الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أغرانا الصيد الوفير فحاصر البحر والليل مركبنا الصغير

أغرانا الصيد الوفير فحاصر البحر والليل مركبنا الصغير
11 مارس 2009 23:26
كان البحر وما زال من أهم ظواهر الطبيعة التي عشقتها وخفت منها في الوقت نفسه·· وإذا كانت القاعدة أن يبتعد الإنسان عما يخيفه فإن القاعدة الأخرى والأكثر فعالية وقبولاً لدى الإنسان هي أن يقترب العاشق من موضوع عشقه حتى لو كان ذلك الموضوع مخيفاً مثل البحر·· تأثر الشعراء كثيراً بالبحر، وما زلت أحفظ الكثير من الأبيات التي تصف تجارب الشاعر في البحر·· وتتحدث عنه في حالة هدوئه وصفائه وفي حالة ثورته وغضبه·· عندما وصلت إلى أبوظبي في بداية ،1971 وقعت معاهدة مع البحر، وعشت معه في كل حالاته وخضت فيه هادئاً، وهربت منه ثائراً وأخذت منه وأعطيته، أخذت منه ذكريات لا تنسى وأعطيته أجمل ما نظمت من شعر: البحر يدعوني بكل رقه لرحلة أنسى بها المشقه يغيب عن عيني فيها ظالم وتنطفي بين الضلوع حرقه يابحر أنت لي ملاذ آمن أغفو وأنسى نزف جرحي فوقه رحلات البحر في ذلك الزمن، لم تكن آمنة على الإطلاق، أصدقاء من خيرة الشباب دفعوا حياتهم ثمناً لتلك الرحلات، ورغم أننا لم نكن في البداية نبتعد عن الشاطئ إلا أن خطورة البحر كانت لا تغيب حتى لو لم نبتعد إلا مئات الأمتار· أذكر في إحدى الرحلات التي قمت بها مع الأخ الصديق سعيد بن جبر السويدي في زورق صغير يندفع بماكينة بخارية صغيرة·· وفي منطقة تقع ما بين منطقة الوزارات والبطين مع ملاحظة أن جغرافيا المكان تغيرت كثيراً الآن بعد عمليات الردم وكسب الأراضي وإقامة المباني الضخمة· كنا أنا والأخ سعيد السويدي نعمل معاً في إذاعة أبوظبي في زمن البدايات، ولم تكن رواتبنا في ذلك الوقت تسمح بشراء القوارب الكبيرة الفخمة، ولكن لحب الأخ سعيد للبحر تمكن من اقتناء زورق صغير بماكينة واحدة ودعاني مع والدي رحمه الله لرحلة صيد لا نبتعد فيها كثيراً عن الشاطئ·· بدأنا الرحلة في الثالثة بعد الظهر، وعلى بعد مائتي متر فقط من الشاطئ توقفنا لنبدأ صيد السمك ''الحداق''، وقعنا على قاع غني، فلا نكاد نرمي بالخيط حتى نجمعه ونجرّه ونجر معه أجود أنواع الشعري·· مر الوقت سريعاً·· وامتلأ القارب الصغير بكمية كبيرة من سمك الشعري·· وفي غمرة الفرح الذي شعرنا به ونحن نغرف من ذلك القاع ما لم يسبق لنا أن صدنا من قبل، خيم الليل·· وقلت للأخ سعيد: حان الوقت لنرجع·· قال سعيد: أنرجع ونترك هذه الثروة قلت: على ما يبدو ابتعدنا عن الشاطئ دون أن نشعر· قال سعيد: وما يهمنا·· الأضواء هناك·· سنتجه إليها عندما ننتهي·· لم أشأ أن أفضح خوفي أمامه·· فسلمت أمري لله وعدت إلى الصيد وأنا أشعر برهبة البحر والذي بدأت الريح تلاعب أمواجه·· أخيراً وبعد أن لاحظ الأخ سعيد مدى الرهبة التي أسكتتني عن التعليقات الظريفة·· قرر أن يعود· قال سعيد: أعرف أنك خائف·· حسناً اجمعوا الخيوط·· سنعود إلى الشاطئ·· أمسك بحبل المحرك وجرّه·· سمعنا المحرك يشتغل قليلاً ثم يصمت·· أعاد المحاولة أكثر من عشر مرات·· دون فائدة·· إذاً فنحن في عرض البحر·· ولا نملك حتى المجاذيف لنحاول من خلالها إرجاع القارب إلى البر·· عندما بدأ القمر في الظهور، أخذت الرؤية تكون واضحة·· نزلت من القارب إلى البحر·· فوجدت أن العمق ليس كبيراً·· بل إنني استطعت السير فوق قاع البحر وجر القارب في اتجاه البر وأضوائه·· ما أعادني بعد قليل إلى القارب هو ملامسة تلك السمكة المسماة باللخمة التي لها ذيل في نهايته شوكة سامة، ورغم الخطر الذي أحدق بنا واستسلامنا للتيار الذي يجر قاربنا إلى البحر الكبير·· إلا أن نوبة من الضحك انتابت الأخ سعيد·· أتضحك ونحن نموت؟؟ قال سعيد: ألست أنت الذي تردد دائماً على مسمعي: إذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جباناً قلت: هذا شعر يقال على البر·· ليس هنا يا سعيد·· لم يتوقف عن الضحك حتى خلت أنه ربما يجربني وأن المحرك يعمل ولكنه تظاهر أمامي بأنه معطل حتى يرى ردة فعلي·· حاولت بنفسي تشغيل المحرك الصغير مرة أخرى دون فائدة·· مر الوقت ثقيلاً ونحن لا حول لنا ولا قوة·· ولولا ضحكات الأخ سعيد السويدي وحفيف الرياح فوق الأمواج لكان الصمت أشبه بصمت القبور·· في العاشرة مساء·· سمعنا صوت محرك مركب صيد كبير·· وبدأ ضوء المركب يقترب منّا·· كانت المشكلة عدم وجود إضاءة لدينا·· فلم نكن أنا ولا الأخ سعيد من المدخنين·· ووالدي رحمه الله لم يحضر معه سجائر ولا ولاعة·· قال سعيد: ليس لنا إلا الصوت·· لنصرخ بصوت مرتفع عندما يقترب منّا·· أو لننشد نشيداً·· قالها ساخراً ضاحكاً· اتجه المركب إلينا·· حتى تخيلت أنه سيصدمنا وبالفعل·· كان بينه وبين صدمنا سنتيمترات قليلة وكان صراخنا في تلك اللحظة لا طلباً للنجدة بل تنبيهاً للمركب حتى لا يصطدم بنا·· كنا محظوظين أن سمعنا ورآنا النوخذة الذي أبطأ سرعته وعاد إلينا ليلتقطنا وينقذنا من الموت برداً لا غرقاً· كانت التجربة مثيرة، ولكننا عدنا بصيد وفير جعلنا ننسى رهبة التجربة وقسوتها·· ولكننا لم نهجر البحر بعد هذه التجربة·· ولم يستطع الخوف أن يمنعنا من معانقة الأمواج وخوض غمار بحرنا الجميل في كل الظروف· صحيح أن قواربنا أصبحت أكبر فيما بعد والمحركات كذلك زاد عددها مما يدخل الطمأنينة إلى قلوبنا بإدراكنا أنه إذا تعطل أحد المحركات فسيعمل الآخر، إلا أن التجارب مع بحر الخليج لم تكن دائماً آمنة أو خالية من المخاطر· من عشاق البحر الذين رافقتهم كان الأخ عبدالله النويس وكيل وزارة الإعلام والثقافة الأسبق ورئيس تحرير جريدة ''الاتحاد'' الأسبق شفاه الله وأعاده من رحلة علاجه في ألمانيا سالماً غانماً· كان الأخ عبدالله النويس يملك قارباً كبيراً نسبياً يتسع لأكثر من عشرة ركاب أو صيادين·· وكان ذا محركين·· وكنا ننطلق بذلك القارب من الحنيورة حيث كان معالي الشيخ أحمد بن حامد قد بنى فيها بيتاً لقضاء العطل فيه·· وإلى جانب ذلك البيت بنى بعض الغرف للضيوف وكنا مع الأخ عبدالله النويس نستخدم تلك الغرف وننام فيها يوم الخميس من كل أسبوع· ورغم كل الاحتياطات التي كنا نقوم بها لصيانة محركي القارب·· إلا أن المحركات كانت دائماً تتعطل لنجد أنفسنا في عرض البحر ندعو الله ونتوسل إلى العناية الإلهية أن ترسل لنا الغوث والنجدة· في النهاية تعلمت أن رحلة البحر هي دائماً مغامرة وأن الذي لا يغامر لا يرجع بصيد وفير·· ولا يمر بمشاعر الرهبة التي هي في النهاية دروس وعبر نحتاج إليها في حياتنا وفي عملنا· بعد مرور أكثر من عشرين سنة على تلك الرحلات البحرية مع الأخ عبدالله النويس والأخ سعيد السويدي والأخ عيد الظريف·· وانشغالي عن تلك الرحلات بالسفر في مختلف بلاد الدنيا·· دعاني الأخ عبدالله والأخ سعيد لرحلات بحرية في يخوت أشبه بالبيوت العائمة·· حيث لا خوف من الأمواج العالية ولا من خراب المحركات·· بل تتحول تلك اليخوت لمجالس سمر تنتهي بالدخول إلى غرف نوم مريحة·· تصحو بعدها ليقول لك الكابتن: مرحباً بكم في ميناء أبوظبي· وإن كنت لا أستطيع إنكار جمال تلك اليخوت ولا الأمان والاطمئنان الذي يشعر به الراكب·· إلا أن صوت الذكرى يجعلني أشعر بالحنين للتجارب الأولى ولمغامرات خوض البحر بقارب صغير وبمحرك يتعطل لأتفه الأسباب· إن النزول إلى شاطئ الحنيورة في المساء·· وإشعال النار على الرمال وإعداد مكبوس السمك اللذيذ بأنفسنا كان يجعلنا سعداء إلى درجة جعلتني أعتقد الآن أن السعادة نفسها أصبحت أشبه ما يكون بالذكرى· في الحنيورة كنا نضع بعض الشباك ''الألياخ'' لصيد الصافي·· من قناة قريبة مستغلين حركة المد والجزر ''السقي والثبر''·· وكان الأخ عبدالله ماهراً في إعداد المحمّر·· وهو الأرز المطبوخ بالسكر·· والصافي المقلي معه·· ولا أدري لماذا حتى الآن·· ورغم دخولي إلى أفخم مطاعم الأسماك هنا وفي بلاد كثيرة أخرى·· لم أستطع أن أقرر أنني تذوقت أفضل من ذلك الصافي المقلي والرز المحمّر·· كان البحر إذاً ولا يزال المعشوق الرهيب والحبيب المخيف·· ولن يمنعني الخوف منه عنه·· ولن يجعلني حبي له قادراً على إلغاء مشاعر الرهبة حينما أخوض فيه·· حتى ولو كان ذلك الخوض فوق سفينة ضخمة شبيهة بالتايتانيك الضخمة والتي لم تكن رغم ضخامتها عصية على الغرق· عن زورقي غاب ارتياح فلم تزل تعوي الرياح والموج صار عالياً فكيف لا يعلو الصياح اجتاح خوفي مبحراً وأول النصر اجتياح
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©