الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معجم الزهور

معجم الزهور
11 مارس 2009 23:51
كثيراً ما كنت أشعر في الصبا بالحرج عندما أقرأ أبياتاً شعرية، وأجد فيها إشارة لبعض الأزهار والنباتات، بأسمائها المحددة، دون أن أستطيع تمييزها في واقع الطبيعة الخارجي، واعتبر ذلك من قبيل الفقر ونقص المعلومات، وأقصى ما كنت أستنتجه من السياق هو لونها تقريباً أو شكلها، ولم تكن تسعفني المعاجم كثيراً بالصور الضرورية· لم ألبث بعدئذ أن أتبين أن البيئات التي نحيا فيها، مهما كانت خصبة وثرية، لا يمكن أن تحتوي على جميع أشكال الزهور والنباتات، وأن الشعر يلعب دوراً مميزاً في توسيع مداركنا وتنمية وعينا بمعطيات الطبيعة، بحيث تمنحنا المخيلة فضاءات أوسع وأكثر تنوعاً مما يتاح لنا في التجربة المباشرة· وربما كانت البيئة الشامية هي أكثر البيئات العربية نضرة واحتواءً على مختلف الأنواع، ومن ثم فقد انتشر فيها جنس أدبي خاص يسمى ''الزهريات'' وكان شعراؤها أقدر على تصويره بدقة واتقان· ومن ذلك ما يقوله ''كشاجم'' في الشقائق مثلاً: أما الظلام فقد رفت غلائله والصبح حين بدا بالنور يختالُ فانظر بعينيك أغصان الشقائق في فروعها زهرٌ في الحسن أمثال من كل مشرقة الألوان ناضرة لها على الغصن إيقادٌ وإشعالُ حمراء من صنعة الباري بقدرته مصقولةٌ لم ينلها قطُّ صقالُ كأنها وجناتٌ أربعٌ جمعت وكل واحدة في صحنها خالُ فشقائق النعمان، كما هو معروف، زهور حمراء بها نقط سوداء، والشاعر يؤنسنها بعد أن يتأمل ألوانها ويبتهج بإشراق حمرتها ونعومة ملمسها فيتصورها مجموعة من أربعة خدود مورَّدة يزينها الخال الأسود في الوسط· لكن الأخيطل يعمد إلى تركيب الصورة بشكل أكثر تعقيداً إذ يقول: هذي الشقائق قد أبصرتُ حمرتها فوق السواد على أعناقها الذُّللِ كأنها دمعة قد غسلتْ كحلا جادت به وقفة من وجنتي خجلِ فوجنة الحسناء قد احمرت من الخجل، ثم سقطت عليها دمعة ذرفتها عين كحيلة سوداء، فاستوت صورة الشقائق لتجمع هذا الصبغ العجيب· أما سبب الخجل ومدى اتفاقه مع لحظة البكاء فهذا مما يترك لخيال المتلقي· ولا يكتفي شاعر آخر، هو السروي، بهذه التلوينات، بل يضيف إليها ظلالاً أخرى بقوله: جامٌ تكون من عقيق أحمر مُلئت قراراته بمسكٍ أذفرِ خرط الربيع مثاَله فأقامه بين الرياض على قضيب أخضر ترنو إليه من الجوانب كلها حَدَقٌ خلقن من النهار الأنور والريح تتركه إذا هبّت به متمايلا كالطافح المتكسِّرِ فتراه يركع ثم يرفع رأسه متحيرا كالعاشق المتحيِّرِ ولعل التوالي الحركي للمشهد أن يكون قد أضفى عليه مسحة سردية خفيفة، فزهرة الشقائق تبدو كأنها إناء تشكل من عقيق أحمر، لكن قراراته قد امتلأت بمسك أسود، خرط الربيع تمثاله نموذجاً للحسن وأقامه على عود أخضر، كأن هناك عيوناً منوّرة مُحدقة به ترنو إليه، أما الريح فهي تتمايل به بتكسرها فيأخذ في الانحناء كأنه يركع قبل أن يرفع رأسه، وهو حيران مثل العاشق الذي لا يستقر على حال·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©