السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

درس في الوفاء

درس في الوفاء
13 أكتوبر 2011 19:28
(القاهرة) - بعدما بلغت مرحلة الوعي والإدراك في طفولتي المبكرة لاحظت شيئاً غريباً في علاقة القرابة التي تربط أفراد أسرتي الصغيرة فأنا أصغر إخوتي جميعاً ولي ثلاث أخوات وعم واحد وأبي وأمي والغرابة تكمن في أن أبي يقول لأمي «ماما»، فكيف تكون أمي هي أم أبي في نفس الوقت وأم عمي وأخواتي، هذا اللغز والتشابك جعلني أفكر كثيراً وأتساءل عن ذلك والمهم حتى لا تجدوا أنفسكم في نفس حيرتي أسوق لكم التفسير البسيط فإن أمي هذه هي جدتي ووجدت نفسي وأنا صغيرة أناديها «ماما» مثل أبي وعماتي وكنت أعتقد خطأ أنهن إخواتي. عرفت أن أبي تزوج أمي لفترة قصيرة لم تكمل العامين واكتشف أنها تعاني من مرض عصبي لم تخبره عنه قبل الارتباط أو تعمدت هي وأسرتها إخفاء ذلك حتى تتم الزيجة فأمي لا تستطيع الوقوف على قدميها فترة طويلة وتحتاج إلى وقت طويل أيضاً بعدما تستيقظ من النوم لتسترد تماسكها وتستجمع قواها وأبي في البداية كان يعتقد أنها كسولة وعندما عرف الحقيقة كان ذلك بمثابة صدمة له وتوجه بها إلى الأطباء وأكدوا جميعاً أن حالتها بلا علاج ولا شفاء منها وسوف تلازمها طوال حياتها إلا أن بعض الأدوية الفعَّالة والغالية الثمن قد تؤدي إلى مساعدتها فقط في تقليل فترة استعادة قواها بعد الاستيقاظ. كان يمكن أن تستمر الأحوال على ما هي عليه بهذه الصورة لولا أن أبي يقيم مع جدتي وإخوته في نفس المسكن فكانوا يلاحظون تحمله لهذه المعاناة وقد لا يسلم الأمر من بعض التعليقات أو الاستنكار وما زاد الطين بلة أن أمي بعدما أصبحت حاملاً بي أقعدها الحمل تماماً ولم تعد قادرة على الحركة حتى قضت غالبية فترة الحمل في بيت أبيها لكي تقوم أمها وإخوتها بخدمتها وأيضاً حتى تتخلص من تعليقات عماتي اللائي كن لا يرضين بخدمتها ربما لأنهن مشغولات بدراستهن وعندما اقتربت الولادة عادت إلى بيت أبي حسب التقاليد ووضعتني ثم لم تستطع أن تقوم برعايتي بسبب ظروفها الصحية وساءت حالتها فعادت إلى بيت أبيها مرة أخرى وأنا في الأشهر الأولى من عمري. لم يستطع أبي الاستمرار في هذا الوضع وبعد فترة لا أعرف مقدارها تم الطلاق بينهما وتولت جدتي وعماتي تربيتي بداية من الحليب الصناعي لأنني لم أرضع طبيعياً من أمي وتفتحت عيناي على الدنيا لأقول لجدتي «ماما» مثل عماتي وكنت أعتقد أنهن إخواتي وقد لقيت من الجميع اهتماما غير عادي عرفت فيما بعد أنه بسب حرماني من أمي التي ولدتني ويريدون أن يعوضوني عن فقدان حنانها وكانت جدتي وعماتي يأتين لي بالحلوى والشيكولاته وعندما تهيأت للالتحاق بالمدرسة اشترين لي أغلى الملابس والأدوات المدرسية والإكسسوارات وكنت الأكثر تدليلاً بينهن. لم أشعر لحظة بأنني أفتقد أمي فجدتي دائماً تضمني بين أحضانها وعماتي يحملنني حتى بعد أن أصبحت في مرحلة الطفولة المتأخرة أي تخطيت سن العاشرة وما زال الجميع يغدقون عليّ بالهدايا والحنان وأرى أنني طفلة محظوظة مدللة وعشت طفولة سعيدة وقد التقي أحياناً بأمي فلا أشعر تجاهها بأي مشاعر فهي امرأة عادية مثل كل من أعرفهن ولا تأثير لهن في حياتي وللإنصاف فإنني لم أسمع من جدتي وأبي وعمي وعماتي عنها أي كلمة سيئة ولم يحاول أي منهم أن يسيء إليها أمامي وإنما كانت القطيعة هي السبب في هذه المشاعر المتجمدة بيننا. حصلت على مؤهل متوسط وتزوجت عماتي كلهن وانتقلن إلى بيوت أزواجهن، وكذلك تزوج أبي وانتقل إلى مسكن مستقل بعيداً عنا وبقيت مع جدتي وعمي وافتقدت عماتي اللاتي كن فعلاً إخواتي وفي كل هذه المراحل وقبل وبعد أن عرفت صلتي الحقيقية بجدتي لم أغير مناداتي لها بلقب الأم وكان هذا هو شعوري الفعلي، ولذلك كان غير المقربين منا يعرفون أنها أمي ولم يكن هذا الأمر يشغل تفكيري لأنه مستقر وأصبحت أتولى كل مهام البيت وقد تعلمت كل فنون الطهو وأقوم بغسل الأواني والملابس وترتيب الغرف فأنا متفرغة وليس لديَّ ما يشغلني. وعندما أقول أمي فإنني أقصد جدتي لأن أمي الحقيقية لا وجود لها في حياتي على الإطلاق. بدأت «أمي» تدخر لي بعض المبالغ والاحتياجات التي قد أحتاج إليها عند الزواج فيما بعد، ولكن هذا الأمر لم يكن يرد على تفكيري الآن فما زلت صغيرة ولم أبلغ العشرين من عمري بعد إلا أن من تقاليد وعادات الأمهات إعداد العدة لتجهيز الفتيات وهن صغيرات حتى إذا حان وقت الزواج تكون مصروفاتهن ومطالبهن قليلة وأعباؤهن خفيفة وغير مكلفة ويتم التفرغ لما هو اكبر مثل الأثاث والمجوهرات والأدوات الكهربائية أما المسكن فهو من مسؤوليات الرجال. أستشعر في عيون أمي خوفاً عليَّ وأحياناً تصرح لي بأنها لن تستريح إلا بعد أن تراني سعيدة ومستقرة في بيت زوجي وأنا أرد عليها بأني لن أرضى عنها بديلاً ولن أتركها وسأبقى معها عمري كله، وتقدم لي شاب غريب عنا لا نعرفه ولم تكن بيني وبينه أي علاقة سابقة وإنما تم ترشيحي له من قبل بعض الأقارب واسترحت له واستراح لي وبعد أن تحرى أهلي عنه وعلموا أنه شاب مستقيم وعلى خلق تمت الموافقة والخطبة. قبل أن يتم زواجي وفي خضم الانشغال بالاستعدادات أصيبت أمي بعدة أمراض منها السكر والضغط والكبد وانشغلنا في التجوال بها بين الأطباء والمستشفيات والعيادات والفحوص والأشعة والتحاليل ولا يكاد يخلو يوم من أحد هذه الإجراءات وأنا أتألم أكثر منها وأشعر بأوجاعها وهي لا تستطيع أن تنام الليل وتتأوه ولا أملك إلا الدموع والدعاء وتسبب ذلك في توقف التجهيز وشراء الأثاث والمفروشات لأن الجميع مشغولون بها وبظروفها الصحية وقد حلَّت الكآبة على بيتنا وغادرته البسمة والسعادة التي كانت ترفرف عليه. أنا وعمي الذي ما زال أعزب تحملنا وحدنا معظم هذه الرحلة الصعبة فأبي وعماتي منشغلون بأبنائهم وأعمالهم وبيوتهم ويقيمون بعيداً عنا وهم معذورون ولا يمكن أن أقول إنهم مقصرون ويزوروننا باستمرار ويشاركون قدر ما يستطيعون بالجهد والمال وأرى في عيونهم أسفاً لعدم قدرتهم على التفرغ والمساهمة الكاملة معنا ومن جانبي لا أشكو هذا كله وإنما أخشى النتائج وأخاف من المستقبل فلا أتخيل أن أفتقد أمي ودموعي لا تفارقني ولا تتوقف. تحسنت حالة أمي قليلاً وأصبحت قادرة على الاستغناء عن المستشفى وعادت إلى البيت معتمدة على الأدوية الكثيرة والمستمرة ليل نهار وان كنت سعدت بذلك إلا أنه لم يبدد مخاوفي ولم أعد إلى حالتي الطبيعية وان توقف البكاء قليلاً واستغلت أسرتي وأسرة خطيبي هذا التحسن الصحي لأمي وأسرعوا في استكمال الزواج واشترطت ألا يتم إلا إذا تمكنت أمي من حضور العرس والحركة والمشاركة في كل الخطوات وبحمد الله تحسَّنت حالتها إلى الأفضل بكثير وأصبحت تستطيع الخروج والتنقل وأشرفت على إعداد الشقة وتجهيزها وهي تزغرد وتنشر البهجة أينما حلّت. تمت الزيجة إلا أنني ما زلت عند مخاوفي فلم تكن سعادتي كاملة وبما يتناسب مع ليلة العمر فحبي لأمي أكبر من رغبتي في الزواج وفي نفس الوقت لا أريد الابتعاد عنها، خاصة أنها تحتاج الآن إلى رعاية أكثر من ذي قبل، ولذلك عدت إليها بعد أسبوع واحد من زواجي لأزورها وأطمئن عليها وبعد شهر دعوتها لتقضي معي أسبوعاً كاملاً بعد أن استأذنت زوجي الذي كان هو الآخر يحبها ولا يمانع من وجودها معنا واستبشرت بموقفه خيراً. زوجي حسن المعشر طيب القلب مريح في التعامل إلى أقصى حد وأنا لا أريد أن أكون أقل منه في العطاء فتفانيت في خدمته وراحته وتلبية كل مطالبه ولم أكن أعتقد أن التفاهم بيننا سيصل إلى هذا الحد خاصة إننا لم نكن على علاقة مسبقة قبل الزواج، وكان من حُسن حظي أن رزقني الله بهذا الزوج وعندما حدثت انتكاسة في صحة أمي توجهت إليها لزيارتها ثم مرافقتها في المستشفى، ولم يكن أمامي أي اختيار آخر واستأذنته في البقاء معها فوجدت منه ترحيباً، بل وتشجيعاً لي كي أقوم بواجبي نحوها وظللت معها بين البيت والمشفى وأعود قليلاً إلى بيتي حتى لا يشعر زوجي بالملل، وكي لا أكون مقصرة تماماً في حقوقه. تطوَّرت الظروف المرضية لأمي وفقدت بصرها من آثار كل هذه الأمراض والأدوية الكثيرة وأصبح لزاماً عليَّ أن أقيم معها بصفة مستمرة فمن البر والوفاء والواجب أن أفعل ذلك ولا أقصر نحوها وهي في هذه الظروف القاسية وتحتاج للرعاية الكاملة ولا يمكن لغيري أن يقوم بذلك وحتى إن وجد فإن مسؤوليتي نحوها أكبر من الجميع، أما عمي فقد أعلن من ناحيته أنه لن يتزوَّج ويترك أمه في هذه الظروف رغم أنه تجاوز الأربعين حتى لو عاش حياته كلها بلا زواج فأمه تستحق التضحية وأنا لم أكن أقل منه استعداداً للتضحية ولو بحياتي. شعرت بآثار الحمل والجنين يتحرَّك بين أحشائي ومرَّت عدة أشهر ولم أعد إلى بيتي، بينما زوجي يتردد علي ليطمئن علينا جميعاً ولم يشك ولم يتذمر، ولكن تناهى إلى مسامعي أن أسرته تمارس عليه ضغوطاً كبيرة لكي يعيدني إلى البيت وأن أترك أمي وعلمت أمي بذلك فألحت عليَّ للعودة إلى بيتي فلم أجد أمامي إلا أن صارحت زوجي بعدم قدرتي على اتخاذ القرار الصعب فلن أترك أمي في تلك الظروف مهما كانت النتيجة ورغم تمسكي به وكي لا أضعه في حرج أمام أسرته طلبت منه أن يطلقني إلا أنه رفض بشدة واستنكر مطلبي الذي اعتبره غير منطقي للحل. المشكلة أنني حائرة وأريد زوجي وأنا مقبلة على استقبال مولودي الأول، ولكن ضغوط أسرة زوجي مستمرة بعنف ووصلت إلى القطيعة من جانبهم لي وله ولأسرتي وأريد أمي ولا أستطيع تركها ولا أفكر في ذلك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©