الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نبويّة لا تكنس برّ الخوانيج

نبويّة لا تكنس برّ الخوانيج
25 يناير 2013 20:40
هذا هو الشتاء السادس الذي نحتلّ فيه بقعة محددة من برّ الخوانيج بدبي لا تتجاوز مساحة ملعب كرة طائرة، ويفترض أننا نجلس الآن بين القاذورات، فجلسة واحدة في الأحوال «العادية» تجعل المكان ملغماً بعلب الكولا وأكياس النايلون، وأحياناً الكراسي المهترئة و«المناقل» الصدئة، ومن ثم، لا أحد عاقل في الإمارات يجلس في المكان نفسه مرتين. لكننا جلسنا، ونجلس، في المكان نفسه، كما توضح العملية الحسابية التالية: «24 يوم خميس في كل سنة × 6 سنوات = 144 جلسة»، ولنحو 7 ساعات في كل مرة.. فكيف وصل عشرة أشخاص إلى هذا المستوى من الاهتمام بالنظافة والوعي بالبيئة؟ كنا قبل ست سنوات من «الموسّخين» الكبار، نصعد سياراتنا بحذر لئلا يدخل إليها شيء من مخلفاتنا الملقاة في كل مكان، وأحياناً كنا «نتخلّص» منها بحرقها، ومثلنا مثل غيرنا، المهم أن تكون بيوتنا وسياراتنا نظيفة، و»مال عمّك ما يهمّك». وذات مرة خرجت في رحلة بريّة مع شخص ناضج بيئياً، وكان أول ما فعله أن استخرج كيس نفايات من سيارته ووضعه أمامي. في صباح اليوم التالي وأثناء المغادرة، «هزّقني» الناشط البيئي وسحب الكيس مني حين رأى علبة الكبريت في يدي، فالحرق يُكمش المخلفات لكنه لا يمحوها، بل وصفني بالمجرم البيئي، فعدا عن بقاء تلك المخلفات، فإن الدخان المتصاعد منها ينتج عدداً كبيراً من المكوّنات الغازية السامّة والمسبّبة لأمراض السرطان ولظاهرة الاحتباس الحراري. ثم تركنا المكان من دون أن نترك دليلاً على وجودنا، وكأنها رحلة الجريمة الكاملة، سوى القليل من الفحم وآثار الإطارات. عرفت منه أن هناك مواد صديقة للبيئة لا يضر تركها لتأكلها دواب الأرض وحشراتها أو تتحلل بيئياً، كبقايا الطعام والفحم، ومواد أقل صداقة، كالكراتين والأكواب والصحون الورقية التي تتحلل بعد فترة قصيرة. وهناك مواد عدوّة للبيئة، تسمى علمياً المواد الثقيلة، كالبلاستيك والنايلون والألمنيوم، لا تقترب منها الحشرات والبهائم، وحتى في حالة طمرها تحت الرمال أو إلقائها في المحيطات، فإن البكتيريا والإنزيمات العادية، بجلالة قدرها، لا تستطيع أن تحللها، ومن ثم لا تتحلل إلا بعد نصف قرن تقريباً، وإن تحللت، فإنها تتحول إلى سموم، خصوصاً البلاستيك الذي يُعدّ من أكثر المواد المعروفة بطول الحياة، وهناك مواد أقلّ عداوة، تسمى الخفيفة، كالزجاج الذي يتحلّل بيئياً لكن ببطء. وأكد الناشط البيئي أن هذه النفايات البلاستيكية تُعدّ خطراً على الصحة العامة وعلى الثروة السمكية، وعلى حياة المواشي، وتسبب في نفوق الحيوانات البرية، كالجمال، إذ يبلعها الجمل ثم تتحجر في معدته وينفق، وبعض الأبحاث تؤكد أن الأكياس سبب في نفوق جمل من كل اثنين، أي 50 بالمئة من الجمال النافقة في الإمارات. ويقال إن الطيور البحرية تأكل جزئيات البلاستيك العالقة ببقايا الطعام، ثم يتجمع هذا البلاستيك اللعين في أمعائها، وتشعر مع الأيام بالشبع، لكنها تموت جوعاً. حملت هذه المعارف لأتفلسف بها على «شلة» العشرة، وانتقلت عدوى النظافة إليهم بسرعة، خصوصاً أنني كنت قائدهم الذي يمارس أبشع أنواع الدكتاتورية في الأمور السليمة. اكتشفنا أن التنظيف لا يحتاج إلى جيش جرّار من ذوي الملابس الخضراء، ولا إلى شاحنة نفايات ورافعات، ولا حتى أن تكون عضواً في جمعية أصدقاء البيئة. ثم إن هذه الرمال ملك لنا ولعيالنا وأحفادنا من بعدنا، ومن حقهم علينا، ترك أماكن نظيفة ليمضوا فيها لحظات جميلة، حين نكون نحن في دار العجزة نصفّق بلا سبب. ولو لم نفكر أبعد من أنوفنا، فإننا لن نجد مكاناً لأنفسنا بعد عقد أو عقدين من «التوسيخ» المستمر. بالطبع، استهزأ بعض الشباب بهذه الرؤية البيئية الراقية، لأن المحافظة على البيئة في نظرهم نوع من أنواع الترف، وبضعهم عدّ هذا الكلام مجرد صرعة غربية ستنتهي بعد شفط الأموال العربية التي ستذهب للمحافظة على البيئة ببرامج وأنظمة ومعدات غربية، لكننا استطعنا قمعهم وإرغامهم على الجلوس منضبطين بيئياً، فنحن قررنا المحافظة على البيئة لا لأنها حدث عالمي، ولا تأثراً بالمؤتمرات، ولا حباً في البيئة، بل لأننا نعيش على هذه الأرض وسيعيش عليها أبناؤنا وأحفادنا. ومَن كانت «الوساخة» في دمه وجزءاً لا يتجزأ من شخصيته، فقد تركناه وشأنه، ننظّف من بعده ونحن نشيد بسمو أخلاقه. ما سهّل الأمر علينا أننا اكتفينا بالحد الأدنى من النظافة، فنحن لا نكنس البر، ولا نمسح على رماله بالماء والصابون، وليست بيننا «نبويّة شبشب» من مسلسل «درب الزلق» لتسهر على خدمتنا، كل الذي نفعله أننا نضع المواد الضارة في الكيس أولاً بأول، وفي الختام نعلن عن حملة تنظيف لا تستمر لأكثر من ثلاث دقائق، ثم نُحكم ربط الكيس ونحمله معنا إلى أقرب صندوق قمامة. وفي أيام الكسل ورمي المسؤوليات، نكتفي بوضع الكيس بالقرب من الشارع العام ليحمله عمّال البلدية و»يحللوا» رواتبهم. لا نزال نجلس في المكان نفسه، وليس هناك أثر لشيء سوى الفحم الذي تبتلعه الرمال، ولكن هناك مشكلتين، الأولى أننا أصبحنا مهووسين بالنظافة، لدرجة أن بعضنا يأتي إلى المكان وعينه على الكيس الأسود العظيم، ويسارع إلى التقاط المواد الضارة كأنه عامل من عمال البلدية. المشكلة الثانية أن المكان يحتوي الآن أطناناً من السماد الإنساني، لكن لحسن الحظ أنه صديق للبيئة. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©