الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلطان القيسي: أؤجل موتي

سلطان القيسي: أؤجل موتي
12 أكتوبر 2011 20:40
لا أحد يستطيع تأجيل موته، لكن الشاعر وهو يستنبط معاني الموت الكثيرة ودلالاتها، يتحايل على هذه الفكرة الحاسمة، فالموت لا يقتصر على فكرة نهاية الحياة وخروج الروح من الجسد، هنالك ما يشبه الموت أو يوازيه في حالات متطرفة قاسية ولئيمة وظالمة، كالمنفى واللجوء والهجران وإدمان القلق، وحين يؤجل الشاعر موته ضمن هذه المعاني والمترادفات، فإنما يفعل هذا كي يكسب وقتاً لترتيب محطاته الجافة الحزينة المربكة، ربما ليملأها بالرذاذ أو الندى، أو يملؤها بالوصل وانكماش المسافة، أو ربما حتى تكبر أحلامه ويقوى ساعداه، والشاعر سلطان القيسي يؤجل موته لأسباب كثيرة منها: “لأن مداي يضيق ويصفرّ حين أحث خطاي بعيداً بعيداً عن المقلتين السماويتين، أؤجل موتي لأكمل قبلتي الدامية/ أؤجل موتي ليكبر صوتي قليلاً على ساعديك وأنجو من سطوة الهاوية/ لأنك في كل صيف تكونين لي مهرجانْ/ لأنك وحدك من تملكين عصا صولجان/ لأني إذا ما تخلّت عن الحزن في وجنتيك يدايْ/ أذوب أمام أنايْ.. لأنك نايْ/ لأنك ساحرة حافية/ لأكمل قبلتك الدامية..”، لهذه الأسباب وأخرى غيرها يؤجل الشاعر موته، أي رحيله، هجرته، فرحه وحزنه وعزلته. الشاعر الفلسطيني سلطان القيسي، اختار “أؤجل موتي” عنوانا لديوانه الأول، وقد يتوقف القارئ أو الناقد كثيرا عند مسمى “الديوان الأول”، لينظر إليه بكثير من البساطة، لكن المسألة مختلفة جداً في هذا الديوان هذا الصادر حديثاً عن دار فضاءات للنشر في عمّان، ويضم ثلاث وثلاثين قصيدة، ليفتتح صاحبه به إصداراته، ويزودنا بدهشة من نوع خاص، فهو لا يتعذّر بالإصدار الأول، ولا يتمترس خلف التجربة الأولى، ولكنه يقدم أشعاره بثقة محارب، ولا يتوقف عند التسميات. يقول سلطان القيسي لـ”الاتحاد الثقافي” عن تصنيف الشعراء: “أنا لا أؤمن بكل هذه التقسيمات سواء كانت على صعيد الفئات العمرية أو المترية، فإذا كان هناك شيء اسمه شعراء شباب، فلا بد أن يكون المقابل “شعراء شيوخ” أي عاجزين.. ولا أحد يقبل هذه الصورة فلماذا يقبل الأخرى..”، وبعيدا عن كل هذا، فالشاعر سلطان القيسي قفز عن حواجز تلعثم الانتماء الإبداعي أو الوطني أو الإنساني أو المكاني، ولد كبيراً في القصيدة وفي المخيّم، ويبدو أن قدر الشاعر الفلسطيني أن يولد أباً لأبناء لا أم لهم سو ما يتخلق له في ليله الشاسع، ينثرهم في صفحات ديوانه، يعلمهم ويتعلم منهم، يرعون نموه ويرعى استطالتهم، مستفيداً من تجارب الولادات الإنسانية الكثيرة، عربية وأجنبية، فهو دارس للأدب الإنجليزي، مطلع على الأدب الفرنسي، منشغل بالمسرح، وهذه الثلاثية كفيلة بأن تجعل مشهده الشعري ثرياً، ومضامينه ناضجة، (وأبناءه أذكياء) إذ يتضح جليا أثر المدرسة الرومنسية من حيث أنسنة الطبيعة، وتمسكه بالطفولة/ البياض والنقاء، ورفضه للمنفى الذي يتصارع معه حين ينازله مباشرة، وحين يناجي حبيبته، وحين يمشي في شوارع المدن: أنا يا حبيبة لست سوى جملة هربت من أغاني الحصار وأنت فلامنكو.. وباقة ورد يقول سلطان عن المنفى: “المنفى مشكلته أنه رفيق لئيم لا يجيد الطرفة ولا لعبة الدومينو.. حاولت أن أبني معه صداقة فخانني أكثر من مرة، مع ذلك أنا معنيّ بتجاوزه ومحاولة التعايش معه، فالغريب يحمل المنفى على ظهره أيضاً كما يحمل الوطن”، وينشد في قصيدة أنصاف أحلام: ما هذا الوطن الساكن في وعكتنا الفكرية؟ ما هذا الوطن النافق؟ ما هذا الوطن المتفلّت من بين أصابعنا.. كهسيس الخاطرة صباحاً حين نؤجلها كي ندرك طابور الخبز؟ ما هذا الوطن العجز؟ فهل يؤجل الشاعر موته إلى حين يصبح في وطن حي وليس (نافق)، وفي وطن نمسكه بقوة (بين أصابعنا)، وفي وطن ليس عاجزاً وإنما معجزة؟ يبدو هذا، لأن الشاعر يحمل آلة تصويره ودفتر ذكرياته والسجل اليومي ويخرج للفضاء الخارجي ويغوص في الفضاء الداخلي باحثاً عن أسباب تبقيه حياً، فكما قال الشاعر الكبير الراحل محمود درويش (على هذه الأرض ما يستحق الحياة)، وما يستحق الحياة غير متوفر في حياتنا اليومية، لا في الطبيعة المصادرة المحتلة، ولا في الطفل المنتظر طفولته عند ناصية العمر، ولا الحبيبة التي تحضنا على العشق ونحن غارقون في متاهاتنا، ولا المدن وهي تفلّي أحزاننا ولا تحتوينا، وبذلك، يبقى الشاعر منتظرا لأمر ما، قد يأتيه في رسالة في ظرف أو مظروف، ويستخدم الشاعر هاتين الكلمتين بمعنييهما المختلفين، فالظروف قابعة في المظاريف، ولهذا يفتح ظروفه في قصيدة “جسر على قمر الرعاة”، ويختار المساء كي يكون متوحداً بظروفه الحاضرة والمتوقعة: “لنا فوق هذا المساء ظروف/ سنفتحها واحداً واحداً: هنا خبر مؤلم، وهنا لاجئ مبهم لم تعره الظروف اهتماما/ ولا لم تعره المنايا هوية/ هنا بيت شعر ستقصفه الطائرات بلا أي ذنب/ هنا عاشق متعب كالسحاب يعرج من مهجر نحو آخر/ ويمشي إلى حتفه أو إلى بعثه دون سبب/ وهنا امرأة تنتظر/ وهنا رجل يجمع الليل في قبضة من غبار القوافل/ لا يقصد الموت إذ ينتحر/ هنا ولد سقطت عنه آخر أوراقه/ ليواجه سلطة أبراجه/ ويضيع على رعشة الريح آخر أحلالمه/ ولد يستحم الشقاء به/ ولد تتعرى بكفيه زوبعة الوقت/ يشهر في وجهها شعره.. فيموت قليلا، ليحيا طويلا/ هنا ولد لم يزل يتحرى الظروف ويفتحها واحدا واحدا/ صعبة يا حبيبة تلك الظروف”. الشاعر القيسي يمارس حرية مدروسة في القصيدة، فهو يلتزم الإيقاع في غالب قصائده، ويصر عليه أحياناً مندفعاً برغبة في تحقيق نوع من الطرب الداخلي، وعلى الرغم من أنه أسس إلى جانب صديقيه الشاعرين، علي الزهيري وحسن مريم، ما غدا يعرف بحركة شعراء الحرية، ويعرفها القيسي بقوله: “إنها حركة تدعو إلى التحرر من سوط القصيدة وسوط الاحتلال بأشكاله، إلا القصيدة بالنسبة لي وسيلة وليست غاية.. وسيلة لتصدير الفكرة والنهوض بذائقة المجتمع ونشر الوعي والجمال، لا أؤمن بقصيدة البندقية وحدها ولا بالوردة وحدها فكلاهما يكمل الآخر أنت تحتاج إلى بندقية تحمي بها جنتك و وردة تهديها لحبيبتك. أما عن إيماني بالقصيدة فليس مطلقا، إنما ثمة ثقة كبيرة بها ورهان لا بأس به..هي لا تحرر فلسطين إنما تنشر الوعي والجمال المطلوبين لتحرير الأرض والإنسان أيضاً”، وعلى الرغم من اشتغاله الواعي على بنية القصيدة ومكوناتها وهندستها الداخلية، إلا أنه يقول: “وعن التقسيم المتري ما بين قصيدة نثر وعامود وتفعيلة، فليس لكل هذه التقسيمات معنى إلا إذا كانت القصيدة جميلة.. لذلك أنا أؤمن بتقسيم وحيد: شعر جميل أو شعر قبيح فقط”: الجمال ليس مطلقا في قصائد القيسي، والقبح أيضاً، هنالك منطقة ينحت فيها الشاعر مفردته، يلجأ للجمال في منطقة القبح، ويشاكس القبح في بستان الجمال ليحقق معادلة البقاء، بلغة منسابة، وبجملة غير معقدة، وبوضوح يشي بنضوج الفكرة الشعرية في وجدان الشاعر، بعيدا عن الفذلكة في اقتناص الحالة أو توليف المفردات أو اصطناع الدهشة، ورغم كل ذلك، يبقى في حاجة لأمر ما لتنبت الأغنية: أحتاج إلى ملهاة الخبز وإلى امرأة تتكسر فيها الكلمات لتنبت في داخلها أغنية من وجع الأرض
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©