الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أصدره مشروع كلمة في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث

أصدره مشروع كلمة في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث
12 مارس 2009 00:01
كيف يمكن أن يكون المنفى مزدوجاً؟ وهل المنفى يعني الجغرافيا والتاريخ؟ أم أنه غربة التفكير بلغة أخرى؟ من المهم جداً أن نشير إلى أن الكثيرين ممن يفكرون ويكتبون باللغة العربية عندما يصرحون دائماً يؤكدون أنهم استفادوا من لغات جذورهم الأولى، فهم يدافعون عن لغات أجدادهم الميتة ويدعون الاستعانة بها عند كتابتهم باللغة العربية أدباً سواء كان رواية أو شعراً· تلك لم تكن معضلة كتاب أفريقيا والهند الغربية فقط بل هي محنة كتاب عرب حاولوا مراراً أن يؤكدوا استفادتهم من لغاتهم الأم المندثرة في تغذية اللغة العربية التي يفكرون ويكتبون بها الآن، متناسين أنهم أصبحوا كتاباً بفعل طاقة اللغة العربية ذاتها التي منحتهم آفاقاً رائعة في الإمساك بالصورة والأشياء عبر تراكيبها الغنية وترادفاتها الواسعة وتقلبات ألفاظها ومعانيها المزدوجة· كنت أتساءل لماذا نجهل عظمة وبراعة العربية فنسبغ على هذا الكاتب أو ذاك أنه رفد اللغة العربية من أصول لغته الأولى ترادفات وتركيبات لم تألفها لغتنا، فنجح في أن يتصدر المشهد الأدبي العربي· بينما كان لا بد أن نقول إن لغتنا العربية هي التي أمدته بخيال الكلمة الرحب وبخزينها المعرفي الذي تفجر على يدي عشرات من المبدعين الذين تعاملوا معها بأناقة الحرف وسحر الكلمة وجمالية التركيب وقوة الأداء ورقة المعنى· لا أحد يمكن له أن ينكر سحر الجاحظ وما أعطته العربية له من قوة البيان، ولا صياغة عبدالحميد الكاتب وما منحته العربية من تجلي البلاغة ولا جمالية سبك الحريري أو الهمذاني في مقاماتهما من تجانس الألفاظ· كل ذلك لا يمكن أن يلغى بسهولة حينما يبرع هذا الروائي أو ذاك الروائي في أقصى المغرب العربي ليقول إنه ينتمي إلى لغة الأجداد، بينما هو يفكر ويكتب بلغتنا العربية التي جعلته كاتباً ولولاها لما كان كذلك· تلك هي في الجانب الآخر لعبة هذا الكتاب ''المنفى المزدوج·· الكتابة في أفريقيا والهند الغربية بين ثقافتين''·· من تأليف غاريث غريفش وترجمة الدكتور محمد درويش والذي أصدره مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث· الكتابة بلغة أخرى يعالج الكتاب أصل الكتاب الذين اختاروا الكتابة باللغة الإنجليزية بالرغم من أنهم من بيئات أفريقية أو هندية، مما جعل غريفش يعدهم منفيين ثقافياً عن مصادر تلك اللغة وموروثاتها ومنفيين لغوياً عن الأجواء والشعوب التي يكتبون عنها· هنا نفهم أن النفي المزدوج يعني أمرين وهما المنفى الثقافي والآخر اللغوي، ففي المنفى الثقافي هم في أقصى ساحة ثقافة اللغة الإنجليزية من جهة والمنفى اللغوي عن شعوبهم التي يكتبون عنها· فلا هم ضمن بؤرة الموروث الإنجليزي كونهم ليسوا إنجليزاً ولا هم في عمق لغاتهم الأصل كونهم يكتبون بالإنجليزية· ذلك ما أردت تأكيده عندما تحدثت عن أولئك المنفيين في عالمنا العربي عن مجتمعات أجدادهم وعن ثقافة الموروث العربي حينما يقلبون الرؤى فيدعون أن أصولهم لا تمت إلى العربية· قد نتفق مع غريفش أن الكتاب الأفارقة وفي الهند الغربية عبر تعاملهم باللغة الإنجليزية استعمالاً في إبداعهم الأدبي قد خدموا ـ بصورة أخرى ـ شعوبهم الأصلية بأن عرفوا العالم بمآسي تلك الشعوب واطلعوا على ما فيها من تشوه خلفه الاستعمار ونجحوا في تحديد مواقع الألم والموت والدمار النفسي لشخوصهم، إلا أن هذا لا يعني أنهم كانوا مغربين بين الانتماء للآخر والاتحاد بالذات· في موضوعات الكتاب نجد خمسة فصول تمظهرت حول أولاً: تمجيد الماضي·· مواجهة المستقبل، وثانياً: مراعاة وتواصل الكاتب الأفريقي ومجتمعه، وثالثاً: الطفولة والرحيل·· النشوء في الكاريبي، ورابعاً: الإحساس بالمكان·· تحقيق التفاهم مع الكاريبي، وخامساً الأسطورة والواقع·· البحث عن الشكل وأخيراً الخاتمة· كتب الأفارقة باللغة الإنجليزية منذ وقت مبكر يصل إلى القرن الثامن عشر ومنها كتابات الأسفار لأولاوده ايكويانو· كما بدأت في العقود الثلاثة أو الأربعة الأولى من القرن العشرين تظهر كتابات روائية وشعرية مسرحية أفريقية باللغة الانجليزية بالرغم من هيمنة اللغة الفرنسية والفرانكفونية على أفريقيا·· ولكن كما يبدو أن بداية الخمسينيات كانت حافلة بالمنتج الإنجليزي من ساحة الثقافة الأفريقية وبخاصة كتابات آكموس توتولا 1952 التي تحاورت مع الموروث الأفريقية بلغة إنجليزية فبدأ كمن وضع طريقاً لمن جاء بعده وخاصة الروائي النيجيري شنوا اشبيني صاحب رواية Things Fall Apart، والتي من خلالها يمكن القول بانطلاقة الوعي الأوروبي بأن الأدب الأفريقي الجديد سيكون سجلاً ونتاجاً لحضارة عريقة وعميقة طمسها الاسقاط الحضاري الأوروبي خلال فترة الاستعمار· يقرر غريفش أن الكتّاب الأفارقة الجدد الذين يكتبون بالإنجليزية بدوا وكأنهم يكتبون كرد فعل إزاء الرومانسية الانثروبولوجية التي سبقهم فيها أقرانهم الذين يكتبون باللغة الفرنسية، ولذا تجد أن ـ حسب غريفش ـ فلسفة مفهوم ''الزنجية'' المهمة جداً عند الأفارقة الذين يكتبون بالفرنسية لم تأخذ أبعادها أبداً عند الأفارقة الذين يكتبون بالإنجليزية· من هنا بدأت الثقافات الغربية تتصارع على أرض وساحة عذراء يشير غريفش إلى تأثر بنجامين اكيكا ونيتوك اودواكيان وتي· ام الوكو واوتوزا نزيكو من الكتّاب النيجيريين باشيبي· كما يتناول المؤلف أعمال الكاتب النيجيري الآخر اليش أمادي والكاتب الآخر جيمز نكوكي من كينيا· الروائي والمجتمع منذ أواسط الستينيات بدأ التفكير حول دور الكاتب في المجتمع الأفريقي الحديث، حيث أصبحت مهام الكاتب تتمثل في تأكيد سمو وجمال الثقافة التي تجاهلها أو شوهها الكتاب والمؤرخون الاستعماريون· حيث أصبح الدافع الوظيفي للفن الأفريقي الموروث هو السبب لمعارضة مفهوم ''الفن للفن'' إذ لم تعد تلك النظرية جاذبة في بيئة مجتمع يبحث عن أسلوب جديد لتوصيل صوته للعالم عبر لغة عالمية مهيمنة للحفاظ على الأشكال الموروثة، وربما هنا يتجلى الصراع الثقافي الأكبر في عدم إمكانية نقل الشكل الشعري الأفريقي إلى اللغة الإنجليزية، كما يقول جيرالدمور في محاضرة بعنوان ''لغة الشعر'' بحسب غريفش في كتابه هذا المنفى المزدوج· قرأ غريفش في فصله الرابع ثقافة الهند الغربية عبر أعمال الترينيدادي ميشال انطواني في مجموعته القصصية Griket In The Road· يدخل الباحث من منطلق تغريب الهوية والمكان وعدم تطور الإرث الثقافي والعرقي في منطلقات طفولة الشخصية في مجتمع الهند الغربية هي جذور الاغتراب والمنفى ويشاطره في ذلك الكاتب جورج لامنك في روايته ''In the Castle of my skin'' كذلك ميشيل انطواني في قصته Sandra Street وجميعهم عالج تجربة الطفولة المغربة· لم يعد الإنسان في جزر الهند الغربية يمتلك جزره بشكل روحي حيث ضاعت الهوية والمكان معاً ونشأ الاغتراب·· ذلك ما يبحث فيه غريفش في كتابه المتماسك حقاً ''المنفى المزدوج'' وهو كيفية وآلية وتأثير ضياع الهوية الذي يعني حتماً للمكان وللروح الحيّة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©