الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حيُّ «شوابينغ».. قلعة الفنون والنازية

حيُّ «شوابينغ».. قلعة الفنون والنازية
30 سبتمبر 2015 22:29
يتمتع حيُّ «شوابينغ» بشهرة واسعة لا في ميونيخ وحدها، بل في كامل أنحاء ألمانيا. ويعود ذلك إلى أن عدداً كبيراً من كبار الموسيقيين، والفنانين، والشعراء، والكتّاب عاشوا فيه في فترات مختلفة من القرن العشرين. ولعلّ أشهر هؤلاء جميعاً هم جماعة حركة «الفارس الأزرق» الفنيّة الذين لعبوا دوراً مهمّاً في تطوير الفنون التشكيليّة الحديثة، ليس في ألمانيا وحدها، وإنما في جميع أنحاء أوروبا، ومن بين العناصر البارزة في الحركة المذكورة الروسي كاندينسكي، والألمان فرانز مارك، وأوغست ماكه، وغابرييلا مونستر، والسويسري باول كلي. في مطلع القرن العشرين كان على الفنانين الذين يتوقون إلى الشهرة أن يختاروا بين مدينتين: باريس أو ميونيخ. ويعود مصدر شهرة ميونيخ آنذاك إلى انفتاح أكاديميّة الفنون فيها على التيّارات الحديثة، الجريئة منها بالخصوص، كما يعود أيضاً إلى ظهور مجلة «يشاب» التي سوف تهب اسمها إلى تيّار أدبيّ بكامله. وقد تخصّصت هذه المجلة في نشر نصوص وأعمال التيّارات والاتجاهات الجديدة في المجال الفني. وهذا ما حرّض العديد من الفنانين الشبّان على الثورة ضدّ الفن القديم معتبرين إيّاه فنّاً منقرضاً. وفي ذلك الوقت، أي في مطلع القرن العشرين، كان التجديد في الحياة كما في الفن، الشغل الشاغل للفنانين لا في ميونيخ فحسب، بل في جلّ المدن الألمانيّة الكبيرة. اكتشاف كاندينسكي وكان الروسي كاندينسكي أكبر مدافع عن الفن الحديث في تلك الفترة. وقد تمكّن هذا الفنان المولود في موسكو عام 1866، والذي كان يتمتع بقدرة هائلة على التنظير، من إنجاز أوّل لوحة تجريديّة. وكان ذلك عام 1910. وفي الحين اعتبر النقّاد المتحمّسون للفن الحديث أن اللوحة المذكورة تجاوزت التعبيريّة والتكعيبيّة والمستقبليّة، وهي التيّارات الفنيّة المشهورة في ذلك الوقت. وقد روى كاندينسكي نفسه الطريقة التي أنجز بها لوحته: فقبل عامين، أي في عام 1908، دخل إلى «الأتلييه» عند الأصيل بعد يوم كامل أمضاه في العمل وسط الطبيعة. فجأة رأى لوحة مستندة إلى الجدار، بديعة الجمال، مكونة من أشكال ومن ألوان لم يتمكن من تحديد معانيها. من الذي وضع اللوحة في غيابه؟ لكن وهو يقترب منها، عثر على اللغز إذ لم تكن تلك اللوحة غير لوحة كان قد أكملها، ووضعها جانباً. عندئذٍ تأكد أن عليه أن يغيّر طريقته في الرسم. ومنذ ذلك الحين شرع في العمل على إنجاز فني يدوّن داخليّاً مثل الموسيقى، غير أن التأثير الأكبر حدث لمّا قرأ كاندينسكي كتاب ناقد ألماني شاب يدعى فورينغر صدر عام 1907 نوفيه ورد ما يلي: «إنّ التوجّه نحو التجريديّة هو نتيجة لاضطراب الإنسان أمام العالم»، ويضيف فورينغر قائلاً: «إن الإنسان الحديث الذي دمّره كبرياء المعرفة يجد نفسه مجرّداً تماماً مثلما هو حال الإنسان البدائيّ أمام صورة العالم». الفارس الأزرق وفي عام 1909، عرض جاليري «تانهاوزر» لوحات لفنانين ينتسبون إلى «الجمعيّة الجديدة للفن» التي سوف تنعتهم الصحف المحافظة، والنقاد المعادون للفن الحديث بـ«المجانين»، وبـ«الدجالين العديميّ الذّمّة». وكان كاندينسكي، وبافلينسكي، وكوبين وآخرون من بين أولئك الفنانين.. وبعد معركة حامية الوطيس استمرت أشهراً عدّة، قرّر كاندينسكي تأسيس جمعية فنّيّة جديدة أطلق عليها اسم «الفارس الأزرق»، وهو عنوان لوحة لفانز مارك. وقد عرض الفنانون المنتسبون إلى الجمعيّة المذكورة أعمالهم في جاليري «تانهاوزر» أواخر عام 1911. وفي البداية لم يكن لجمعية «الفارس الأزرق» برنامج محدّد. وكانت الحريّة في الفن وفي الحياة وفي التخيّل هي الهدف الأساسي. وربما لهذا السبب أعلن فرانز مارك بأنه من الضروري التخلّص من كلّ ما يمتّ بصلة إلى ما يسمّى «برنامج»، بالإضافة إلى ذلك، كان فنانو هذه الجمعيّة يختلفون عن بعضهم البعض في النواحي الفنيّة. فكاندينسكي كان يطمح إلى الوصول إلى أعلى درجات التجريديّة. أما فرانز مارك فقد حافظ في أغلب لوحاته على حيواناته الصفراء. مقابل ذلك بدأ أوجست ماكه يستجيب إلى فنّ التكعيبيين الذين كانوا يعيشون في باريس. وفي عام 1912 أقامت جمعيّة «الفارس الأزرق» معرضاً ضخماً دعت إليه حشداً من الفنانين الطلائعيين أبرزهم بيكاسو، وجورج براك، وهانس هارب. وفي حفل افتتاح المعرض، قال كاندينسكي: «أن نبني شيئاً على أساس روحيّ أولاً وأخيراً يعني ذلك أن نقوم بعمل طويل الأمد. فمن الضروري أن يسهر الفنان على تربية عينيه تماماً مثلما يربي روحه». أما فرانز مارك فقد ألحّ على«لذّة المعرفة الخالصة، وعلى القدرة على التقاط قوّة الطبيعة، ثم إطلاقها بعد ذلك». لقد كان الهدف الأساسيّ لجمعية «الفارس الأزرق» هو البحث العميق في مجال الفن، والتفكير حوله فلسفيّاً لا للوصول إلى بلورة نظريّة ما، وإنما لإنتاج أعمال تكون قادرة على تثوير الحساسيّة الفنيّة. في ما بعد انضمّ إلى هذه الجمعيّة الفنان باول كلي الذي كان آنذاك طالباً في أكاديمية الفنون بميونيخ. وهكذا ازدادت هذه الجمعية قوة وتأثيراً، وأصبحت محطّ أنظار أهمّ نقاد الفن الحديث لا في ميونيخ فحسب، وإنما في جميع انحاء ألمانيا. وفي بداية الحرب العالميّة الأولى بدأت مغامرة «الفارس الأزرق» تشرف على نهايتها، فقد عاد كاندينسكي إلى روسيا، في حين غادر باول كلي إلى سويسرا ليستقرّ في بيرن. أما فرانز مارك فقد قتل على الجبهة في أيام الحرب الكونية الأولى. «مونمارتر» ألمانيا وليس هناك مبالغة في تشبيه حيّ «شوابينغ» بحيّ «مونمارتر» بباريس. فقد عرف هذا الحيّ في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين حياة أدبيّة وفنيّة صاخبة تماماً مثل تلك التي عرفها حيّ «مونمارتر» في الفترة ذاتها. فيه عاش كتّاب وشعراء سوف يحظى البعض منهم فيما بعد بشهرة عالميّة واسعة. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر برينو فرانك، وكارل فالنتين، وأوسكار ماريا غراف، وبرتولد برشت، وتوماس مان وأخاه هاينريش مان، وراينار ماريا ريلكه، وأندرياس سالومي التي عشقها الكثيرون بمن في ذلك نيتشه عدوّ النساء. وبسبب رفضه للحياة البورجوازية وللأفكار المحافظة في السياسة كما في الفن، كان حيّ «شوابينغ» يفتح أبوابه أمام المتمردين، والبوهيميين، والغرباء الباحثين عن الحرية، والذين لا وطن لهم سوى الكلمة مثل الشاعر غيوم أبولينير الذي جاء إلى ميونيخ عام 1908. وفي قصيدة له بعنوان: «بيت الموتى»، والتي استوحاها من «المقبرة القديمة» بحيّ «شوابينغ» وصف انطباعاته ومشاعره قائلاً: واصلا إلى ميونيخ منذ خمسة عشر أو عشرين يوماً دخلت لأول مرّة بالصدفة تلك المقبرة التي تكاد تكون مقفرة وأسناني تصطكّ أمام هذه البورجوازيّة المعروضة والمرتدية ثياباً جدّ لائقة في انتظار التابوت... وعلى الرغم من أنّ توماس مان كان يتردّد على مقاهي حيّ «شوابينغ»، فإنه كان يتحاشى الجلوس والحديث مع من كان يسميهم «الأدباء البوهيميين». مع ذلك كان يتابع باهتمام كبير ما كان يدور في الحيّ الشهير. وهذا ما سنتبينه في روايته «الدكتور فاوست» التي كتبها في منفاه الأمريكيّ. أما برتولد برشت فقد عرض مسرحيّاته الأولى في ميونيخ. وفي الليل كما في النهار، كان يشاهد في مقاهي حيّ «شوابينغ». وكان صديقاً لكلاوس مان، ابن توماس مان. ومعاً كانا يتجادلان طويلاً حول السبل الكفيلة بتطوير الفن الحديث. وكان الكاتب كارل فالنتين من أعلام حيّ «شوابينغ»» هو أيضاً. وقد اشتهر كثيراً في ميونيخ بسبب السخرية اللاذعة التي طبعت جميع أعماله الأدبيّة. وكان كارل فالنتين يلتقي أصدقائه في مقهى «الجلاّدون الأحد عشر» الذي فتح أبوابه في 13 نيسان 1902. وكان هذا المقهى يقدم حفلات غنائيّة راقصة كان برشت يصفق لها طويلاً وهو يدخن سيجاره الشهير. ومثل كارل فالنتين، كان أوسكار ماريا غراف كاتباً ساخراً من طراز رفيع. وكان يقول بأن لهجة منطقة بافاريا (حيث توجد ميونيخ) هي اللغة الوحيدة القادرة على أن تنافس اللغة الإنجليزية كلغة كونيّة. من هنا حرصه على أن يكتب بها كلّ مسرحيّاته الرائعة التي تجسّد الروح البافاريّة. وفي مقهى «شتيفاني» الذي كان يلتقي فيه عدد كبير من الأدباء والشعراء والفنانين الطلائعيين، كان النقاش يدور حول الأفكار الجديدة، وحول بودلير، وأوسكار وايلد، وماركس، وفرويد. حب وكراهية وكان راينار ماريا ريلكه قد جاء إلى ميونيخ وهو في ريعان الشباب قادماً اليها من براغ. وفي البداية أحسّ كما لو أنه ضائع في مدينة باردة لا قلب لها. غير أن هذا الشعور سرعان ما تبدّد حالما شرع في التردّد على مقاهي حيّ «شوابينغ»، وفيها تعرف على فنانين وشعراء سوف يصبحون أصدقاءه فيما بعد. وفي ميونيخ ارتبط ريلكه بعلاقة حميمة مع لو أندرياس سالومي، وبصحبتها سافر إلى روسيا لمقابلة ليون تولستوي في مزرعته. وقد ظلّ ريلكه دائم التردّد على ميونيخ في السنوات اللاحقة. وبعد الحرب الكونية الأولى، سكن ريلكه بجوار الرسام باول كلي. وفي شقته داهمته شرطة التحقيقات الجنائية وذلك في شهر مايو 1919 بدعوى أنه كان من عناصر الحركة الثورية التي أقامت «جمهوريّة المجالس»، والتي تزعّمها كورت إيسنر وأرنست تولر. والذين عاشوا هذه الفترة الذهبيّة من حياة حيّ «شوابينغ» يقولون بأن ريلكه كان منخرطاً انخراطاً كليّاً في الحياة الصاخبة. وكان يرتاد المقاهي، ويختلط بالفنانين البوهيميين من دون أيّ تحفّظ. بعد انهيار «جمهوريّة المجالس» عام 1919، وإعدام إسنر مؤسسها، وسجن عدد كبير من المقفين الطلائعيين، عرف حيّ «شوابينغ» ومرتادوه أياماً عسيرة، ومحناً قاسية. فقد شنّت القوى المحافظة هجوماً عنيفاً على المعارضين لها من أهل السياسة والفن والأدب. وقد استغل أدولف هتلر الذي كان يعيش في ميونيخ آنذاك هذا الجو المشحون بالعنف والحقد ليشرع في نشر أفكاره الفاشيّة في مقاهي ونوادي المدينة. وانطلاقاً من عام 1923، أصبحت ميونيخ معقلاً من معاقل النازيّة الصّاعدة. عندئذ بدأ حيّ «شوابينغ» يفقد مظاهر حياته الفنية الجميلة. أما عشاقه من الفنانين والشعراء والأدباء الطلائعيين فقد تشتّتوا. عدد كبير منهم فرّ إلى المنافي، وآخرون قتلوا أو سيقوا إلى معسكرات الاعتقال. وثمة من فضّل الانتحار مثل تولر، الشاعر الذي ساند بقوة «جمهورية المجالس» عند قيامها... ميونخ المتعافية دوما عرفت ميونخ التي تأسست إلى جانب مستوطنة الكاهن مونيشن على يد ويلف هنري الملقب بالأسد، دوق ساكسونيا وبافاريا، كمدينة قادرة على التعافي بسرعة بعد كل شرّ يصيبها. فبعد حوالي عقدين من الزمن حصلت ميونخ على صفة المدينة وتم تحصينها. وأصبحت عام 1255 مقر عدة أمراء وفي عام 1314 اتخذها الملك لودفيغ الرابع مقرا له، توج عام 1328 ليصبح قيصرا. أصبحت ميونخ عاصمة بافاريا عام 1506. في العقود اللاحقة صارت ميونخ مركزا مهما لعصر النهضة ومركزا لمناهضة الإصلاح الديني في ألمانيا الذي بدأه مارتن لوثر. بعد نهاية حرب الثلاثين عاما 1648، تعافت ميونخ بسرعة، وبدأ طابع البناء الباروك الإيطالي بالانتشار فيها. باني ميونخ الحقيقي هو الملك لودفيغ الثاني، الذي حكم ما بين 1825 إلى 1848. جعل من المدينة مركزا تجاريا وثقافيا مهما في أوروبا. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عاشت ميونخ أحد أسوأ فتراتها على مر العصور، مما مهد الطريق لبزوغ نجم الفكر اليميني المتشدد الذي عرف فيما بعد بالفكر النازي. أعلن هتلر مدينة ميونخ عام 1935 عاصمة لحركته. دمرت أجزاء كبيرة من المدينة خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن في فترة الخمسينيات والستينيات أعيد إعمارها ونمت بسرعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©