الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تقاطعات الظلمات والأنوار

تقاطعات الظلمات والأنوار
30 سبتمبر 2015 22:29
بعد غياب طويل عدت إلى فرنسا لكي أتسقط الأخبار وأشتم رائحة الاتجاهات الفكرية لهذا الموسم الثقافي. ومعلوم أنه بعد انتهاء العطلة الصيفية وعودة الحركة والنشاط فإن دور النشر الكبرى تتنافس على إصدار الكتب الجديدة لأشهر المفكرين. ولم يخب ظني فالحصاد كان ثميناً. ما إن وصلت ووضعت حقائبي في الغرفة حتى خرجت مسرعاً لكي أرى واجهة المكتبات العامرة. وقد اشتريت أربعة كتب دفعة واحدة. اثنان منها لأندريه كونت سبونفيل. وهو من فلاسفة فرنسا المعدودين حالياً بالإضافة إلى لوك فيري وميشيل أونفري وآخرين. الأول بعنوان «إنها لشيءٌ حنونٌ الحياة». ويمكن ترجمته أيضا: «إنها لشيءٌ هشٌ الحياة». وهو عبارة عن سلسلة مقابلات أجريت معه وتحدث فيها عن مساره الفكري المتواصل منذ نحو الأربعين سنة. إنه كتاب ممتع فعلاً لأنه يستعرض الحياة الثقافية الفرنسية من خلال تجربة شخص واحد. لن أدخل في تفاصيله هنا لأن ذلك يتطلب مقالة مطولة أو حتى عدة مقالات. كل ما أريد قوله هم أن كتب المقابلات المثيرة للاهتمام وتُقرأ من أولها إلى آخرها بشهية كبيرة ودون أي ملل أو ضجر. فهناك حيوية مثيرة للاهتمام من خلال السؤال والجواب. وتظل تترقب ما سيقوله كجواب على السؤال التالي. وبالتالي فكتب المقابلات شيقة فعلاً. يضاف إلى ذلك أن المفكرين الكبار يشرحون من خلالها نظرياتهم المعقدة بلغة سهلة عموماً ومبسطة. وذلك على عكس كتبهم الأخرى التي تتميز بالوعورة عادة ويصعب على غير المختصين النفاذ إليها أو فهمها. إذا ما أردت أن تعرف ما هو رأي كونت سبونفيل بأفلاطون وأرسطو، أو سبينوزا وديكارت، أو كانط وهيغل، أو ماركس ونيتشه، أو فوكو ودريدا ودليوز، الخ.. فاقرأ هذا الكتاب. لقد غطست فيه أنا شخصياً إلى درجة أني نسيت حل بعض المشاكل العملية الملحة. ومع ذلك فلم أكمل إلا ربعه الأول. إنه يتجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير. آراء الفلاسفة أما الكتاب الثاني لكونت سبونفيل فيتجاوز أيضاً الخمسمائة صفحة ولكنه ليس عبارة عن كتاب مقابلات وإنما هو كتاب كلاسيكي يستعرض فيه تاريخ الفلسفة الغربية من أوله إلى آخره. وهو بعنوان «متعة الفكر أو التفكير. مدخل إلى الفلسفة». إنه مفيد جداً لطلبة الجامعات والدراسات العليا. بل ويمكن حتى لطلبة الثانوي أن يستفيدوا منه إذا كان عندهم اطلاع سابق على بعض كتب الفلسفة. يحتوي الكتاب على ستمائة نص فلسفي أساسي لكبار الفلاسفة منذ أيام هيراقليطس وحتى يومنا هذا. وهو مقسم بحسب الموضوعات التي يتطرق إليها الفلاسفة عموماً وتحظى باهتمامهم. ما هو رأي الفلاسفة مثلا بالأخلاق؟ أو بالسياسة؟ أو بالحب؟ أو بالموت؟ أو بالمعرفة؟ أو بالحرية؟ أو بالله؟ الخ.. إذا كانت تهمكم هذه الموضوعات فلا تترددوا عن شراء الكتاب لحظة واحدة. ألا يهمكم رأي أفلاطون وأرسطو بالحب؟ أو رأي نيتشه وجان جاك روسو؟ الخ.. ألا يهمكم رأي كبار الفلاسفة بالله؟ ألا يهمكم رأيهم بالحرية؟ أو بالأحرى أراؤهم لأنها مختلفة ومتشعبة بل ومتناقضة. سوف تفاجؤون بأجوبة لا تخطر على البال. والممتع هو أن المؤلف يساعدنا على فهم كل ذلك عن طريق كتابة مدخل قصير أو طويل لكل واحد من هذه الموضوعات. الفكر والسياسة أما الكتاب الثالث الذي اشتريته فهو للصديق الحميم لكونت سبونفيل ومنافسه على عرش الفلسفة الفرنسية المعاصرة. قصدت المؤلف الشهير والوزير السابق: لوك فيري. وهو بعنوان: حوليات الزمن الحاضر. لماذا اشتريته؟ لأنه يعطيك فكرة عن آخر المواقف التي توصل إليها مثقفو فرنسا بخصوص قضايا عديدة تهمنا جميعا. فالفيلسوف الفرنسي الذي يتحدث عن الدين مثلا من موقعه الباريسي يعطيك فكرة عن التطورات التي حصلت في هذا المضمار منذ مائتي سنة وحتى اليوم. كيف يطرح المثقف الأوروبي مسألة الدين عام 2015؟ وكيف كان يطرحها سلفه فولتير في القرن الثامن عشر؟ إنه لمن المهم أن تقيس حجم المسافة التي تفصل بينهما. ما هي المتغيرات التي طرأت على الفكر الفرنسي والأوروبي عموماً بخصوص كل هذه القضايا الحساسة؟ ألا ينبغي على المثقف العربي أن يطلع عليها قبل أن يتخذ منها موقفاً سلباً أو إيجاباً. أنا لا أدعو إلى تقليد الغرب بشكل حرفي أو أعمى بل وأحذر من ذلك كل التحذير. ولكن أدعو للاطلاع على تجربتهم بشكل دقيق لكي نستطيع أن نتخذ منها موقفاً صحيحاً. سوف أضرب على ذلك مثلاً عملياً لتوضيح ذلك. فمثلاً لوك فيري يؤيد زواج المثليين على الرغم من أنه ليس مثلياً شذوذياً على الإطلاق. ولكن أصبحت موضة في الغرب أن تقول أنك مع المثليين. وإذا لم تقل ذلك فأنت رجعي ضد الحداثة وحركة التقدم! شيء مخيف.. وقد أثار موقفه هذا عاصفة من الانتقادات وتلقى أطناناً من الشتائم كما يقول هو حرفياً. وأنا شخصياً لا أشتمه ولكني أعلن اختلافي الكامل معه بخصوص هذه النقطة. أقول ذلك على الرغم من أني معجب كثيراً ببعض الجوانب الأخرى من فلسفته. وقد عبرت عن ذلك أكثر من مرة سابقاً. وبالتالي فنحن لن نتبع الغرب في كل تطرفاته وانحرافاته وصرعاته. سوف نأخذ ونترك. سوف نأخذ الصالح ونترك الطالح. لا أحد يستطيع أن يجبرنا كعرب وكمسلمين على ترك أخلاقنا المثالية الفاضلة وتقليد الآخرين في كل ما هب ودب! لقد مضى عصر الانبهار الأعمى بالغرب. من موضوعات الكتاب التي استرعت انتباهي الموضوعات التالية: الاسلاموفوبيا: هل يمكن نقد الأديان؟ زواج المثليين: رد على أصدقائي المسيحيين، ينبغي تعليم الفلسفة بشكل آخر، هل يوجد تقدم أخلاقي في التاريخ؟ هل في الرأسمالية نزعة إنسانية؟ رأي شوبنهاور في الجنس والحب، الخ.. تلاحظون أني لا أدخل في التفاصيل فهذا يتطلب عروضاً موسعة وإنما أكتفي برؤوس الأقلام. لاحقاً سأعود إلى كل ذلك في عروض تفصيلية لمحاور الكتاب. أما الكتاب الرابع الذي اشتريته فوراً فهو لريجيس دوبريه بعنوان: «شخص ساذج على نافذته. خروج من العصر». أو بالأحرى: خروج من الالتزام السياسي. ومعلوم أن دوبريه كان منخرطاً سياسياً إلى أقصى الحدود في شبابه الأول. بل وعرف السجن لعدة سنوات في أميركا اللاتينية حيث ناضل مع تشي غيفارا. ولكنه الآن بعد أن كبر في السن ونضج يبدو نادماً على هذه المراهقات السياسية. أيا يكن من أمر فحظنا نحن العرب من الكتاب لا يستهان به لأنه يتحدث عنا أيضا. فهناك فقرات مخصصة للبنان وتونس والجزائر ووادي النيل والربيع العربي وغزة.. بين فيلسوفين وأخيراً سأتحدث عن كتاب ضخم بعنوان «أنوار العصور الوسطى. ابن ميمون فيلسوفاً». وهو صادر عن غاليمار في نحو الألف صفحة من القطع الكبير! 960 صفحة بالضبط. وهو ليس محصورا بابن ميمون فقط وإنما يتعرض أيضا للفلسفة العربية الإسلامية برمتها. وهذا شيء طبيعي. فلا يمكن فصل هذا الفيلسوف اليهودي الكبير عن البيئة التي ولد فيها وعاش وكتب حتى مات.. ومعلوم أنه ولد في قرطبة الأندلسية الإسلامية قبل أن ينتقل إلى المغرب ثم ينتهي بمصر. بل ويقال بأنه اعتنق الإسلام في المغرب ثم عاد إلى ديانته اليهودية لاحقاً. أيا يكن من أمر فهو أحد كبار فلاسفة اليهود على مر العصور. ولكنه أحد كبار فلاسفة العرب أيضاً! لماذا؟ لسبب بسيط هو أنه كتب رائعته الفلسفية الكبرى «دلالة الحائرين» باللغة العربية. لقد دبجه نحو عام 1190. وكل من كتب بالعربية فهو عربي بشكل من الأشكال. إنه عربي الفكر والثقافة واللسان. ثم ترجم كتابه إلى العبرية لاحقاً عدة مرات. ولكن متزمتي اليهود حرقوه عام 1204، أي في السنة التي مات فيها المؤلف. لم يستطيعوا أن يتحملوا عقلانيته الفلسفية ولذلك اعتبروه خارجاً على الدين اليهودي مثلما أن متزمتي المسلمين اعتبروا ابن رشد خارجاً على الدين الإسلامي. لكل دين متعصبوه! والواقع أن كتاب «دلالة الحائرين» عبارة عن تفسير فلسفي لا تقليدي للكتابات اليهودية المقدسة. وهذا ما أزعج المتزمتين كل الإزعاج. إنه يكشف عن المعنى الروحاني التنزيهي الجوهري المختبئ خلف المعنى الحرفي الظاهري للنصوص المقدسة. ويبدو أن الكتاب متأثر بكتاب الإمام الغزالي: ميزان العمل. ولا غرو في ذلك. فالرجل متشبع بالتراث الإسلامي الذي نشأ وترعرع بين أحضانه. وربما كان متأثراً أيضاً بكتاب معاصره ابن رشد: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. فابن رشد حاول التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة اليونانية مثلما حاول ابن ميمون إقامة المصالحة بين هذه الفلسفة والديانة اليهودية. المشروع واحد أو متشابه. وكما أن كتاب ابن ميمون حرق فإن كتاب ابن رشد حرق أيضاً. ليس هدفي هنا عرض الكتاب كله. فهذا يتطلب عدة مقالات. وإنما سأكتفي بالتلميح إلى الأطروحة الأساسية للمؤلف. وهي موجودة في العنوان ذاته: أنوار القرون الوسطى. هل يعقل أن تكون للقرون الوسطى أنوار؟ الشيء الشائع هو أن نقول: ظلمات العصور الوسطى. فلماذا خرج المؤلف على الرأي العام الشائع؟ لسبب بسيط هو أن القرون الوسطى الغربية غير القرون الوسطى العربية اليهودية. فعندما كانت أوروبا تغط في ظلمات العصور الوسطى كنا نحن في أوج عصرنا الذهبي التنويري. فالحضارة العربية الإسلامية ازدهرت في المشرق ابان القرنين الثالث والرابع للهجرة/ أي التاسع والعاشر للميلاد. ثم بعد أن انطفأت في الشرق بدءاً من القرن الخامس الهجري ظلت أنوارها مشتعلة في الأندلس والمغرب طيلة قرنين إضافيين: أي حتى موت ابن رشد عام 1198 أواخر القرن الثاني عشر الميلادي. وبالتالي أليس من الظلم أن ننعت تلك العصور المتألقة حضارياً بالعصور الوسطى؟ صحيح أن الغرب كان يعيش آنذاك عصوراً وسطى مظلمة ولكن ليس نحن. في الواقع أن عصورنا الوسطى جاءت لاحقاً من القرن الثالث عشر وحتى التاسع عشر. وهي ما يدعى بعصور الانحطاط. وبالتالي فالتحقيب الابيستمولوجي للفكر الغربي لا يتطابق مع التحقيب الابيستمولوجي للفكر العربي. ولا يحق لهم أن يفرضوا علينا تحقيبهم. الأمور معكوسة بيننا وبينهم. فعندما كنا متفوقين كانوا متخلفين وعندما تخلفنا أقلعوا هم حضارياً. هذه نقطة. وأما النقطة الثانية فهي أن أطروحة هيغل لا تزال سائدة حتى الآن. وهي القائلة بأنه لا يوجد شيء بين الفجر المضيء للفلسفة اليونانية الرومانية، والفجر المضيء للقرن الثامن عشر الذي يمثل عصر الأنوار الأوروبية. بمعنى أن العقل البشري كان نائماً أو مستقيلاً طيلة عشرة قرون أو أكثر! وكل تلك الفترة ما هي إلا صحراء عقيمة للفكر. وهذا يعني احتقار العصر الذهبي للعرب بل وطمسه كلياً. وميزة هذا الكتاب هي أنه ينقض هذه الأطروحة ويفندها. سوف تكون لنا إليه عودة وربما عودات.. احتفاء بالرواية يحتفي الموسم الثقافي الفرنسي لهذا العام، بالأدب الروائي على وجه الخصوص، إذ أصدرت دور النشر الفرنسية خلال عام 2015,589 رواية فرنسية بالإضاءة إلى 196 رواية مترجمة عن اللغات الأجنبية. ويتميز موسم هذا العام بغياب النجوم الكبار الذين عادة ما يستحوذون على اهتمام وسائل الإعلام، ويحجبون أعمال المئات من الروائيين الآخرين. ومن أبرز روايات هذه الموسم، رواية الكاتب الجزائري ياسمينة خضرة «ليلة الريس الأخيرة» التي يتقمص فيها السارد شخصية العقيد الليبي الراحل معمر القذافي ليلة مصرعه بطريقة وحشية على يد الثوار الليبيين. وهناك أيضاً كتاب بارز للروائي الفرنسي فريديريك بيغبيدي بعنوان «أحاديث ابن القرن»، جمع فيه حوارات حقيقية وأخرى متخيلة مع نخبة من الكُتاب الفرنسيين والعالميين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©