الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

العلم يجعل الديمقراطية حتمية تاريخية

17 يناير 2007 23:33
أحمد مصطفى العملة: تبذل بعض حكومات الشرق الأوسط جهودا خارقة، لعلها تنجو من رياح الديمقراطية التي تهب بقوة على المنطقة، لكن مقاومتها تبدو غير ذات جدوى، لأن واقع الحال يؤكد أنها، إنما تضيع الوقت وتهدر طاقات وأرواح بلا حصر· ليس فقط، لان الديمقراطية صارت كقدر محتوم، -ولو حتى نظريا- أو لأن الإحباط العام وصل لذروته، أو حتى لأن البشرية بلغت في تطورها التاريخي مرحلة لا يتوافق معها سوى ما يقوم على حرية التعبير، إنما أيضا لأن ·· حشر الناس في زاوية حادة، وتضييق الخناق عليهم من كل جانب، صار مستحيلا· بكلمات أخرى·· لم يعد أحد يصدق نظرية ''أنا وحدي الخيار المتاح والممكن والأفضل''- التي تشهرها بعض الحكومات في وجه التواقين لبديل ديمقراطي، لأن تعدد البدائل صار هو الموضة في كل شيء· من ثم توشك الأصنام التي صنعتها النظم الدكتاتورية بنفسها لنفسها، كي تعبدها الشعوب، توشك أن تنهار ·· ولنسألن ثورة التقنية، نعم التكنولوجيا بالتحديد·· لأنها بطريقتها تشق حاليا للديمقراطية دروبا غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، وترسخ لها أسسا صلبة، ما كان لها أن تقوم الآن في محيط مثل المجتمعات العربية بصفة خاصة لولا سحر ثورة العلم الذي لا يقاوم· بوضوح أكثر·· تغير التكنولوجيا الحياة داخلنا ومن حولنا، حتى طريقة تفكيرنا· وهي فيما تفعل ذلك، بهدوء ودون جلبة، ثقبت فيما يبدو جدار التاريخ، وأخذت تصنع بمعرفتها، تاريخا موازيا أو جديدا، تتخلق داخله قواعد وأسس مختلفة للحياة على كوكب الأرض، يستحيل معها ما كان قائما من قبلها· ومن جملة ما قوضته، في اندفاعها الجامح للمستقبل، مبادىء الجبر والاضطرار!! علاقة مركبة ثلاثة قرون وفكرة العلم والتقدم تقوم بدور البطولة في التاريخ الحديث منذ الثورة الصناعية، لكنها لم تشق للحرية ثغرة هائلة كالتي تحدثها التقنية الحديثة منذ مطلع القرن الحادي والعشرون!، هل لأن العلم خرج أخيرا من المختبرات والمعاهد العلمية إلى الشارع·· ربما· أم لأنه، مع المنافسة، قلص تكاليف الإنتاج ·· يجوز!·، أو لأن العولمة بمساعدة العلم أيضا ساعدت على تدفق استثنائي للسلع بين مختلف أرجاء العالم، وبأسعار معقولة·· محتمل· أيا ما كان الحال، فتحت التكنولوجيا الباب على مصراعيه أمام تنوع هائل في كل شيء من الألوان حتى أعقد المنتجات مرورا بمبتكرات كثيرة، صارت تدريجيا من الضروريات· ليس ذلك فقط بل أن المبتكرات الكثيرة، المذهلة في قدراتها، التي أنتجتها، صارت في متناول بسطاء بالملايين، لم يكن مكتوب لهم يوما التعامل مع منجزات التطور البشري بكل هذه الكثافة واليسر· لقد أخذ حتى العامل البسيط بأي مدينة عربية، يواجه حيرة شديدة عندما يود شراء أي شيء· فأمامه سيل من الـ options أي الخيارات· مع أنه ربما لم ينعم أبدا من قبل بهذا الـ(option) أقصد برفاهية الاختيار أو المفاضلة بين خيارات عدة· حسنا، ما علاقة كل ذلك بالضبط بالديمقراطية؟! العلاقة مركبة بعض الشيء، لكنها تقوم في جزء منها على مبدأ ال options ، الذي هو في جوهره ينسف تماما النسق القيمي لما هو مستقر ومتوارث عربيا عبر السنين· انظر مثلا للمشهد المثير المتكرر دوما في غابات ال options ، أعني، متاجر بيع أجهزة الهواتف المحمولة، ستجد خليطا من البشر يخوض ما يشبه العصف الذهني بحثا عما يريد من خيارات فيما يود شراءه· فالخيارات كثيرة وبلا حصر، كل ما عليك أن تختار ما تحب· والبعض قد لا يعرف القراءة والكتابة، لكن ستجد لديهم القدرة على التعامل مع هذا الابتكار الاستثنائي بكل يسر وفهم ما فيه · هنا تحديدا يكمن أحد أبرز إنجازات التقنية الحديثة·· أنها ببساطتها المتناهية وجاذبيتها الساحرة، تفرض نفسها كضرورة حياتية، لها جمهور كبير بالملايين في شتى أنحاء العالم· ترتب على ذلك، أن العقلية العربية فوجئت بتعدد وتنوع استثنائيين للخيارات لم تعتاده من قبل· والعربي حرم دوما بسبب الثقافة التقليدية المتوارثة من رفاهية تعدد الخيارات أو المفاضلة بينها ، اللهم إلا في أضيق نطاق· فمن المهد للحد يكاد المرء في منطقتنا لا يختار من أمره شيئا إلا ما تجود به الظروف، فترسخت لدينا ثقافة الجبر والاضطرار والتسليم بمجريات الأمور و''ما تعرفه أفضل من ما لا تعرفه''·· الخ · اهتز ذلك بعنف بظهور التقنية الحديثة وشيوعها، خاصة في أشكالها الضرورية والبسيطة كالهاتف المحمول، لأنه ترتب عليها صدمة حضارية طالت الملايين من أبناء المجتمعات العربية· وتدريجيا بدأت تظهر أعراض ما يمكن تسميته ثقافة الـ options حيث يرفض العقل الخيارات المحدودة، مفضلا عليها المقارنة بين اكبر عدد منها لاختيار ما يناسبه، بعد أن ذاق طعم حرية الاختيار· ولأن التقنية الحديثة تقوم في جانب كبير منها على الترفيه، الذي هو بطبعه، يغازل في المرء أمورا تتعلق بالذوق والحساسية وأنماط التفكير، وهي بطبيعتها أمور شخصية جدا، بدأ العربي يختبر معنى تنمية وتعزيز الذات الكامنة داخله، بعدما وقع في غواية لعبة الخيارات· لقد بدأ يمارس، ويظهر، ويعبر عن حقيقة وجوده كفرد، ولو حتى برنة هاتف تميزه عن غير· التكنولوجيا إذن أخذت تستدعي أعمق ما فينا، وتعيد تشكيل حتى صورتنا عن أنفسنا كي نكتشف أن كل منا فرد متميز مختلف وليس مجرد رقم مكرر· ضاعف الإحساس بذلك كل هذا التنوع والتعدد والتدفق اللانهائي في المعلومات والأفكار وحتى الصور الذي نشهده الآن من حولنا· فالعالم لم يعد مع التقنية الحديثة - بعكس ما يقال - ضيقا محدودا، بل صار رحبا، كبيرا، ممتدا بلا نهاية ، الى ما يتجاوز قدرة البصر والتخيل· القوة القاهرة !! أكثر ما يمكن أن يجسد هذا كله هو ذاك الصغير العملاق ·· الهاتف المحمول، لكونه أكثر من يعمق فكرة الخيارات وما تنطوي عليه من إلهام مثير يؤجج شوق الإنسان للحرية ولأنه، أيضا، يعكس بطريقة عملية دعم الثورة التقنية للديمقراطية، إنه يمنح الناس-مع الانترنت- القدرة على التواصل بالصوت والصورة والكلمة، بحرية تامة وبدون حواجز وبسرعة·· ومعه لم يعد ممكنا إخفاء حتى ما يحصل داخل الغرف المغلقة أو في الأقبية السرية تحت الأرض· في الوقت نفسه قوضت تكنولوجيا الهاتف المحمول التي هي مستودع سر الطفرة العلمية، قوضت تماما الأدوار التقليدية التي كانت تقسم الناس بين متلقي و مرسل لما نعتبره حقائق وأحداث· صار الكل يقوم بكل الأدوار بين بدون رقابة أو قيود كان يعاني منها الإعلاميون في صورتهم الكلاسيكية حتى سنوات قليلة مضت· أكثر ما يدل على ذلك، ثلاث وقائع محددة، تكشف كيف تشق ثورة التقنية فعلا للديمقراطية دروبا غير مسبوقة في المنطقة ·الأولى والثانية جرت أحداثها بالعراق، عندما كشف الهاتف المحمول فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب ثم فضيحة الملابسات التي أحاطت بإعدام صدام حسين· أما الثالثة - مع الفارق طبعا- تتفجر تداعياتها بعاصمة عربية الآن بعد الكشف عن سلسلة فضائح تعذيب مروعة ارتكبها سجانين ضد أبرياء· كل تلك الأحداث لم يكن لها أن تنتشر كالنار في الهشيم لولا تصويرها بهاتف محمول ونقلها للانترنت· ويكشف ذلك كيف أن ما أنتجته التقنية الحديثة من أدوات متوافقة مع بعضها، جعلتها قوة قاهرة قادرة، تعجز أعتى الدكتاتوريات عن صدها أو منعها· الطبقة الوسطى كأنها هدية السماء التي هبطت في وقتها أو قبلة الحياة للجسد الخامد·· هذا بالضبط يكاد يكون حال التكنولوجيا مع الطبقة الوسطى العربية التي تحولت إلى أشلاء تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والتحولات السياسية في السنوات الأخيرة· فمعروف طبعا أن وجود طبقة وسطى قوية ونشطة وحيوية شرط أساسي لنهوض ديمقراطي حقيقي·· والعكس صحيح·· في حين أن الجميع يعرفون أن تلك الطبقة تعيش الآن أسوأ أحوالها، هذا إن وجدت! غير أن التكنولوجيا بظهورها الكثيف والاعتماد المتزايد عليها، بدا وكأنها جاءت لدعم الطبقة الوسطى في نضالها لإثبات نفسها والدفاع عن مصالحها وطموحاتها المشروعة في مواجهة تحالف العسكر والبيروقراطية وبعض أصحاب المال الذي يقمعها منذ ما يزيد على نصف قرن· وفي الوقت نفسه أفرزت التكنولوجيا ذاتها ما يمكن اعتباره طبقة وسطى على قياسها· صحيح انه قد لا يكون لها المواصفات الكلاسيكية للطبقة الوسطى أو حتى لها نفس ملامحها التقليدية، لكنها في النهاية قد تحمل بعض سمات تلك الطبقة خاصة فيما يتعلق بدرجة الوعي والطموح والمصالح وشيئا من القيم· أداة للنضال ! لإنها، أي التقنية الحديثة ممثلة في الانترنت أو الهاتف المحمول أو حتى طرق الإنتاج الحديثة في المصانع أو نظم وشبكات المعلومات في المصارف وغيرها من الهيئات، تتخلق من رحمها طبقة، لديها، بصرف النظر عن قدراتها المادية، درجة أكبر من الوعي والطموح والنزوع القوي للتعبير عن الذات· وهي طبقة ميالة لعقد مقارنات بين أوضاعها وظروفها وبين أوضاع أقرانها في مجتمعات أخرى تنعم بدرجة أكبر من الحرية· من ثم وجد المهمشون من أبناء الطبقة الوسطى في التقنية الحديثة أداة فعالة للنضال والدفاع عن مصالحهم، وفي القلب منها قضية الديمقراطية·· وفي الوقت نفسه أخذت تلك التقنية تجذب شرائح من أبناء الريف وأحزمة الفقر المحيطة بالمدن ليندمجوا في شرائح اجتماعية أكثر فهما ووعيا بما يحدث من حولها· يعكس بعضا من ذلك نشاط المدونين على الانترنت· وهؤلاء الذين يمثلون بصورة أو بأخرى بعضا من شرائح الطبقة الوسطى وتخومه ، لعبوا خلال العامين الماضيين دورا استثنائيا في دعم الموجة الديمقراطية بالعالم العربي· ربما لأنهم الأكثر افتتانا بالثورة التقنية أو لأنهم الأشد احتياجا لها لحماية الذات الفردية أو الجماعية· وفي بلد كبير مثل مصر، سنكتشف أن شبانا صغارا - بقدرتهم على التعامل مع التقنيات الحديثة- استطاعوا أن يسهموا في الجدل السياسي الصاخب على ضفاف وادي النيل منذ طرح قضية الإصلاح السياسي، بدرجة تفوق بمراحل إسهام شخصيات وأحزاب وتيارات سياسية ذات تاريخ· حدث ذلك للدرجة التي يصح معها التساؤل الآتي·· ترى إلى أي مدى كانت الساحة السياسية في مصر - مثلا - ستتغير بدون التكنولوجيا - أي الانترنت والمدونات والأفلام القصيرة المنقولة عبر الهاتف المحمول-؟! بالتالي تبدو التقنية الآن وكأنها تقوم في العالم العربي مع مطلع القرن ،21 مقام الثورة الصناعية في أوروبا أواخر القرن 18 وأوائل القرن ،19 تلك الثورة التي غيرت وجه العالم بالتحولات السياسية والاجتماعية الهائلة التي أفرزتها تباعا· بل ربما كانت الثورة الحالية أشد أثرا من سابقتها ·· لأن منجزات الطفرة العلمية الأولى انحصرت بالأساس في عمليات الإنتاج الرأسمالية الضخمة، في حين أن الثورة الأخيرة تتركز بالدرجة الأولى على منح الإنسان أكبر فرصة للتعبير عن ذاته واختياراته وتتعامل مباشرة مع أفكاره· بكلمات أخرى، كان من الممكن للتطورات الصناعية والعلمية التي شهدها العالم فيما سبق أن تتعايش على ما يبدو مع أنظمة حكم دكتاتورية· لكن التكنولوجيا الجديدة بطبيعتها وبسبب ظروفها التاريخية المواكبة لانطلاقتها غير قادرة على التعامل مع التوجهات الدكتاتورية لأنها غير متوافقة مع الأفكار المضادة لحرية الاختيار والتعبير· هذا هو جوهر المأزق الذي تعجز النظم الدكتاتورية عن استيعابه، متخيلة أن قواعد اللعبة لم تتغير، وانه من الممكن لها أن تستمر هي الخيار الوحيد و الممكن والأفضل أمام شعوبها· غير مدركة أن تلك المماطلة أو هذا التجاهل الكارثي قد يؤدي إلى تطورات مأساوية لها ولشعوبها· على الأقل لأنه لا يمكن لنا كأفراد أن نتمتع بخيارات حياتية بلا حصر - بفضل التكنولوجيا - بينما نحرم كشعوب من هذا ال OPTION · ahmedomla@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©