السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

"أَبا" بيت

"أَبا" بيت
21 يناير 2007 00:01
سعاد جواد: الأفكار المفترسة تنهشني، ذئاب الحقد تعوي في أعماقي، تدعوني إلى طريق الحرام· انها تكبر كل يوم وتنمو كلما مضى يوم جديد في حياتي التعسة، وكلما زادت معاناتي زاد صوت الشر وارتفع بقوة· يا الهي··· كم أشعر بالظلم! هل استحق ما اعانيه؟ يا رب أنا مظلومة وليس لي سواك· إبعد هذا الصوت من رأسي· الشيطان يستغل ضعفي ويوسوس لي بأفكاره الخبيثة التي تتردد باستمرار· أنت غير ملامة··· الإنسان يجبر على سلوك الرذيلة،عندما يفقد قدرته على الاحتمال··· عندما تكون ظروفه أقوى منه··· عندما لا يرحمه المجتمع··· ماذا يفعل؟ هل تقبلين أن تتمرغ كرامتك في الوحل من أجل المال؟ يمكنك الحصول على المال بطرق سهلة فلماذا تترددين؟ ولماذا تخافين؟· هذا الشيطان اللعين لا يكتفي بتوزيع مثل هذه الأفكار على مساحة يومي كله وإنما يعيد لي مشهداً أكرهه بشدة، مشهد وقوفي أمام صاحب المنزل وهو ينتصب أمامي صارخاً ومهدداً ومطالباً بدفع الايجار، ورأسي مطأطئة··· وصوتي مختنق، اتوسل إليه أن يمهلني حتى اتدبر الأمر· يضرب يداً بيد، وهو يعلم جيداً أنني لا أستطيع تدبير الأمر، فيقول: اسمعي··· لقد صبرت عليكم كثيراً· لا تبكي أمامي ولا تشتكي، فكلنا فقراء··· ما ذنبي أنا؟ أريد حقي· لديّ مسؤوليات··· ألا تفهمين؟ ولتعلمي جيداً بأن مبلغ الايجار قد ارتفع ولم يعد كما كان سابقاً، خمسة وعشرون ألفاً فقط··· في العقد الجديد سيكون خمسة وثلاثين ألفاً، فهل أنت مستعدة لدفع مثل هذا المبلغ؟ انصحكم أن تتركوا هذا المنزل وتبحثوا عن مكان رخيص يناسب امكانياتكم، ولن أصبر عليكم أنت واخوتك أكثر مما صبرت، فلكل شيء حد، هل فهمت قصدي؟ ثم يدير ظهره راجعاً وهو يسب ويلعن الساعة التي أجر لنا فيها هذا المنزل· تنهمر دموعي مثل السيل الجارف، فهذا الذي يسميه بيتاً ليس سوى ملحق صغير يتكون من غرفة واحدة وصالة ضيقة، فأين أجد مكاناً أصغر من هذا وأبعد منه؟ يا الهي! ألا يحس بنا أحد؟ ألا يفكر بنا أحد؟ ألا ينقذنا أحد؟ لسنا غرباء على هذه الأرض، فنحن أبناؤها، وكل ذرة من أجسادنا فيها من مائها وترابها، فهل يعقل أن نعاني كل هذه المعاناة لأننا لا نملك شبراً عليها؟ صراع لا ينتهي روحي تفور ويصعد الدم إلى رأسي ويكاد يخرج من عيني، عليّ أن أفعل شيئاً· يجب أن اتصرف· يجب أن أجد حلاً· الوقت يمضي وموعد نهاية عقد الايجار يقترب··· ماذا أفعل؟ الشيطان يدعوني لطريق الانحراف، وهو مفتوح أمامي على مصراعيه، فتاة شابة في الثامنة والعشرين من العمر، لماذا لا تنبذ كل هذه المعاناة وتخطو خطوة واحدة لتحصل على كل ما تريد؟ لن يلومها أحد··· المجتمع هو الذي ظلمها وهو الذي يتحمل الأثم كله· لعنة الله على أبليس وأفكاره اللعينة مثله· لن أرضى لنفسي ذلاً أكبر وأقسى من الذل الذي اعانيه بسبب الفقر والحرمان، لن أعيش حياتي وأنا أكره نفسي واحتقرها· السقوط لا يرتكبه إنسان سوي شريف، ولن أنسى نصائح جدتي الطيبة، بطاعة الله والابتعاد عن الحرام وعن طرق الشيطان· قيم كثيرة زرعتها في أعماقي لا يمكنني التخلي عنها مهما وصلت حالتي، فماذا أفعل إذن؟ شمرت عن ساعد الجهد والاجتهاد وخرجت للمطالبة بحقي في الحصول على سكن حكومي· قصدت الدوائر الحكومية المسؤولة عن سكن المواطنين، قدمت الطلبات، فسقطت في ظلمة الأدراج بلا رجعة، وكلما اتصلت للسؤال عنها قيل لي··· سيأتي دورك··· انتظري··· اصبري ان شاء الله يصير خير، كلمات كثيرة تعبت من سماعها حتى بت مقتنعة بأن هذا الباب لا يأتي منه الفرج أبداً· اتصلت بإحدى الصحف المحلية وحكيت لهم حكايتنا أنا وأخوتي، اسرعوا إلينا، قاموا بتصوير البيت، واطلعوا بأنفسهم على وضعنا المادي السيىء، تم نشر الموضوع فتبعته ضجة كبيرة وردود أفعال كثيرة، أناس يتصلون ويتساءلون، هل هذا معقول؟ مواطنة تعاني كل هذه المعاناة مع أخويها دون أن تجد حلاً؟ هل هذا يعقل؟ نعم يا أهل الخير··· كل ما نشر كان صحيحاً مئة بالمئة، فماذا ستفعلون؟ لا شيء··· ابتعدت الأصوات وبهتت الاتصالات ونسي الأمر وكأن شيئاً لم يكن· لم يعد هناك من يكترث لهذه الإنسانة التي تتمرغ على جمر الحاجة· امرأة محسنة اتصلت، هي الوحيدة التي أثمر اتصالها عن موقف إنساني نبيل، تفضلت مشكورة بدفع ايجار سنة كاملة··· اسكتت ذئاب الخوف لفترة لا بأس بها، ولكن··· ما أن اقترب موعد نهاية العقد حتى عادت تلك الذئاب من جديد وصارت تنهش أعصابي وتدمرني وتقتلني في اليوم ألف مرة· ماذا أفعل ومن أين أدبر الايجار اللعين؟ واذا تركنا هذا المنزل···الى أين سنذهب؟ وفي أي مكان نعيش؟ تساؤلات تعذبني بقوة فلا استطيع أن أجد لها جواباً شافياً· ها هي حكايتنا عشنا أيتاماً أنا وأخواي، ذقنا الحرمان منذ طفولتنا بعد أن تسلط الداء الخبيث على أمي وأبي وجدتي فسلمهم للموت واحداً تلو الآخر· توفي والدي وأنا في الثانية عشرة من عمري بعد أن نهش السرطان امعاءه· تركنا نحن الثلاثة أيتاماً··· أخي الكبير الذي ولد معاقاً، وأنا وأخي الأصغر· ثم لحق الداء بأمي وانتشر في صدرها، ولم تنفعها العمليات التي أجريت لها، ولم تسعفها العلاجات والاشعاعات الكيماوية، فرحلت هي الأخرى وتركتنا لجدتي التي لم يبق لنا سواها في هذه الدنيا· وما أن كبرنا قليلاً حتى مرضت هي الأخرى بنفس الداء الذي هاجمها في حنجرتها فبقيت تعاني الآلام التي لا تطاق· كنت خائفة من رحيلها هي الأخرى فتركت دراستي وتفرغت للعناية بها، معاناة قاسية وسنين مؤلمة مرت عليّ وأنا أحاول جهدي استبقاءها بعيداً عن الموت· أخذتها إلى مستشفيات خاصة بعد أن أخبروني في المستشفيات الحكومية أن لا أمل في شفائها، اقترضت المال كي يعملوا لها عملية على يد أحد الاخصائيين الأجانب، وكنت اتشبث بالأمل كي لا ترحل عنا هي الأخرى ولكن لم أستطع أبعاد شبح الموت عنها فأخذها لترتاح في عالم بعيد عن شقاء الدنيا وآلامها وبقيت أنا وأخوتي لوحدنا· لم أترك الحزن يدمر حياتنا وقررت تحمل المسؤولية، فما ذنب أخوتي اذا لم افعل؟ صرت لهما الأم والأب والأخت، اعتنيت بأخي المعاق وساندت أخي الأصغر كي لا يضيع· أحرقت الأحزان وأشعلت شمعة الفرح والسعادة من لا شيء· تحديت الفقر، تحديت اليتم، تحديت كل الظروف من حولي وجعلت بيتنا سعيداً بأحاديث مفرحة اخترعها من أجل اسعاد أخوي بأي شكل· بلغ أخي الصغير الثامنة عشرة من عمره والتحق بالعمل العسكري في العاصمة، وصار يغيب عنا معظم أيام الاسبوع ويأتينا في نهايته فتمتلىء حياتنا بالبهجة والآمال الحلوة التي نحلم بتحقيقها في يوم من الأيام· ما يتقاضاه أخي صار يتوزع على الديون والقرض البنكي الذي أخذناه في فترة علاج الجدة ودفع الايجار المتأخر علينا، ولسد قسط السيارة التي تأخذه إلى عمله، ولمصاريفه الخاصة، فلا يتبق إلا القليل الذي لا يكفي لسد الايجار، فاختفت الفرحة بعمله وظهر شبح الايجار المخيف الذي دفعني للتفكير بأية وسيلة أعين بها أخي· بحثت عن عمل ولم أحصل عليه بسهولة، فماذا يمكن لفتاة ليس لديها شهادة ان تعمل؟ لقد تركت الدراسة في المرحلة الابتدائية، فماذا أفعل؟ محاولات أخرى قررت العودة لمراجعة الجهات الحكومية المختصة بمنح سكن للمواطنين فوجدت الوعود والكلمات نفسها لا تتغير والموضوع يتطلب انتظاراً عقيماً لا أمل فيه· تلك المراجعات كانت تتطلب مني مصاريف كثيرة، فأنا أقيم في إمارة قريبة من إمارتي لأن الايجارات فيها أرخص، وبالطبع فإن التنقل بين الإمارتين يتطلب مبلغاً ضخماً بالنسبة لي، فكلما كنت أركب سيارة الأجرة، أجلس وعيني على العداد، وضربات قلبي تتسارع مع تكاته· انه جهاز عديم الرحمة يتحرك بسرعة ويحرق قلبي وأعصابي وكل ما في جيبي، وعندما يصل إلى مبلغ معين هو كل ما أملك، اطلب من سائق سيارة الأجرة التوقف، فأنزل وأكمل مشواري مشياً على الأقدام· اتطلع في وجوه الناس، هل كلهم مثلي فقراء ومتعبون؟ أنظر إلى الفلل الكبيرة الفخمة، يالسعادة من يعيش بداخلها، ليت لي مكاناً بسيطاً يظللني أنا وأخوتي، يكون ملكاً خالصاً لنا، لا يطردنا أحد منه، ولا يطالبنا أحد بالإيجار· ليتنا نملك غرفة واحدة نقضي فيها حياتنا بأمان بلا خوف وبلا تفكير وقلق· هل هذا حلم خيالي؟ هل هو شيء يصعب تحقيقه؟ والله لا أدري· قصدت إحدى الجمعيات الخيرية فقاموا بدراسة لحالتنا دراسة مستفيضة ثم قرروا صرف مبلغ خمسائة درهم كمعونة شهرية لنا، والله لست بحاجة لأي مبلغ··· أنا مستعدة أن اجوع وأن ابقى في ثيابي القديمة أعواما متواصلة، ومستعدة لأي شيء ولتحمل كل ما يمكن أن اتحمله، فقط أريد سكناً يؤوينا أنا وأخويّ· سؤال حائر لمذا لا تتزوجي؟ سؤال يكرره الكثيرون عليّ باستمرار· الزواج يوفر لك الاستقرار، يكون في حياتك رجل يعينك وينهي مشاكلك· فأقول لهم: وهل يعقل أن اترك أخويّ؟ أخي المسكين المعاق الذي ليس له في هذه الدنيا سواي، لا أحد يعتني به، كيف اتخلى عنه؟ سيضيع إن فعلت، فهل يعقل أن أكون أنانية وأفكر بنفسي وسعادتي ولا أفكر به؟ ثم ان أخي الثاني لازال صغيراً، هو في العشرين من عمره، لم يقف على قدميه بعد، لم يتزوج وكيف يتزوج وهو لا يملك المال الكافي وليس لديه سكن؟ هل اتركه هو الآخر وأبحث لنفسي عن الاستقرار بعيداً عن المشاكل؟ لقد نشأنا نحن الثلاثة معاً، ذقنا اليتم، ذقنا الجوع والحاجة معاً وارتبطنا برباط المحبة والاخلاص، وهذه نعمة نحمد الله عليها، لذلك فإنني لن أفكر بالزواج والتخلي عن أخوتي حتى لو اقتضى الأمر بقائي عانساً مدى الحياة· محاولة أخيرة نصحني الناس بالاتصال بالمسؤولين الكبار لحل مشكلتي· حصلت على بعض أرقام الهواتف، اتصلت وتحدثت مع بعض الموظفين العاملين لديهم فاعتذروا بحجة أن المسؤولين لديهم انشغالات كثيرة ووعدوني بأنهم سيتصلوا بي قريباً، فانتظرت ولم يتصل أحد، فعدت للاتصال بهم من جديد فسمعت نفس الاعتذارات، فأيقنت بأن الأمر لن يصل إلى أسماع المسؤولين وسيبقى بعيداً عنهم· أخيراً قررت اللجوء إلى هذا الباب، فقد اخبرني البعض بأنه باب مفتوح لكل الهموم، فالله أمرنا بأخذ الأسباب ولربما كان في نشر حكايتي سبباً في حل أزمتي ومشكلتي الخانقة· تساؤلات بسيطة ماذا لو تم بناء مساكن بسيطة بتكاليف قليلة ومساحة معقولة تغطي احتياجات الفقراء من ذوي الدخل المحدود، فتوزع حسب الأسبقية بلا تدخلات أو واسطات بعيداً عن أصحاب النفوس المصابة بالفجع والتي تسيطر على كل شيء ولا تفكر بغيرها ولا ترحم· لا نريد بيوتاً ضخمة ولا نريد مساحات شاسعة ولا نريد قروضاً نعجز عن سدادها، فالأرض التي نحصل عليها تحتاج للمال حتى تبنى ونحن لا نملك ذلك المال، كل ما نحتاج اليه هو بيت صغير ومعقول بلا أية ديون أو قروض· ماذا لو تم بناء شقق يستعين بها أمثالنا على مصاعب الحياة والايجارات المرتفعة؟، نحن فئة ضعيفة مغلوبة على أمرها والدنيا من حولنا تشتعل بلهيب الغلاء الذي لا يرحم، فكيف نقي أنفسنا جحيمه؟ إن المستقبل أمامنا مجهول ومخيف· لسنا حالة نادرة أو خاصة وإنما يوجد من أمثالنا الكثير، ولو تمت دراسة أحوال الناس لعرفت حقائق عجيبة وغريبة لا يمكن ان تصدق· عموماً··· أرجو أن لا أكون قد أطلت عليكم بهذياني، فما كتبت القصة لأتفلسف عليكم فكل ما أريده هو بيت··· يا جماعة افهموني·· أبا بيت·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©