الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لقاء المتعة والمنفعة.. وافتراقهما

لقاء المتعة والمنفعة.. وافتراقهما
12 أكتوبر 2011 20:40
يلتزم الفنان أو الأديب في بناء عمله الفني بأطر الفن وأعرافه التي تشكل حدوده وملامحه المميزة له وكينونته وجوهره، وهذا الالتزام يجعل ما يبدعه الفنان يقع ضمن إطار هذا الفن أو ذاك فيتشكل ضمن فن قولي محدد فيكون شعرا أو نثرا (قصة، رواية، مسرحية، إلخ..). ويسعى المبدع إلى التجديد في أدواته الفنية والتنويع فيها من نص إلى نص ومن عمل إلى عمل، فما قد يصلح في نص قد لا يصلح في نص آخر، وما قد يكون ملائما لمرحلة فنية في عمر الشاعر قد يتبدل مع وعي الشاعر ونضجه فنيا، وقد ينحرف المبدع أو يتمرد ـ بشكل ما ـ على بعض قواعد هذا الفن وأطره، في محاولة للبحث عن التجديد والتفرد والتميز وبعث روح جديدة في دماء الفن، والوصول إلى بصمة فنية خالصة به. الشاعر أو المبدع حين ينطلق لبناء فنه ينطلق وفق رؤية فلسفية تؤطر رؤاه وتصوراته وأفكاره حول كل ما يحيط به، تشكلت هذه الرؤية من خلال الجو الثقافي العام الذي يحيا فيه المبدع أو من خلال ثقافته واطلاعه على فلسفات أخرى تخالف المألوف والشائع والمستقر والمعهود. ولكن ربما كان اعتقاد المبدع بأن له دورا ما تجاه مجتمعه وإدراكه لحدود هذا الدور وطبيعته والغاية المتوخاة منه، ومدى إمكانية تحقيق هذا الدور من العوامل المؤثرة في نتاج المبدع. وهذا الدور الذي ينهض به المبدع يشكل نوعا من الالتزام الوجداني تجاه هذا المجتمع وقضاياه. لأنه من العسير على الفهم أن تثور في المجتمع قضايا مختلفة سياسية أو اجتماعية أو إنسانية أو دينية ويظل الفن عموما بعيدا عنها. إذ ساعتها سيبدو الفنان في برج عاجي منعزل عما حوله، بينما تمور الحياة من حوله، مما يحدث نوعا من القطيعة الوجدانية بينه وبين المتلقين لفنه. بينما لو انخرط الأديب بفنه في قضايا مجتمعه فإن هذا يولد أشكالا من الروابط بينه وبين متلقيه من بني قومه، ويشكل نوعا من الرباط الوجداني والتقارب الشعوري الذي تعمقه هذا المشاركة. فينتفع الناس بالفن وينفعل الفن بقضايا المجتمع. فتتشكل علاقة جدليه بينهما، يأخذ كل منهما ويعطي، يفيد ويستفيد، حين يقبل الناس على العمل الفني لأنهم استشعروا فيه جزءا من روحهم وهمومهم وقضاياهم وآمالهم وطموحاتهم. ولكن قد تكون هناك إشكالية آنذاك وتتعلق بعملية تقييم النص الأدبي من قبل متلقيه، وهي أن يتم التغاضي عن جودة الفن لحساب المنفعة، ويكون الحس العام أو الشعور المسيطر على الجماعة هو المحرك الأكبر في سرعة الاستجابة لعملية التلقي وهذا قد يكون على حساب المستوي الفني الذي قد يخفت أو يبهت لحساب المنفعة الآنية. إذ قد يتم التلقي ليس وفق المعايير الفنية بل وفق أجواء الحدث الظرفي والواقع الآني بما له من أجواء مشحونة بالعاطفة بطبيعة الحال، مما يخلق استعدادا نفسيا وتهيئة وجدانية عالية للقبول بما ينتجه المبدع؛ لأن الوجدان الجمعي مهيأ لحد كبير لعملية التلقي، بل ربما مهيأ نفسيا لاستحسان ما سيقال ما دام سيكون ضمن ما يستهويه أو يشغله من أحداث ومواقف أو يستجيب لتطلعاته وطموحاته، أو يتفق مع أفكاره ورؤاه. وهذا الأمر هو الذي يجعل كثيرا من الإنتاج الأدبي الذي ينتجه صاحبه تحت تأثير موقف عارض أو حادث طارئ، أو أزمة معينة ينال حظا كبيرا من الرواج والذيوع والانتشار، ولكن هذا النتاج نفسه يخفت بحدة أيضا ـ غالبا ـ بمجرد انتهاء الظروف التي أتاحت له الذيوع والانتشار (طبعا المقصود الظروف التي تخرج عن إطار الفن)، إذ هو يدين بالظروف التي أتاحت له الوجود والصعود السريع، ومع زوال هذا الظرف تختفي مثل هذه النصوص من الوجود الأدبي الحقيقي. الفن وظروفه إن الفنان واحد من المجتمع، ولكنه يمتاز دون غيره من الناس برهافة الحس وحدة الشعور وسعة الإدراك والقدرة على صوغ ما يشعر به من خلال إبداعه، فيجعلنا نرى العادي شعريا، وما نعجز عن تلمسه واقعا، ويجعل ما يعمل في نفوسنا ونعجز عن تحديده جليا في لغة شعرية تنبض بالمشاعر، ولكن هل يجب أن يكون الفن مؤديا لرسالة ما داخل المجتمع؟ وهذا الأمر يلقي بنا إلى أمر آخر هو هل الفن يقصد به الإمتاع أم الفائدة؟ أم ينبغي له أو أن يجمع بينهما؟ وإن جمع بينهما ـ إن أمكن ـ أيهما ينبغي أن يكون له الأولوية، هل الفائدة تسبق الفن على أساس أن الفن ينبغي أن تكون له وظيفة يؤديها ورسالة يوصلها؟ أم ينبغي أن يسبق الفن فتتحقق على أساس أن الأصل في الفن هو المتعة وليس المنفعة؟ وهذه التساؤلات تستدعي منا الالتفات إلى بعض الأمور التي ينبغي أن نشير إليها. إن الفنون عموما والأدبي منها ـ وبخاصة الشعري ـ يجب ألا يتحول إلى فن إخباري تقريري، وتكون مهمته الإعلام عن شيء أو الدعوة إليه، وإلا كان البديل عن هذا هو صوغ النص الأدبي (الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرحية ألخ.. في مقال أو كتيب يعبر عن الفكرة بشكل دقيق وموجز ومباشر). إن النص الأدبي هو بناء لغوي، وهذا البناء اللغوي يعني أن جماليات الفن يجب أن تكون هي الأساس في بناء العمل الفني، لأن هذا هو المعول في بناء النص الأدبي، وليس مجرد إرسال رسالة تقريرية، لأن هذا يحول اللغة ذات الصبغة الجمالية إلى فكرة بسيطة ساذجة. يجب التأني عند تناول/ قراءة نصوص أدبية قيلت في ظروف معينة، لأن الباعث على الإعلاء من قيمتها، قد يكون باعثا غير فني، وإنما مبعثه هذا التماهي الوجداني بين ما يحرص الأديب أو المبدع على قوله/ إنتاجه والظرف الراهن؛ لأن الاتكاء على عنصر الظرف قد تدفع إلى بروز نصوص أدبية لم تكن لترقى إلى ما رقيت إليه في أجواء عادية. ولذلك فإن الأديب البارع هو من يستطيع أو يخلص النص من عوامل ظرفية سواء أكان ذلك على مستوى الزمن أو على مستوى المكان أو الأحداث أو الشخصيات ومن ثم تستطيع أن تعيش مدى زمنيا أطول. إن قراءة هذا النوع من النصوص يجب عدم عزله عند قراءته عن الظروف المحيطة به والتي دفعت إلى إنشائه أو أحاطت به، ولابسته، أو كانت الباعث عليه والمحفز له. وهذا ينبغي ألا ينظر إليه على أنه نوع من النقد الفني الذي تم تجاوزه، ولم يعد صالحا لتناول النص الأدبي؛ لأن التخلي عن الظرفية التي تخلق فيها النص وتشكل في أكنافها ومن رحمها كمن يعزل سمكة عن محيطها المائي، ويرى أنه يجب عليها أن تبقى حية نشطة؛ إذ قد تحيل كثير من الكلمات أو العبارات إلى إيحاءات وتلميحات وإضاءات لأحداث ومواقف تثري معاني النص وتثري دلالاته. مفهوم الالتزام قبل الحديث عن مفهوم الالتزام قد يثار سؤال يتعلق بقضية الالتزام بشكل مباشر، أي لماذا يبدع المبدع أو ينشئ نصا أدبيا؟ ولمن يبدع؟ وهذان السؤالان لهما صلة وثيقة بقضية الالتزام. وهذا الأمر له صلة وثيقة بوظيفة الأدب، وهذا الأمر محل نقاش واختلاف منذ القدم، وقد تنوعت تعريفات الأدباء والنقاد لفكرة الالتزام وذلك لاختلاف مذاهبهم ونزعاتهم ومواقفهم من قضية الالتزام، وتصورهم لما ينبغي أن ينهض به الأدب، وإن ظل المضمون متقاربا إلى حد ما. فقد عرفه الروائي الأمريكي نورمان مالر بأنه “نوع من التعاقد أو الارتباط بشيء خارج الذات”. بما يعني أن هناك منطلقا ما خارج أطر الفن ينطلق منه الفنان أو المبدع، وإن بدا الأمر فضفاضا إلى حد ما. ويشير د. محمد غنيمي هلال إلى قضية الالتزام في الشعر فيقول: “ويراد بالتزام الشاعر وجوب مشاركته بالفكرة والشعور والفن في القضايا الوطنية والإنسانية وفيما يعانون من آلام وما يبنون من آمال”. وربما الملاحظة الجديرة هنا هي الارتباط بين الفن والهم الوطني العام، دون أن يجعله مرهونا بحزب معين أو انحياز لفئة معينة أو أيديولوجيا محددة ينطلق وفقها. بينما يجعل د. محمد مصطفى هدارة الأمر على نطاق أضيق فيجعل الالتزام ارتباط الأديب بقيم أو مبادئ محددة تشربها عقله، يقول هدارة بأنه يعني “ارتباط الأديب بقيم أو مبادئ أو قضايا محددة، تشرَّبها عقله ووجدانه، فكل تفكير أو تعبير صادر عنه، يكون في نطاق هذا الارتباط أو الالتزام”. وعرفه الدكتور عبد الرحمن الباشا ـ وهو أحد رواد الأدب الإسلامي ـ بقوله: “هو أن يلتزم الأديب في كل ما يصدر عنه من أدب، فكراً محدداً من الأفكار أو عقيدة من العقائد، أو نظرية من النظريات، أو فلسفة من الفلسفات، سواء أكان ما يلتزم به دينياً أم سياسياً أم اجتماعياً أم نحو ذلك بحيث يكون أدبه نابعاً مما اعتقده ممثلاً لما اعتنقه، غير حائد عنه، أو خارج عليه”. وربما الملاحظة الواضحة في التعريفات السابقة هي وجود فكر ما، أو قناعة ما تجاه شيء ما ينطلق منه الأديب أو المبدع فيظهر في إنتاجه، ويلتزم به طواعية. الغرب والالتزام قضية الالتزام الفني قضية قديمة، ولعل أول من أشار إليها هو أفلاطون الذي كان لا يبيح الشعر في مدينته إباحة مطلقة بل كان يبيح الشعر الذي ينهض بوظيفة تؤدي دورا إيجابيا في مدينته، كأن يكون في تسبيح الله وتمجيده، وفي مدح الصلاح، وفي التعرف على الحقيقة، وقد سجل أفلاطون رأيه هذا في كتابه “الجمهورية”، وبين أنه سيقبل الشعر بشرط أن يكون ضمن إطار القيم والعقائد في مجتمعه الذي ينشده، يقول: “إننا سنسمح لأنصاره وإن لم يكونوا شعراء للدفاع عنه نثرا، ليثبتوا أنه لا يقتصر على بعث السرور في النفوس، بل إنه نافع للدولة وللحياة البشرية، وسنستمع إليه بصدر رحب إذ إنه من المفيد أن يثبتوا أنه يجمع بين بعث السرور في النفوس والفائدة العملية”. بل كان يرى “أن من واجبنا مقاومة إغراء الشعر مثلما نقاوم إغراء المال أو الجاه أو الشهرة” ولكنه رحب بالشعراء الذي يمجدون الأبطال والقدرات الصالحة ويتغنون بالفضائل وأصحابها. ولا يبتعد أرسطو كثيرا عن أفلاطون في نظرته للجانب النفعي في الفن من خلال (فلسفة التطهير) وهي في وجه من وجوها تنظر إلى العمل الفني بمنظار المنفعة حين يطهر النفس البشرية من أدرانها ومساوئها من خلال المأساة. أما الفلسفات المعاصرة فقد اختلفت في نظرتها لقضية الالتزام بين من يرى أن الفن يجب أن يؤدي دوره في الحياة، ومن يرى أن القيمة الحقيقة للفن هي أن يخلو من المنفعة، ولا ينبغي أن يكون فيه سوى المتعة الفنية فقط. ومن هذه المذاهب التي كانت ترى وجوب التزام الأديب بقضايا أمته وهمومها وما يدور فيها الواقعية الاشتراكية والوجودية، والأولى استغلت الشيوعية قضية الالتزام في صورة جبرية للأديب، مما أسهم في صعود كل من يبشر بالمذهب ومبادئه وإقصاء كل من لا يتجاوب مع فكر المذهب أو يختلف معه أو يعاديه. بينما تركت الوجودية ـ خاصة عند سارتر ـ للأديب حرية الإبداع فيما يعتنقه دون أن تفرض عليه شيئا، ولكنه يتحرك فوق رؤيته الخاصة التي تشربها من خلال المذهب الوجودي أيضا، وعلى الطرف الأخر كانت هناك مذاهب حرة ليبرالية ويأتي في مقدمتها مذهب الفن للفن. العرب والالتزام وقضية الالتزام ليست وليدة العصر الحديث وإنما هي قديمة ولعلنا نتذكر أن أفلاطون رفض وجود الشعراء في مدينته الفاضلة، لأنه رآهم لا يصلحون أن يكونوا ضمن بنية هذه المدينة، فهم لا يلتزمون بأخلاقياتها. ومع شيوع المذاهب الفكرية المعاصرة حدث اختلاف شديد وتجاذب بين مذاهب تدعو إلى أن يكون الأدب ملتزما بقيم أو أهداف ما كما في الواقعية الاشتراكية أو مذاهب تدعو إلى أن يكون الأدب حرا حرية تامة وخالصا من أيه أهداف إلا أن يكون للمتعة فقط وهو مذهب الفن للفن. وقد كان رأي أغلب النقاد المعاصرين ورواد النهضة العرب من قضية الالتزام أقرب إلى القبول بفكرة الالتزام ورفض فكرة الإلزام التي تجعل الأدب خادما لفكرة ما، ويغفل حرية الأديب. فبينما نرى طه حسين يلتزم في كثير من نتاجه الأدبي بأفكار معينة، يعمل على نشرها، ويخوض المعارك الأدبية والفكرية في سبيلها إذا به يقول: “وإذن فالذين يقولون: يجب أن يكون الأدب للحياة، ويظنون أنهم يقولون شيئاً جديداً لا يقولون في حقيقة الأمر شيئاً. فكل أديب في أي أمة من الأمم إنما هو يصور نوعاً من أنواع حياتها.. فأما أن يسخر ليكون وسيلة من وسائل الإصلاح أو سبيلاً من سبل التغيير في حياة الشعوب، فهذا تفكير لا ينبغي أن نساق إليه، ولا نتورط فيه. وليس معنى هذا أن الأدب بطبعه عقيم، وأن الأديب أثِرٌ بطبعه، ولكن معناه أن الإصلاح والتغيير، وتحسين حال الشعوب وترقية شؤون الإنسان أشياء تصدر عن الأدب، كما يصدر الضوء عن الشمس، وكما يصدر العبير عن الزهرة”. وهذا يعني أن هناك نفعا من من وراء الادب ولكنه لا يأتي مقصودا لذاته. ويقول في إحدى المناظرات الأدبية: “لسنا محتاجين دائماً أن نتخذ كل شيء وسيلة، وأن نجعل كل شيء غاية. إنما نتخذ الأدب غاية في نفسه. ليس من الضروري أن نسخِّر الأدب لهذا الغرض أو ذاك”. وبينما نرى توفيق الحكيم يعلن عن ضروة ابتعاد الفن عن النفعية لأن ذلك لا يتناسب مع جوهر الفن، يقول: الأديب يجب أن يكون حراً، لأن الحرية هي نبع الفن، وبغير الحرية لا يكون أدب ولا فن”. ويقول أيضاً: “إن مطامع الناس شاءت أن تمتد أياديها الفانية إلى هذا الجوهر السامي (الفن) لتسخره لمدح الحكام من أجل المال والثراء، أو لنشر الدعوة في الدين والسياسة من أجل الثواب أو الجزاء، ولكن كلمة الفن هي العليا دائماً”، ولكنه يستدرك فيقول: “أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أرحب به، وأسلم على الفور بأنه الأرقى، ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان”. وكأنه يعلن عن تعذر ذلك لحد كبير. وتوفيق الحكيم ليقينه بأن الفنان لو علم خطورة ما يكتب او يبدع لفكر مرات ومرات قبل أن يكتب أو يخرج ما كتبه للناس، بمعنى أن هناك وعيا ما بدور الفنان في مجتمعه، ونجد توفيق الحكيم يعلن أن “حرية الأديب لا تتنافى عنده مع مبدأ الالتزام، فهو يريد أن يكون التزام الأديب أو الفنان شيئاً حراً ينبع من أعماقه. إذ يجب أن يلتزم وهو لا يشعر أنه يلتزم” ثم يصرح توفيق الحكيم بأن أدبه في أكثر كتبه هو من صميم الأدب الملتزم. ومن رواد النهضة الأدبية الذين أخذوا بالالتزام الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي الذي التزم بالتصدي لدعاة التغريب في الفكر والأدب، وكان من الداعين إلى أدب الالتزام وضرورة أن ينهض بما ينبغي عليه في المجتمع. ومن كبار الأدباء العرب الذين وقفوا من الالتزام هذا الموقف الإيجابي دون أن يكونوا منضوين تحت مذهب أدبي عقدي أو غير عقدي الأديب الكبير محمود تيمور الذي يقرر أن الرسالة الملقاة على عاتق الفنان ـ أيا كان ـ هي رسالة إنسانية تقتضي منه “الإحساس بالحياة التي يحياها، والتعمق في المجتمع الذي يعيش فيه، وتزكية ما يلتمع في ذلك المجتمع وفي تلك الحياة من مثل كريمة، تدعو إلى حرية وحق وخير وسلام”. ويقول الدكتور شوقي ضيف عن علاقة الأديب بالمجتمع: “الذي لا شك فيه أن الأديب لا يكتب أدبه لنفسه، وإنما يكتبه لمجتمعه. وكل ما يقال عن فرديته المطلقة غير صحيح، فإنه بمجرد أن يمسك بالقلم يفكر فيمن سيقرؤونه، ويحاول جاهداً أن يتطابق معهم، ويعي مجتمعهم وعياً كاملاً بكل قضاياه وأحداثه ومشاكله لسبب بسيط، وهو أنه اجتماعي بطبعه، ومن ثَمَّ كانت مطالبته أن يكون اجتماعياً في أدبه مطالبة طبيعية”. ومن الأدباء الذين نادوا بالالتزام الناقد المعروف محمد النويهي الذي ألف كتاباً سماه “الأدب الهادف” وكان من قوله فيه: “الرسالة الملقاة على عاتق الفنان ـ أيا كان ـ هي رسالة إنسانية تقتضي منه الإحساس بالحياة التي يحياها، والتعمق في المجتمع الذي يعيش فيه، وتزكية ما يلتمع في ذلك المجتمع وفي تلك الحياة من مثل كريمة، تدعو إلى حرية وحق وخير وسلام”. أما الأدباء والنقاد الذين أخذوا بالالتزام منطلقين من مذاهب عقدية متنوعة فقد كانوا فريقين اثنين: فريق يلتزم بالمذاهب العقدية المأخوذة عن الغرب وهي المذاهب الاشتراكية والوجودية والحداثية بصورة عامة، وفريق يلتزم بالتصور الإسلامي الذي جاء رداً على التزام الفريق الأول، وإيمانا بضرورة أن يسود النهج الإسلامي الحياة عامة والأدب بشكل خاص. الأدب الإسلامي إن الأدب الإسلامي أدب هادف ملتزم، بل لا يتصور وجود الأدب الإسلامي دون التزام.. ذلك أننا يمكن أن نعرف الإنسان المسلم بأنه إنسان ملتزم بالإسلام لن والأديب المسلم إنسان مسلم فهو بالضرورة ملتزم بالإسلام.. إلا أن يكون إسلامه اسمياً بالهُويّة فقط، أو لا يكون فاهماً لحقيقة الإسلام. والأديب الإسلامي مسلم أولاً، ثم أديب ثانياً، وليس للأديب ـ كما يقول محمد قطب ـ خصوصية تبيح له أن يخرج عن الإسلام بحجة الموهبة الأدبية، فالموهبة الأدبية لا تستلزم الخروج عن حدود الدين. وفي بدهية الالتزام الإسلامي في الأدب يقول قطب أيضاً: “إن المفروض على المسلم أن يعيش الإسلام في كل دقيقة من حياته. ومن ثم فإن هناك تعارضا واضحا بين الإسلام والمذاهب والفلسفات الغربية في المنطلقات والأهداف تجاه النظر إلى الفن ودوره”. نماذج ممثلة لقضية الالتزام في ما يلي نماذج نصوص فيها التزام دون أن يكون مؤثرا بالسلب على جودة بناء النص والوقوع في شرك المباشرة والتقريرية التي يمكن أن تلصق بالنصوص التي تحمل فكرة ما يراد توصيلها إلى المتلقي. من بين أكثر النماذج دلالة على هذا الموضوع قصيدة “البكاء بين يدري زرقاء اليمامة” لأمل دنقل، والتي يقول فيها: في ما يلي نماذج نصوص فيها التزام دون أن يكون مؤثرا بالسلب على جودة بناء النص والوقوع في شرك المباشرة والتقريرية التي يمكن أن تلصق بالنصوص التي تحمل فكرة ما يراد توصيلها إلى المتلقي. من بين أكثر النماذج دلالة على هذا الموضوع قصيدة “البكاء بين يدري زرقاء اليمامة” لأمل دنقل، والتي يقول فيها: أيتها العرافة المقدَّسةْ.. جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ. أسأل يا زرقاءْ.. عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء.. فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسة! عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!! أو كما في قصيدته لا تصالح رغم النبرة العالية فيها والصوت الجهوري فيها: (1) لا تصالحْ! ولو منحوك الذهبْ أترى حين أفقأ عينيكَ ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟ هي أشياء لا تشترى.. ثم يقول بعدها: هل يصير دمي ـ بين عينيك ـ ماءً؟ أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء.. تلبس ـ فوق دمائي ـ ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟ إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ.. لكن خلفك عار العرب لا تصالحْ.. ولا تتوخَّ الهرب! وينطبق الأمر ذاته على قصائد أخرى مثل قصيدة “رسالة في ليلة التنفيذ” لهاشم الرفاعي، وقصيدة “يقول الدم العربي” لفاروق شوشة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©