الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صورة النوخذة في الرواية الإماراتية الحديثة لصالح هويدي ناصر

صورة النوخذة في الرواية الإماراتية الحديثة لصالح هويدي ناصر
11 مارس 2009 23:59
إذا كان ''النواخذة'' قد مثلوا مهنة على جانب من الأهمية والخطورة في المجتمع الخليجي ومجتمع دولة الإمارات في الأمس القريب، أرَخت لها الكتب التاريخية وعرضت له الدراسات الاجتماعية، فإن الحاجة ظلت شديدة الى تعرَف صورة هذه الشريحة لدى الروائيين الإماراتيين والى الكشف عن دلالاتها الرمزية كما تجسدت في المخيال السردي· من هنا تأتي هذه المقاربة النقدية التي أراد لها مؤلف كتاب ''صورة النوخذة في الرواية الإماراتية الحديثة قراءة في الخطاب السردي'' الدكتور صالح هويدي ناصر، وهو أكاديمي مختص بالحقل النقدي ومنتج لعدد من المؤلفات في السرد العربي ومن أهمها: ''نازك الملائكة أميرة الشعر الحديث''، ''التوظيف الفني للطبيعة في أدب نجيب محفوظ''، ''بنية الرؤيا ووظيفتها في القصة القصيرة العراقية''، أن تسد نقصا في مجالها، وأن تكشف عن حجم التنوع ومساحة الثراء اللذين عكستهما النتاجات الروائية الإماراتية، بدءا من ''شاهندة'' النص الذي مثَل مرحلة الصراع بين الرواية والسردالحكائي وانتهاء برواية ''سلايم'' للروائي علي أبو الريش· الكتاب الذي نحن بصدده من منشورات مركز زايد للتراث والتاريخ بمدينة العين، ويقع في نحو 85 صفحة موثقة ببعض الصور· يتناول هذا الكتاب بالدرس جانبا مهما من الموروث الإماراتي القريب، مسلطا الضوء على مكانة النوخذة في مجتمع الإمارات ودوره في الحياة اليومية في الفترة التي سبقت اكتشاف النفط· ويحقق الكتاب أمرين متلازمين هما: تسليط الضوء على واحدة من أبرز موضوعات التراث الإماراتي وأكثرها دلالة ''النوخذة''، واستجلاء الرؤى الأدبية المختلفة للروائيين الإماراتيين وهم يسعون الى رسم صورة تخييلية لواحد من أكثر الرموز الاجتماعية حضورا وإشكالية في مجتمع الأمس القريب· يتكون الكتاب من فصلين: الأول وخصص لبحث مكانة النوخذة ودوره في المجتمع الإماراتي، من خلال استعراض مظاهر هذه المهنة العريقة وعلاقتها بالشرائح والمهن المرافقة لها، كالغواصين والسيوب والارضفة، الى جانب تفسير احتضان الرواية لموضوعة النوخذة وتعبيرها عنه بتنويعات مختلفة· أما الفصل الثاني فقد خصصه المؤلف لاستجلاء صورة النوخذة لدى الروائيين من خلال عدد من أشكال التوظيف الفني التي تفاوتت في إنتاج دلالاتها وبلورة ملامح رؤية فنية منها، بدءا بالنص السردي الأول في دولة الإمارات ''شاهندة'' لعبد الله راشد، وانتهاء برواية ''سلايم''، كما تناول المؤلف مفهوم النوخذة في روايات: ساحل الأبطال، أحداث مدينة على الشاطئ، تل الصنم، ثنائية مجبل بن شهوان· استهل المؤلف كتابه بتمهيد أو استهلال تحت عنوان: ''الواقع الثقافي الإماراتي ودوره في تشكَل السرد القصصي''، متعرضا من خلال ذلك الى مرحلة الأدب الشفاهي، متطرقا الى بدايات الصحافة الإماراتية وتطورها، ومن ثم بداية التعليم وتطوره، ليخلص بأن الرواية الإماراتية شديدة الالتصاق ببيئتها، فلقد استلهمت خصوصيات الواقع السياسي والاجتماعي، وعبرت عن مفردات المكان ومظاهر الحياة، فيما بين الماضي والحاضر، مجسدة قيمها ومفاهيمها وعاداتها ومعتقداتها والمهن والحرف التقليدية التي كانت سائدة فيها في مراحل مختلفة· ولا شك في أن توفر الخطاب السردي على تصوير الماضي ينطوي على قيمة الانشداد الى تراث الأمس القريب، وتعميق الوعي بجذور المجتمع، ضمن حركة إعادة إنتاج الرؤية وتشكيلها إبداعيا، وهي قيمة تحسب لهذا الخطاب الذي لازمه الطابع الواقعي منذ بواكيره الفنية الأولى· في الجانب التنظيري يصل المؤلف من الفصل الأول الى أن الرواية الإماراتية اتجهت الى تصوير واقع البيئة الاجتماعية قبل مرحلة التحول، فتوفرت على ابرز مشاهده (بيئة البحر) تلك البيئة ومهنتها التي كانت الأوسع انتشارا والأكثر أهمية في حياة أهلها الذين مارسوا حيواتهم على ظهور السفن ومراكب البحر، بمختلف شرائحهم الاجتماعية، بدءا من ''النوخذة'' الرمز الأكثر حضورا ودلالة وثراء إبداعيا، مرورا بالغواصين والسيوب والصيادين والمجدفين والتباب والسبيل، وانتهاء بمهن السقاية والحواية والصيدلة والحدادة وصناعة المراكب· وتبعا لذلك كان من الطبيعي أن تختلف اتجاهات الرواية الإماراتية ما بين أساليب محاكاة تقليدية وأخرى تعبيرية، حاولت الإفادة من التقنيات الحداثية المختلفة في مجال فن السرد فتباينت قيمة كل منها بمقدار ما أصابته من نجاح وتجويد· النوخذة في ''شاهندة'' في الجانب التطبيقي ومن خلال عنوان الفصل الثاني: ''التوظيف الفني لشخصية النوخذة ودلالاتها السيمولوجية في الرواية الإماراتية'' يرى المؤلف أن أهم ما في رواية ''شاهندة'' هو الحوار الذي وظف بطريقة جعلت منه تقنية فنية أسهمت في تطور بنية الحدث مثلما أسهمت في التأثير في ذوات الشخوص وتغيير مواقفهم دونما افتعال او قفز فوق منطق الأحداث أو منطق الرواية· كما يرى أن عبدالله راشد نجح في تقديم صورتين متمايزتين للنوخذة وقيمتين متضادتين، أمكن لهما التعايش في مرحلة تاريخية واحدة، وفي ظل علاقات اجتماعية محددة، ومنظومة قيم مشتركة، لينأى بذلك عن الموقف العام للروائيين الإماراتيين، الذين آثروا الكشف عن الوجه الاستغلالي الكريه للنوخذة في محاولة منهم لتهميشه وإدانته· في سياق البحث نجد أن رواية ''أحداث مدينة على الشاطئ'' لمحمد حسن الحربي يكتسب فيها مشهد الوصف وظيفة مهمة، تلك هي التصاق البنية السردية وتضخيمها بالهم الاجتماعي، فضلا عن تعميقها وعي القارئ بالتراتبية الطبقية التي تقوم عليها حياة أهالي المدينة· ومن ثم نجد أن بقاء النوخذة في موضع الظل من البنية السردية للرواية وإمساك الراوي عن زجَه في حركة الصراع الدائر والآخذ في النمو شيئا فشيئا، إن ذلك كله قد تبدد في ذهن القارئ ليحل محله عنصر الشك والتساؤل من جراء عبارة واحدة في الملفوظ السردي· أما البنية السردية في رواية ''تل الصنم'' للروائي علي أبو الريش فتقوم على اتخاذ النكرات والمهمشين والضعفاء من ذوي العاهات، شخصيات أساسية فيها، ترتقي الى مستوى البطولة المضادة والشخصيات المحورية، وهي تقنية لها امتدادها في الأعمال السردية الأخرى للروائي· على هذا النحو تتجلى وظيفة الراوي في التوحيد فيما بين الوقائع المتباعدة لتقديمها ضمن نسق رؤية كلية، تعمق الدلالة المقصودة من وراء العلاقات الاجتماعية التي يمثلها طرفان أحدهما: بائع لجهده الإنساني ضمن شروط امتهان انساني واستغلالي بشع (الغواص) وثانيهما: متسلط على مقدرات الآخر، مستلب لإرادته، وعابث بمصيره ومستقبله (النوخذة) الذي سمم صورة الماضي وترك في ذاكرة أناسه ندوبا غائرة· ··وفي ''سلايم'' في رواية ''سلايم'' ثمة مزاوجة بين صوتي الراوي العليم والراوي المشارك، الذي يعبر عن الشخصية المحورية فيها، كلما اقتضى سياق البنية السردية الكشف المباشر عن مشاعر الشخصية المحورية ونبش أعماقها الملتاعة، والانتقال من الصوت الموضوعي الى الصوت الذاتي· لكن شخصية النوخذة التي لا نراها حاضرة في الزمن الراهن للسرد، تظل ماثلة أمامنا بوصفها المهيمنة على البنية السردية جميعا، فضلا عن كونها الباعث الرئيس على أفعال الشخصية المحورية (عبد الله الشديد) ومواقفها السلوكية بل وأزمنتها النفسية كلها· وعند أبو الريش هنا تتجاوز لغة السرد إثبات الملامح الشخصية للنوخذة الى حيث تمنح هذه الشخصية ملامح ذات أبعاد دلالية ترتقي بها الى مستويات تعبيرية أكثر رحابة وإيحاء· يدل على ذلك تذلل الناس إليه وطاعتهم له بطريقة الآمر لهم ورغباته غير المحدودة· الى جانب الظلال التي تكسبها لغة الوصف التي يراد منها إضفاء ملامح (غير إنسانية) شائهة عليه· من تحليلات مؤلف الكتاب للروايات التي ذكرناها في مقدمة الموضوع، يتضح لنا أن أبو الريش في معظم أعماله كان أكثر الروائيين دأبا على معالجة موضوعة النوخذة وتوظيفا لدوره السلبي وصورته الاستغلالية، يقابله في القصة القصيرة القاص عبد الحميد أحمد الذي يلتقي معه في توظيف هذه الشخصية بالدلالة نفسها، يليهما كتاب القصة الآخرون على تفاوت فيما بينهم من حيث الرؤيا والتعبير والوصف السردي· والسبب في هذا التفسير أو قل القراءة النصية، أن ما يميز معالجة أبو الريش السردية لموضوعة النوخذة أن التحدي لشخص النوخذة يأخذ صورة منازلة فردية ووعي فردي، وفي هذا سر انكسار الشخصية المحورية وعجزها وتأزمها وذلك بسبب كون الصراع الذي تخوضه الشخصية المحورية لا يرتقي الى مصافي التحدي التاريخي وشروطه الاجتماعية· وأن اختلاف الروائيين الإماراتيين في معالجة هذا الموضوع يرجع الى زاوية النظر التي قرأ كل منهم تلك الموضوعة من خلالها· وهي زاوية تعبر عن موقف كل منهم وفهمه للإنسان والمجتمع والتاريخ، وهو موقف تحدده عادة ثقافة الكاتب ووعيه، قراءة وخبرة وتجربة، فضلا عن اختلاف هؤلاء الكتاب في أساليب التعبير الفني وطرائقه وأشكال العرض والتناول· على هذا النحو لا ينبغي النظر الى ظاهرة انشغال الخطاب الروائي ببيئة الأمس على انه ضرب من التوثيق أو التسجيل، بقدر ما هو تصوير لمعاناة مجتمعنا وتعبير عن ألوان الظلم وصنوف الاستغلال التي مارستها سلطة النوخذة بحق أناس ذلك المجتمع البحري وإدانتها ـ بحسب مؤلف الكتاب ـ لكن ثمة مسالة مهمة وعلى جانب كبير من الخطورة كشفت عنها الرواية المحلية على الرغم من حداثتها الزمنية، ونريد بها انفتاحها على مختلف ألوان السرد وتقنياته الحداثية، وإفادتها من منجزاته، سواء العربية منها أو العالمية، مما أهلها لاختزال مسيرة التطور الإبداعي وتحقيقها ما يعرف في أدبيات السياسة بظاهرة (حرق المراحل) لتقديم نماذج سردية على مستوى من النضج والمهارة في التعبير واستخدام أسلوبيات متقدمة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©