلفزيوينة». وفي العام 2000 رأى فيها اتيان موجيوات، رئيس البرامج في قناة فرنسا الأولى «مسرَحةَ للحياة الخاصة»، وزعم أنها ليست من ذلك النوع الذي «نتوجه له ونشاهده». وهكذا توافقت المحطات الفرنسية على رفض برنامج «الشقيق الأكبر» الذي بات يعرف في بلداننا بستار أكاديمي. ولكن النقد والتسخيف كان يخفي شيئا آخر. ففي الكواليس كانت «لعبة الحمقى»، وهذه أحد توصيفاتها آنذاك، تجري على قدم وساق. فقد استولت قناة فرنسا الأولى بالسر على «النسخة الفرنسية من الشقيق الأكبر(كوه-لانتا) غفلة عن قناة «أم 6»، التي طلبت سرا من الشركة الهولندية نسخة معدلة من البرنامج الذي أطلقته في العام 2001 باسم «لوفت ستوري» (قصة الدور العلوي)ـ الذي تخلله مشهد حب في المسبح (بين جون-ادوارد وليونا) وهما من المشاركين اللذين أصبحا من المشاهير، وأصبح هذا المشهد علامة فارقة طبعت انطلاقة تلفزيون الواقع في فرنسا. وفي رأي كتبه في صحيفة لوموند في 11 مايو 2001 تظاهر باتريك لولاي، الذي كان رئيس مجلس الإدارة التنفيذي لقناة فرنسا الأولى، بالاستياء من تلفزيون الواقع، لكنه أمّن تمويلا في الوقت نفسه بمبلغ 500 مليون يورو لشراء حقوق جميع برامج تلفزيون الواقع المستقبلية التي تنتجها الشركة الهولندية. شكوك ولكن هذا النجاح لتلفزيون الواقع في انطلاقته لم يحل دون العديد من الشكوك والسخرية أحياناً، ودون أن تنال هذه السخرية من شعبيته لدى العديد من شرائح المشاهدين الذين يعدون بالملايين أو في مراحله الأولى على الأقل، فقد كانت هناك العديد من الآراء العلمية المتخصصة التي أخضعت هذا المولود الجديد في عالم التلفزيون إلى التحليل والنقد العميق. وفي استطلاع مع أساتذة أكاديميين أجراه سيرج بيوشر، ونشرته مجلة «أكتويال» الصادرة عن جامعة «لافال» الكندية في مقاطعة كوببك الفرنسية، يصف الكاتب مشهد الملايين الثلاثة من الأشخاص (أي نصف سكان كوبيك) وهم يقفون أمام شاشة التلفزيون في مساء يوم أحد لمشاهدة الشباب المجهولين في ستار أكاديمي، وهو يتحولون لنجوم في عالم الغناء، ولا ينسى مشهد المليون والنصف الآخرين لبرنامج «لوفت ستوري». ويستند الكاتب إلى أربعة أساتذة من اختصاصات متنوعة، ليقول في وصف هذا النوع من التلفزيون «ملازمة لاقط الصوت والكاميرا المتطوعين 24/24 ساعة هو كذبة»، معتبرا أن كليشيه «الواقع» التي تعلق على مثل هذه البرامج مسألة قابلة للنقاش، ولكن ما «لا يمكن نقاشه هو ما تؤدي إليه من قوة أو نفوذ للصورة والجذب غير العادي للناس». وبهذا الشأن قالت استيل ليبل، الأستاذة في قسم الإعلام والاتصال في جامعة لافال، إن الكذبة تأتي من أن هذه الحلقات المسلسلة فيها من الخيال بقدر ما فيها من الواقع، خلافا للقول إنها حقيقة بالكامل حيث «يقال للمشاهدين بأنهم سيرون واقعا ولكن يقدمون لهم حلقات مبنية جيدا وتم إخراجها وحيث كان المشاركون- الممثلون (ذوي الجمال والشباب) تلقوا تدريبا بحد أدنى على الأقل للتمثيل أمام الكاميرا». وبدورها، اعتبرت ماجريت لافاليه، الأستاذة في كلية علم النفس، أنه «حتى لو لم يكن هناك عملية إخراجية فإن ذلك يبقى كذبة. ففي اللحظة التي توضع فيها وسائط لا تعود الأشياء واقعية. فالشخص الذي يحك أنفه أمام الكاميرا وهو يعلم أن هناك من يراقبه ويحكم عليه، سوف يغير طريقة حك أنفه عندما يكون وحيدا أو لا يكون أمام كاميرا. إذا قبل البعض عرض حياتهم الخاصة والحميمة أمام العموم يصبح ذلك فعلاً اجتماعيا. والفعل الاجتماعي الذي نقدمه كأنه حياة خاصة هو إغراء». من ناحيته، قال جان-جاك سيمار، الأستاذ في علم الاجتماع، «عند جعل الناس يعتقدون أن بوسع الجميع الحصول على 15 دقيقة من المجد، وأن الجميع يمكن أن يأمل بالظهور في التلفزيون ويصبح مشهورا هذا بالتأكيد خطأ بالمطلق». بل إنه يقدم صورة كاريكاتورية للتدليل على استحالة ذلك بقوله إن «احتمال أن يصبح المرء قديسا في العصور الوسطى كان أكبر من احتمال أن يظهر في التلفزيون اليوم. إذن الأمر يخلق انتظارات وأحلام عبثية ومستحيل تلبيتها. حتى الذين يشتركون في الحلقات يعودون سريعا إلى العتمة والظل بعد شهرتهم العابرة». علاقة ارتباطية يعتقد سيمار أن الازدهار الاقتصادي في خمسينيات القرن الماضي هو الذي مهد الساحة لهذا النوع من الأحلام، واعتبار أنه يمكن للجميع تحقيق النجاح عبر العمل الشاق، وأن الشهرة بمتناول كل واحد ولا يحول دونها سوى خطوة واحدة، وبعدما أدخل التلفزيون النجوم وأسرارهم إلى غرفة جلوسنا وحياتنا الخاصة في القرن الماضي تعزز الاعتقاد بأن الظهور في التلفزيون هو تلك الخطوة التي يتوجب اجتيازها نحو الشهرة. بل أصبح الظهور على التلفزيون ضمانة الشهرة. وشيئا فشيئا ترسخت فكرة أن تظهر على التلفزيون يعني أنك موجود. تذهب ليبل في نفس الاتجاه إنما أبعد من ذلك، حيث ترى أن الصورة اتخذت أهمية كبرى منذ نشوء التلفزيون حيث أنها أعطت هوية للفرد «إذا لم يكن لديك صورة فأنت لست شيئاً»، ومن هنا رغبة هذا الكم الكبير من الناس الذين يريدون تقديم صورتهم على التلفزيون على حساب جزء من خصوصيتهم وحتى بتقديم تنازلات غير مسبوقة أحياناً. ويلحظ برنارد اركاند، أستاذ مادة الأنتروبولوجيا، بعداً آخر وهو أن الجميع يميلون لحب الاستعراض، «وبالتالي كلنا نريد كشف أشياء عن أنفسنا ونحب أن يسمعنا العالم أجمع. الاستعراضية هي شرط إنساني. وحده الاحتشام يحدد أين يضع كل واحد حواجزه». ثم تزيد ليبل جانباً آخر «بالنسبة لمن يشاهدونها، تسمح برامج تلفزيون الواقع بتلبية الحاجات الاجتماعية التي لم يعد أحد يغطيها في مجتمع قائم على العزلة والفردية. إنها تخرج وتظهر لنا أشخاصاً فرض عليهم التواجد سوياً والتحدث فيما بينهم ومواجهة اختبارات مع الآخرين، ومواجهة ظروف حيث يمكن للمشاهدين التعرف على رغباتهم الخاصة وانشغالاتهم. وبدون الحديث عن علاقات الإغراء الحاضرة كليا في تلفزيون الواقع! وإضافة إلى ذلك فإن المشاهدين لديهم الانطباع أنهم يمسكون بسلطة ما لتحديد مصير المشاركين من خلال التصويت لتجنب خروج المفضلين لديهم من المسابقة. يفسر ذلك في جانب مهم هوس التصويت أحيانا رغم كلفة الاتصال والرسائل. ويشير برنار اركاند إلى نقطة حضارية-مدنية عامة. يقول إن «غفلة المدينة سمحت لنا بالنظر إلى الآخر بدون تبعات، وهذا ليس الحال في مجتمع يتعارف فيه الجميع، ولهذا فإن رغبة الدخول في الحياة الحميمة للآخرين هي رغبة قديمة قدم العالم. في الوقت نفسه نحن نعيش في عالم حيث لدينا انطباع بأن كل شيء حولنا هو منظر. هذا يولد لدينا حاجة مشاهدة الشيء الحقيقي والأصلي. وبرامج تلفزيون الواقع توحي لنا بأننا نشاهد هذا الشيء. إن ذلك جانب إيجابي يفسر هوس مشاهدة الآخرين» (أو التلصص عليهم). لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن ذلك ليس إلا حلا مبسطا للغاية، لأنه يترك الكاميرا في حضرة أشخاص تنتظر ما يمكن أن ينتج عنهم وتنقله للمشاهدين، في حين أن فيلما روائياً يمكن أن يكثف في ساعتين كل جوهر الدراما الإنسانية». جان- جاك سيمار يدين هذا التبسيط بشكل أقوى. ويقول «هذا ابتذال، إنه نوع من المسرح الرخيص بالمعنى الاقتصادي والجمالي». فالواقع بنظره أكثر تعقيدا من العلاقات الشخصية المبسطة للغاية التي تظهرها برامج تلفزيون الواقع. موارد إعلانية استقطبت برامج تلفزيون الواقع عشرات ملايين المشاهدين وموارد إعلانية هائلة. إلا أن استيل ليبل، الأستاذة في قسم الإعلام والاتصال في جامعة لافال، قالت إن هذا النجاح يعود في جزء مهم منه إلى الحملات الدعائية الهائلة التي تسوق لهذه البرامج من خلال وسائل الإعلام المختلفة والتي تعود كلها إلى «نفس المالك». وهي على ثقة بأن هذه البرامج لا يمكن أن تحل مكان المسلسلات التمثيلية. أما ماجريت لافاليه، الأستاذة في كلية علم النفس فتعتقد أن على برامج تلفزيون الواقع كي تستمر الذهاب بعيدا أكثر فأكثر في كشف الحميمية، وإلا فالناس سيشعرون بالملل. ولكن لا أحد يمكن أن يتوقع الحدود التي يمكن الوصول إليها في أظهار خصوصيات الآخرين، وإن غلب ترجيح وتوافق بأن تلفزيون الواقع يمثل «مشروعا تجاريا مزدهرا يؤتي كثيرا من المال بسبب استغلال سذاجة الناس». على حد تعبير ليبل. وإذا اعتمدنا هذا الرأي فإن تلفزيون الواقع مستمر حتى إشعار يتحدد عندما يتوقف هذا النبع من المال أو عندما يجد القائمون عليه خيارا أفضل وأكثر ربحية. الأكيد هو أن تلفزيون الواقع لا يمكن أن يكون أكثر من جرعة ولا يسعه إلا احتلال حيز من الشاشة، مهما كبرت فإنها لا تلغي أهمية الأنواع التلفزيونية التقليدية الأخرى بل تعززها أحياناً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©