الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نجوم الغانم تنصب شباكاً للحنين وسيرة الأيام الفالتة

نجوم الغانم تنصب شباكاً للحنين وسيرة الأيام الفالتة
27 أكتوبر 2014 00:51
إبراهيم الملا (أبوظبي) تعود الشاعرة والمخرجة الإماراتية نجوم الغانم في فيلمها الوثائقي «صوت البحر» - ضمن عروض مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بمهرجان أبوظبي السينمائي - إلى إعادة توليف السيرة المهددة بالخفوت لأيقونات الخيال الشعبي، استناداً إلى قلق توثيقي مغلف بنبل شعري ربما، أو بسبب دافع جمالي مقترن بالغيرة المشروعة من أجل ترميم الذاكرة المحلية الآيلة للتحطم والتلف، وهو الدافع الذي بدا جلياً في أفلامها الوثائقية السابقة مثل «بين ضفتين» و«المريد» و«حمامة»، وكأن ثمة إغواءات ونداءات داخلية عميقة، تضع نجوم الغانم وسط تلك المسافة المستحيلة المتأرجحة بين وداعة الماضي، وحدّة الحاضر، أو بين اللحظات الفالتة من قبضة الصورة، والأخرى المتاحة للرصد وإن كانت مشرفة على حوافّها الأخيرة. تشترك الغانم مع الشاعر خالد البدور في اقتناص هذه المديات الإنسانية الشاردة، ضمن وثيقة سينمائية لا تتوسل الشكل الأرشيفي، بقدر إخلاصها للتأثير النوستالجي الغائر في هذه الأرواح الكبيرة، التي تناغمت سيرتها مع سيرة المكان نفسه، فصار لزاما للضمير الثقافي هنا، أن يعيدها للضوء. يتناول فيلم «صوت البحر» خمس شخصيات محلية في إمارة أم القيوين الهادئة والنائية بنفسها عن ضجيج الحداثة العمرانية وزحامها الفائض، بحيث تتحرك هذه الشخصيات أمام المشهدية الباذخة للبحر في لعبة تجاذبات وانتقالات سردية يكون محورها (سيف الزبادي) البحار العتيق وصاحب الحنجرة التي روضت ولعقود طويلة هياج الأزرق الكبير على امتداد سواحل وجزر إمارة أم القيوين. الشخصيات الأربع الأخرى، هي: سعيد الحديري، وحميد الشحي، وسلطان بن غافان، وعلي بن سلطان، والذين ما زالوا ينظرون للبحر كجزء أصيل وجوهري في علاقتهم مع الحياة ذاتها، تلك الحياة التي لا تبرأ جروحها الطارئة والقديمة، إلا بملوحة الماء القريب، الذي صار جاراً وصديقاً ونديماً لهؤلاء المترنحين في نشوة صباهم وطفولتهم وأمكنتهم الأثيرة. يستعيد الزبادي بذاكرة صافية وريانة تلك القصائد الشعبية التي فجرت طاقته الأدائية وموهبته في الغناء والشلات البحرية منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، عندما كانت هذه الشلات ترفع عن مرافقيه في رحلات الصيد ورحلات المقيض إلى منطقة الدور، كل تعب السفر ومشقته، وكأن غناءه المخترق لرهبة الأقدار وتقلبات الموج والريح، هو غناء يهطل من سماء حارسة، ومن كائنات علوية تجعل الهواجس المشتعلة برداً وسلاماً على رواد هذه القوارب. وفي تنقلات رشيقة ومتوازنة نرى كاميرا نجوم الغانم وفي لقطات محايدة وهي ترصد البحار (علي سلطان) عندما يحرث البحر وحيداً وسط حقول (الشبا) الخضراء، التي يجمعها في أوقات الجزر وانسحاب المياه عن الساحل، تماماً كما يجمع المزارع كومة الأعشاب، ليضعها (علي) في النهاية داخل القراقير أو (أقفاص الصيد) كطعم تقليدي لم يعد يستعمله الصيادون اليوم خصوصاً الآسيويين، الذين استعاضوا بأقراص الخبز كبديل عن (الشبا)، الذي يتطلب توقيتاً خاصاً وأماكن معينة للعثور عليه. في المقابل، نرى البحار العتيد سعيد الحديري الذي يمتهن صيد السمك، ويقارن بين الأساليب الشاقة القديمة لهذه المهنة وبين الأساليب الحديثة، التي ساهمت القوارب المتطورة ووجود المساعدين الآسيويين في التخفيف من مخاطر الخسارة في سوق السمك الشعبي، بينما يسرد لنا الباحث والشاعر وصاحب الشلات الشعرية سلطان بن غافان الكثير من تفاصيل العلاقة الحية والحيوية بين سكان أم القيوين الأوائل وبين البحر، ويستطرد بن غافان في نقل الملامح البعيدة لطفولته ولمظاهر الحياة البسيطة المسوّرة بالألفة وبقصص الحب العابرة، وكان مشهد السينما القديمة والمهدمة، التي كانت تعرض أفلاماً هندية وعاطفية آسرة، من المشاهد الملفتة في الفيلم، خصوصاً عند استعادة اللحظات المؤثرة في الأفلام الهندية والأغاني، التي حفظها بن غافان في تلك الفترة المبكرة من حياته، وشجعته على تأليف الشلات الغنائية بإيقاعات شبيهة وبمفردات محلية صرفة. يرتحل فيلم «صوت البحر» أيضاً مع الجهود الكبيرة التي يبذلها الباحث حميد الشحي للحفاظ على التراث والغناء البحري خصوصاً من خلال إشرافه على جمعية التراث والفنون الشعبية بأم القيوين، ومن خلال تدريب الأجيال الشابة على فنون أصيلة باتت آيلة للتلاشي والانقراض لقلة الاهتمام بها ولهيمنة فنون شعبية أخرى عليها مثل فن العيالة والآه الله والفنون الحربية. ولم يغفل فيلم «صوت البحر» الاقتراب من البحارة الآسيويين المحيطين بالشخصيات الرئيسية الذين تخلى أبناؤهم عن هذه المهنة الشاقة التي باتت تمارس اليوم على سبيل الهواية وتزجية الوقت لا أكثر، يبوح الآسيويون هنا بمشاعرهم الخاصة المتماوجة بين ضفتي الأسى والبهجة، والاشتياق لأسرهم والصبر على هذه المهنة الصعبة المعتمدة على مزاج البحر نفسه، والمزدحمة بصيادين دخلاء وجشعين لا يتقنون فنون ومواثيق الصيد. استطاع فيلم «صوت البحر» أن يلم شتات هذه الذاكرات المقرونة بموسيقا الموج، وأن يلتقط تفاصيل غائبة وعصية على القبض، تتعلق بقصص وحالات وانفعالات ومشاهد لا يمكن سوى للعين الداخلية والشعرية أن تنقلها بهذه الطزاجة والنفاذية والتودّد، وبهذا الاشتباك الحميمي مع الكائنات السحرية التي تصل بين الماء والسماء، وتخاطب في لقطات مقربة شغب القواقع وقناديل البحر والطيور السارحة وسط هذه الخيوط والشباك والمصائد الشفافة، التي أحيت نجوم الغانم بكاميرتها المرهفة كل أناشيدها الممتدة بداية من صوت أسطورة الغناء البحري الإماراتي (سيف الزبادي)، وحتى آخر نهمة مشعّة في عتمة الغيب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©