الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سوق العرصة.. عبق الزمان "وضَوْعُهُ العَطِرُ"

سوق العرصة.. عبق الزمان "وضَوْعُهُ العَطِرُ"
20 يناير 2007 23:59
عندما كنا أطفالاً صغاراً، كان يحلو لنا أن يرسلنا الأهل إلى سوق العرصة كي نجلب تمرا أو نأتي بالخبز أو الفحم أو الكاز· وربما كان يخالط تلك الفرحة الخوف والقلق من الطريق المؤدية إلى السوق، لأن تلك الطريق لم تكن في ذلك الوقت سوى ممرات ضيقة معتمة بين البيوت (سكيك)، حيث لم تكن نعمة الكهرباء قد وصلتها بعد، اللهم إلا من بصيص من الضوء ربما يتسرب في بعض الأحيان من أحد بيوت الموسرين الذين يملكون طاقة كهربائية لم يكن يحصل عليها إلا من كان قادراً على الدفع· موزة خميس: كان الأهالي في تلك الأيام، يحرصون على عدم إرسال بناتهم وحتى الصبية الصغار إلا خلال النهار، أما معيار التأخر في الوقت في ذلك الزمان فكان قبل آذان المغرب أي قبل أن تغيب الشمس ساحبة وراءها فلول النهار لتترك العالم للعتمة الغامرة· مصابيح ''السبيرتو'' كان أكثر ما يمتعنا عندما أصل مع أخي الصغير أو أختي الصغيرة إلى السوق، هو رؤية الكثير من المصابيح التي تعمل بـ ''السبيرتو''، وكان لها فتيلة تشبه البالون تنتفخ مثل المنطاد، وكانت تشبه الشاش الطبي الذي يستعمل في الإسعافات والتضميد، غير أنها كانت تعطي وهجا قويا يجعل منظر السوق أشبه باحتفال ليلي· كانت البضائع المغبرة تكتسي جمالاً رائعاً في ضوء تلك المصابيح، خاصة تلك العبوات الزجاجية التي تضم الحلويات الخاصة بالأطفال· كنت أتلذذ برؤية الألوان وأشعر بها تحتفي بنا، ويطيب لي أن أشم رائحة العلكة أو الحلوى· ''الرقاق'' و ''الوقافي'' لا زلت إلى اليوم، أتذكر منظر الخباز الذي كان الجزء السفلي منه يختفي في شبة حفرة وتحته مخدة وأمامه الصاج الذي يعمل عليه الخبز الرقاق· وفي الخلف هناك فرن (الخبز الوقافي) وهو خبز إيراني يستخدم فيه فرن مرتفع بشكل يوازي صدر الخباز الذي يلصق العجينة داخله وهو واقف، بينما النار تتلظى في الجزء السفلي، ورائحة الوقافي تعبق في أرجاء السوق· ''دنجو''··· و ''باجلا'' ومن نفس المحل يمكن شراء- الباجلة أو الباقلاء- وهي الفول العريض المسلوق الذي لا يضاف له إلا الملح· كما يمكن شراء (الدنجو) وهي كلمة فارسية تطلق على الحمص (حمص الشام) المضاف له الفلفل الأحمر· وكان هذا الخباز يقوم بإرســال رجل يجول بين البيوت حاملاً على كتفه عصاً غليظة تتدلى من طرفيها حبال في نهايتها سلتان تحمل كل منهما قدراً كبيراً، في أحدهما باجلة وفي الآخر دنجو ويصيح بأعلى صوته مناديا: دنجو··· باجلة حار· أشياء النساء في سوق العرصة كان الخياط مجاورا لبائع التمر والحطب والفحم وبائع السمن والأرز والدقيق· وكانت بعض السيدات اللاتي يفترشن الأرض لبيع بعض المنتوجات البسيطة الخاصة بالنساء مثل البخور وزيوت الشعر والأمشاط المصنوعة من الخشب أو العظم والكحل العربي والمراود والمكاحل، والبضاعة وهو خليط يصنع من المحلب والزعفران كان يستخدم في تعطير الشعر وتمكين الماشطات من صنع التسريحة المناسبة كالزلوف والعجفة· وفي وسط السوق تقبع عربة الحلويات و''العلك'' التي لا يزال شكلها الملون يتراءى لي إلى اليوم· أقدم الأسواق سوق العرصة من أقدم الأسواق الشعبية في الإمارات، بل هو أقدمها على الإطلاق· وسمي بسوق العرصة لأنه يقع بمحاذاة عرصة السوق، وهي أرض فضاء تقع بين بيت النابودة (متحف الشارقة للتراث) ومجلس النابودة والسوق التي سميت فيما بعد بهذا الاسم· والعرصة هي كل بقعة أو ساحة بين الدور واسعة ليس فيها بناء· وكانت تستخدم موقعا لإناخة الإبل (مناخ للركاب) وللبيع بالمفرق والجملة والمقايضات، حيث كان يأتي (الحيريين) ويسمون أهل الحيور وهم سكان الجبل، كما يأتي البدو من بين كثبان الصحراء من مناطق مختلفة بقوافلهم، وكل قافلة تحمل بضائع من منتوجاتهم المنزلية والزراعية، كالحطب والسخام أو الفحم والثمام والخضروات البسيطة، والسمن والزبدة والعسل والغليون أو التبغ، بالإضافة للتمور والدبس ومواليد الماعز والأغنام الصغيرة والدواجن الصغيرة الحية، والأسلحة كالخناجر والبنادق· وكانت المقايضة تغلب على طرق البيع في الخمسينات وما قبلها، حتى بدأ الناس في تداول العملات فحلت محل المقايضة في عملية البيع والشراء· باعة الزمان القديم حين أردنا أن نعرف من هم باعة سوق العرصة في الخمسينات والستينات تحدثنا لإحدى السيدات الفاضلات التي نشأت وترعرت بالقرب من ذلك المكان، وهي مريم الشماّع الصديقة الملازمة لعائلة خالد إبراهيم الجلاهمة الذي لا يزال بيته مثالاً للدور الأثرية والطراز المعماري العربي القديم، وقد تم ترميم هذا المنزل وضمه للمنطقة التراثية بالشارقة· قالت مريم: ''أصحاب المحلات في سوق العرصة كانوا الجد الأكبر لعائلة بن مسّلم ''رحمه الله''، حيث كانوا يتاجرون في الخضروات التي كانت تعتبر نادرة في ذلك الزمان نظرا لبعد الأماكن الزراعية عن الشارقة· ومن الباعة (كوخرديه) وهم عائلة من فارس منهم عبد الرحمن ومحمد وأحمد وقد توفوا جميعهم، والخباز علي، وسيد كباب وهو أحد أمهر من يصنعون الكباب في ذلك الزمان، ومحسن بن عبد الله وعبد الغفور الأنصاري وكان الأخير تاجر تبغ، ومحمود الكراني بائع معدات ومكائن الخياطة، وفهد ومبارك ومسّلم من تجار الخضروات ودرويش هو المحلوي أو بائع الحلوى التي تقدم في المناسبات والأعياد، وهناك محلات كثيرة في السوق المجاور لسوق العرصة، وليسامحني من نسيت ذكرهم من تجار سوق العرصة''· السوق الآن ونترك الذاكرة وحنينها والوجوه التي كانت تعيش في السوق، ونعود إلى السوق في الراهن، وما فيها من محتويات تتناثر في 87 محلاً مختلفة الأحجام، تعرض أنواعاً شتى من البضائع التي تبهر السياح، من المجوهرات والمصوغات الذهبية والفضية إلى التحف المصنوعة من النحاس والبلور والخزف والخشب، إلى اللؤلؤ الطبيعي والعملات الأثرية والتراثية الحقيقية، إلى الملابس والأعشاب الشعبية، والكثير من التمور· في وسط السوق مقهى شعبي دافئ يقدم المأكولات الشعبية والحلويات والشاي بمختلف أنواعه: شاي أحمر، شاي مع الحليب، حليب بالزعتر أو الزنجبيل أو شاي الليمون أو الزعتر بالإضافة إلى القهوة والمرطبات· يوجد لسوق العرصة أربعة أبواب لحماية المحلات من السطو، وهي تغلق في المساء· وتجاورها مجموعة من المحلات شكلت سوقا آخر مجاوراً يسمى السوق القديم وله أزقة، لا يزال من تربى ونشأ هناك يعاود زيارتها المرة تلو الأخرى لتنشق عبير الأهل والأجداد الذين مروا ذات يوم من هناك، فبقيت أصواتهم وضحكاتهم وعرق أبدانهم عالقة في ذاكرة المكان·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©